الماء.. هل نعرف كيف نتعامل معه؟

أكثر من 1.6 مليار شخص في العالم بلا مياه نقية

غلاف الكتاب
TT

الماء سر ومصدر الحياة والحيوية والنشاط، يحتاج إليه كل كائن حي بلا استثناء، لهذا فإن الحفاظ عليه جزء من الحفاظ على حياتنا.. قال تعالى: «وجعلنا من الماء كل شيء حي» (الأنبياء: 30).

في أحد الأيام دخل الزاهد سيد الوعاظ ابن السماك (نسبة إلى بيع السمك وصيده) أبو العباس محمد بن صبيح الكوفي (توفي عام 183هـ) على الخليفة العباسي هارون الرشيد، فاستسقى الخليفة فأتى بكوب من الماء، فلما أخذه قال له: على رسلك يا أمير المؤمنين، لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله تعالى. فلما شربها قال: أسألك: لو منعت خروجها من بدنك، بماذا كنت تشتري خروجها؟ قال: بجميع ملكي. قال: إن ملكا قيمته شربة ماء وإخراجها، لجدير بألا ينافس فيه. فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا حتى ابتلت لحيته.

ونظرا للأهمية القصوى للمياه، فهناك حروب وصراعات قائمة على الدوام في جميع مناطق العالم وبخاصة مع مطلع القرن الحالي، إذ يبلغ عدد الذين لا تتوافر لديهم مصادر للمياه العذبة النقية نحو أكثر من 1.6 مليار شخص في العالم، هذا بالإضافة إلى الملايين وأغلبهم من الأطفال، الذين يموتون سنويا بسبب نقص المياه أو إصابتهم بالأمراض الناتجة عن تلوثها وبخاصة مياه الشرب. ولهذا أقرت الأمم المتحدة مبدأ الحق في الحصول على المياه النقية لجميع البشر ودون مشقة وبأسعار في متناولهم.

حول موضوع المياه، صدر حديثا كتاب «العطش الكبير: سر الحياة والمستقبل المضطرب للمياه» من تأليف تشارلز فيشمان، الذي يستكشف من خلاله علاقتنا الغريبة والمعقدة مع المياه، ويعرض للعديد من الحقائق والمعطيات والإحصاءات الخاصة بالمياه واستهلاكنا لها، في دعوة إلى أن نضعها في اعتبارنا عند استخدامنا لها، وأن نغير من عاداتنا الشخصية في استهلاكنا للمياه من خلال أساليب بسيطة للحفاظ عليها من الهدر المتزايد وخصوصا في هذه الحقبة التي تتسم بالندرة، حيث نستخدم مياه شرب نقية لغسيل مراحيضنا وري حدائقنا دون أي إحساس بالمسؤولية. يقول فيشمان بأن هناك العديد من الحضارات قد توقفت وتحطمت لعدم قدرتها على فهم كيفية إدارة المياه، ويحذر بأن كل شيء عن المياه على وشك أن يتغير، من حيث كيفية استخدامها، والمشاركة فيها وتقدير قيمتها، ويؤكد على أن ما ندفعه في استهلاكنا للمياه لا يغطي التكاليف الحقيقية الباهظة لها، من البحث والعثور والحصول عليها وكيفية التعامل معها ونقلها والتخلص منها، كما أننا لا ندفع تكاليف حماية البيئة التي تمدنا بالمياه في المقام الأول.

في «العطش الكبير» يفحص فيشمان مناطق مختلفة من العالم تعاني بالفعل من نقص المياه، فعلى سبيل المثال في مدينة دلهي الهندية يعرض لملامح نقص وصعوبة حصول الأفراد على المياه هناك، ووقوفهم في صفوف مرتين في اليوم للحصول على مياه نظيفة. ويقول: «هناك أفراد في العالم يعيشون على دولار واحد في اليوم ويحصلون على المياه بالمجان، لكنهم غالبا ما يمضون 2 أو 3 أو 4 ساعات يوميا سيرا على الأقدام للحصول عليها وهي رديئة النوعية، ويعانون من مشكلات صحية كبيرة». ويقول فيشمان بأن شركات مرافق المياه ما زالت تدار بنفس الطريقة التي كانت عليها من 30 أو 40 عاما، والقائمون عليها لا يفهمون ما يحدث في الأنابيب الخاصة بها، وهناك هدر وتسرب يحدث من خلالها. وعندما تصبح مرافق المياه أكثر كفاءة وتسمح لنا التكنولوجيا بأن نرى ما يحدث للمياه في الشبكات سواء كان ذلك في الجامعة أو المصنع أو النظام البيئي كله، فسوف نكون بالتالي قادرين على إدارة المياه بطريقة مسؤولة أكثر ذكاء.

ويستعرض المؤلف في كتابه لأرقام ونسب لتوضيح الاستهلاكات الهائلة للمياه النقية من جانب الأفراد والشركات والمصانع، حيث يقول إن المواطن الأميركي يستخدم يوميا 99 غالونا من المياه لأنشطة مثل غسيل الملابس والاستحمام وتنظيف المرحاض والطبخ، كما أن معدل استهلاك المواطن الأميركي من المياه النقية عند الضغط على سيفون المرحاض بمعدل 5 مرات في اليوم، يبلغ 18.5 غالون من المياه، وهذه الكمية تأتي من 5.7 مليار غالون من مياه شرب نقية، وفي أميركا يذهب يوميا 49 في المائة من المجموع الكلي للمياه إلى توليد الكهرباء، فمحطات الطاقة الكهربائية تستخدم 250 غالونا من المياه لتوليد الاستخدام اليومي من الكهرباء لكل مواطن أميركي، كما أن المياه المعبأة في زجاجات تستهلك موارد مائية هائلة، حيث ينفق الأميركيون سنويا 21 مليار دولار لشراء هذه المياه، تقريبا قدر ما ينفق على صيانة وإصلاح أنظمة مياه الشرب.

ويقول المؤلف إن سعر المياه المنخفض عن القيمة الحقيقية لها يشجع المستهلكين على الاستهلاك دون المحافظة عليها وصيانتها، لهذا يؤكد على أن وضع تسعيرة جديدة للمياه سوف يساعد على صيانة الأمور الأخرى المتعلقة بالمياه مثل النقص فيها والتوزيع غير المتساوي وسوء الاستخدام والهدر، ويضيف: «إن وضع سعر حقيقي ومناسب للمياه سوف يجعلنا نتوقف عن الهدر في استهلاك المياه العذبة النقية في المراحيض وري الحدائق، وعموما سوف يجعلنا نرى ونتعرف على كل الأشياء الأخرى المتعلقة بالمياه».

كما يشير إلى أنه مع بزوغ حقبة جديدة من الاهتمام بقضية المياه، فهناك حاجة إلى أنظمة مياه ذكية ومحاصيل مهندسة وراثيا تستخدم كميات أقل من المياه، مع الترشيد في استهلاك المياه في عمليات الصناعة والإنتاج.

نخلص من هذا الكتاب إلى القول بأن أزمة المياه ليست فقط في قلة مصادرها، بل في إدارة مواردها بصورة عقلانية رشيدة، تحد من الهدر الحادث والمتزايد حاليا فيها، وبخاصة من جانب المستهلكين في المدن، هذا بالإضافة إلى قلة الوعي البيئي ورخص أسعار المياه والدعم الحكومي لها، التي لا تشجع على ثقافة الترشيد في الاستهلاك والاستغلال الأمثل للمياه، والتي تعد من القضايا الأساسية في معالجة نقص وندرة المياه، وذلك لتحقيق التوازن بين الموارد والاحتياجات، بما يكفل إشباعها دون إفراط أو تفريط.

لذلك فهناك ضرورة عاجلة لإعادة النظر في أساليب إدارة الموارد المائية، وتقنين استخداماتها والمحافظة عليها من الهدر المستمر والمتزايد، من خلال إشراك الجماهير، عبر الثقافة والتوعية بأزمة المياه ومسببات الهدر الأساسية، وتحديد تسعيرة جديدة مناسبة للمياه تبعا لكمية وأغراض الاستهلاك، سكنية أو تجارية أو صناعية، فقد يعمل هذا على تحفيز المستهلكين على الترشيد والإحساس بالمسؤولية البيئية والاجتماعية، على أن يصاحب ذلك حملات تثقيفية وتوعوية وتربوية وإعلامية جادة وفعالة واسعة النطاق يشارك فيها جميع أفراد ومؤسسات وهيئات المجتمع، لتسليط الضوء على قيمة وأهمية المياه وحاضرها ومستقبلها وخطورة الاستمرار الحالي غير المسؤول في الاستهلاك، لتغيير أنماط وعادات وسلوكيات المستهلكين، وبالتالي الترشيد الواعي في الاستهلاك للحفاظ على الموارد المائية وحماية البيئة والاستعداد للمفاجآت القادمة في الصراع المتزايد على مصادر وموارد المياه.