ساحة في كتب العالم

تفجير «أركانة» وقع قبل أيام من تخليد الذكرى العاشرة لإعلان اليونيسكو الساحة تراثا إنسانيا

جانب من سحر ساحة جامع الفنا («الشرق الأوسط»)
TT

يوم 18 مايو (أيار) الحالي، سيخلد سكان مراكش والمغاربة عامة، الذكرى العاشرة لإعلان منظمة اليونيسكو ساحة جامع الفنا تراثا إنسانيا. قليلون هم أولئك الذين يتوقفون، اليوم، لقراءة تلك الجمل، التي يتضمنها نصب تذكاري بإحدى جنبات الساحة، حيث توجد لوحة كتبت بثلاث لغات (العربية، الفرنسية والإنجليزية)، نقرأ فيها: «أعلنت منظمة اليونيسكو الفضاء الثقافي لساحة جامع الفنا تحفة من التراث الشفوي واللامادي للإنسانية. تقع ساحة جامع الفنا في قلب المدينة القديمة وتعد ملتقى ثقافيا وفنيا يجتمع فيه فضلا عن سكان الحاضرة، الرواة والبهلوانيون والموسيقيون والراقصون ومروضو الأفاعي والشفاة والعرافون. وتعد كذلك فضاء للتبادل التجاري وفضاء ترفيهيا، كما تعد نموذجا لتخطيط حضري يعطي الأولوية للسكان والتعابير الثقافية واللقاءات والمبادلات. تجسد هذه اللوحة الاعتراف العالمي بالغنى المتميز لهذه الساحة وبالرمز الذي أصبحت تمثله». التفجير الذي هز مقهى «أركانة» في «ساحة جامع الفنا»، أياما قليلة قبل حلول الذكرى العاشرة، أبرز أهمية الحفاظ على الساحة، حتى تبقى عنوانا جميلا لتاريخ مدينة جمعت أجمل الألقاب، من «البهجة» إلى «الحمراء»، هي المدينة التي تنقل بعض الكتابات التاريخية أن المرابطين شيدوها، قبل 11 قرنا، على برج العقرب حتى تبقى دار سرور وحبور.

جامع الفنا هو «جامع ليس كمثله جامع»، و«البيت المعلق فوق رؤوس الخلق». «ساحة الطواف المستفيض». «كعبة كل الأجناس». «جامع بمنابر رمزية تعلوها قامات لا تصدق»، نقرأ في «مراكش: أسرار معلنة»، للشاعرين المغربيين ياسين عدنان وسعد سرحان. على مدى تاريخها، استهوت ساحة جامع الفنا الشعراء والكتاب، كما سحرت الفنانين، فأرخوا لمرورهم منها. ومن أبرز الكتاب العالميين، الذين ارتبط اسمهم بالساحة المغربية، الإسباني خوان غويتيسولو، الذي اختار، في أواسط سبعينات القرن الماضي، الإقامة في مدينة مراكش، بساحة جامع الفنا، ومنذئذ صار يحلو له أن يعرف نفسه بـ«المراكشي».

ونقرأ في موقع اتحاد كتاب المغرب أن اكتشاف ساحة جامع الفنا بتهجينها المفرح للغات والأشكال وتذويبها للفروق والتراتبيات حدث استثنائي في مسار الكاتب الوجودي والإبداعي، الأمر الذي جعله في قلب وريادة مطالبة اليونيسكو بإدخال ساحة جامع الفنا إلى قائمة التراث الإنساني، وذلك لحمايتها من طيش مشاريع إدارية مفتقدة للخيال والحس الجمالي، ومن جشع المستثمرين. وبعد تعبئة عالمية، جند لها كتاب كبار، من أمثال كارلوس فوينتيس وخوسيه بالنتي، استجابت اليونيسكو، واعترافا منها بجهوده منحته شرف كتابة نص إعلان اعتبار الساحة ضمن التراث الإنساني. وارتبط غويتسولو بعلاقة خاصة بمراكش، وحافظ على عشقه لها، وهو عشق ترجمه بتطويع لسانه على الدارجة المغربية ومجالسة البسطاء والأصدقاء بمقهى «فرنسا» والسكن بحي «القنارية»، على بعد خطوات من ساحة جامع الفنا، حيث اعتاد أن يكلم الأطفال كأب، وأن يمشي بين الناس كشيخ وقور.

وتلخيصا لعمق ودفء العلاقة التي نسجها غويتسولو مع سكان جامع الفنا، صار أطفال المدينة القديمة ينادونه «عمي خوان»، أما الكبار فيعتبرونه واحدا منهم، فيما يرى كثير من المغاربة، وخاصة المثقفين منهم، أنه صار مغربي القلب واللسان. وكان غويتسولو أهدى مخطوط «مقبرة»، من أهم رواياته، للمدينة الحمراء، وهي الرواية التي كان استلهم عالمها من فضاء جامع الفنا، بإيقاعاته وأصواته ومتخيلاته، ومن الحرية التعبيرية لكل ما يتحرك في الساحة الشهيرة.

من جهته، كتب الشاعر السوري، أدونيس، في قصيدته «مراكش فاس»:

«جامع الفنا» / فجر في أول الليل،

أم هباء أقدام تلتطم بالغسق؟

نص يتناسل في نصوص

جامع الفنا/

كون مشحون بكهرباء الذكرى».

من جهته، يذكرنا إلياس كانيتي، في مؤلفه الجميل «أصوات مراكش»، بجامع الفنا، سنوات الخمسينات من القرن الماضي، من خلال رواتها: «الرواة هم أكثر من يجلب الناس. حولهم حلقات من المستمعين الأكثر عددا والأشد وفاء. حكاياتهم تدوم وقتا طويلا. يقرفص المستمعون على الأرض مكونين حلقة أولى ولا يقفون بعد ذلك أبدا. يكونون حلقة ثانية وهم واقفون. وهم بالكاد يتحركون، منبهرين ومشدودين إلى كلمات الراوي وحركاته. والرواة عادة ما يتكونون من مجموعات ثنائية، كل واحد منهما يروي جزءا من الحكاية. كلماتهم تأتي من البعيد البعيد، ولوقت طويل تظل معلقة في الهواء أكثر من كلمات الناس العاديين. لا أفهم أنا شيئا مما يقولونه، غير أني أظل واقفا، قريبا من أصواتهم، ودائما مسحورا ومفتونا. وهذه الكلمات التي تقال بحماس، وبأسلوب ملتهب، والتي لا معنى لها بالنسبة لي، ثمينة بالنسبة لذلك الذي ينطقها، وهو غالبا من يكون فخورا بها. إنه ينشدها حسب نغم يبدو لي شخصيا على الدوام. وحين يتوقف، نحس أن ما سيعقب ذلك سيكون رائعا ومليئا بالأحداث والانفعالات. يمكنني أن أتحسس قوة الكلمات، والمعاني الماكرة للبعض منها، أيضا. كانت عبارات الإطراء والمديح تفتنني كما لو أنها موجهة لي. كنت أحس بالخوف في لحظات الخطر. كل شيء كان يدل على رباطة الجأش والحذق، والكلمات الأقوى كانت تطير إلى حيث يريد الراوي أن تتوجه. كان الهواء فوق المستمعين يضج بالحركة، وأنا، الذي لا يفهم إلا القليل، كنت أحس الحياة فوق رؤوس الحاضرين.

كان الرواة، احتفاء بالكلمات، يرتدون ثيابا خاصة، تختلف عن ثياب مستمعيهم. يتخيرون أقمشة رفيعة. بعضهم يرتدون ثيابا من الساتان الأزرق، وآخرون ثيابا من الساتان البني. تلك الثياب تضفي عليهم نوعا من الأبهة، وتجعلهم شبيهين بشخصيات أسطورية، ونادرا ما تتركز نظراتهم على الناس الذين يحيطون بهم، غير أنها تبدو وكأنها مثبتة على أبطال وشخوص الحكاية». أما كلود أوليي، فكاتب آخر استهوته مدينة مراكش فغاص في تفاصيلها، بعد أن عمل بالمغرب في خمسينات القرن الماضي، ليعود إليه مرات كثيرة، بعد ذلك. و«مراكش المدينة»، مؤلف كلود أوليي، هو سفر جميل يضعنا في قلب التاريخ القريب لمراكش، المدينة التي قال عنها إنها «بنيت بطريقة تكون معها المدة التي يستغرقها استجلاء خريطتها مطابقة تماما لمدة الطواف بها». نتبع كلود أوليي عبر صفحات الكتاب إلى أن يصل إلى عمق المدينة الحمراء، حيث «صومعة الكتبية، المنتصبة كسارية سفينة فوق البنايات مرصعة بدائرة ضوء، وبمسلط نور يغلف بضيائه السطوح والحدائق والسهل والصحراء أيضا. إنه الضوء الذي يعيد المترحل إلى مدينة، مدينة الرحل الذاهلين الشموخين الثملين بالحنين للكثبان. مدينة لها إيقاع واحة، فبعد الجولة الطويلة بين الأحجار والأشجار الواطئة، تستنير الدكاكين في لجة الغبار، وتنبجس دقات الطبول بعنفها فجأة في الليل الساخن لساحة جامع الفنا؛ الشياطين ذوو الطاقيات السوداء يتبخترون حالمين بصوت أفريقيا، عيونهم المرفوعة إلى السماء شبه مغلقة، والنور يمتص عبر رنين الجلاجل، الركبتان مثنيتان والقوام منحن يتأرجح في الارتجاج، والأصابع تمسك بتشنج بصفائح الحديد التي تدق بين الأصداف المطرطقة. إنهم الرجال المتنصتون إلى أحراش البادية، المطلقون للأصوات الشاهدة على ما وراء القمم، باعثين بحركات اليدين علامات أصواتهم التليدة.

كناوة، أسياد الطبول يقفون الواحد إزاء الآخر، يرتدون بأجمعهم عباءات بيضاء، والأحزمة الطويلة الممسكة قرب الركبة بالأسطوانة الخشبية، ويدقون على الجلود العصا المعقوفة، بهدوء وفي وقفة واثقة، معفين الآخرين من الإنذار الرهيب، متابعين القفزات عبر التركيز على النبرات الأخيرة ونقل الحركة من مكان لآخر. إيقاعات متقابلة تتخلل النغمة السريعة المسترسلة؛ وبعد الصوت الحديدي الرنان يتدخل إيقاع عابر يضاعف الدعوة إلى تحريك الأعضاء بعنف، وإلى الرجة المسعورة للجسد بكامله في تلك الارتجافة الليلية. إنه طقس المفاجأة: كلهم هنا، ينبثقون فجأة لا ندري من أين، مسرحين الليل من عقاله. إنها همهمة أساسية من همهمات الساحة التي تنقسم إلى مثلثين ينفصلان بتتابع الحوانيت الصغيرة، وكل الأحداث الصوتية تنكتب على هذا المنوال، تنصت لنفسها في العنف القاسي للحوار بين الأسورة الحديدية المتصادمة الصاخبة: أصوات المحركات والحافلات والتاكسيات، كل أنواع الكلام والصراخ، والجرس النحاسي للسقاء يعلن الاحتفال، والأغاني الحزينة هنا وهناك، والتدخل الحاد للغيطة أو ما يسمى ناي الصحراء، والمقطوعات الناشزة التي تنبعث من الكمانات.

لم تستطع الساحة المراكشية أن تبقى بمنأى عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بها، فزوارها ظلوا يتبدلون في عاداتهم وانتظاراتهم، كما أن حكم الزمن لم يمنح «أبطالها»، من حكواتيين ومغنين وغيرهم، مهلة الركون المستمر إلى نفس ما ظلوا يؤثثون به لحلقاتهم وعروضهم، فقصص «عنترة بن شداد» و«الأزلية» و«ألف ليلة وليلة» صارت تترك مكانها، شيئا فشيئا، للأكل والدخان، في وقت طورت فيه المطاعم الشعبية من خدماتها، فصارت تضيف إلى قائمة وجباتها أصناف أطعمة تساير بها تغير حال وأحوال الزوار. لم يشمل تبدل وجه «جامع الفنا» مضمون بعض حلقاتها، فقط، بعد أن «ابتكر» البعض أشكال فرجة جديدة ومعاصرة.

وهكذا، وبدلا من أن يقنع السائح بالاستماع والمشاهدة، بصدد ما يقدم إليه من حكي وغناء، مثلا، صار بإمكانه أن يدخل حلبة ملاكمة ليوجه ضربات خاطفة أو قاضية إلى منافس آخر جاء مراكش، بدوره، باحثا عن المتعة والراحة، قبل أن ترمي به الساحة إلى حلبة التباري. وداخل حلبات جامع الفنا، وعلى عكس قوانين الملاكمة، يسمح لـ«الملاكم» أن يكون من وزن الريشة ويواجه من هو من وزن الخفيف الممتاز أو الوزن الثقيل. كما يمكن أن يواجه طفل في العاشرة شيخا في سن الستين، أو تنازل فتاة في سن العشرين فتى في العاشرة أو أكثر قليلا. أما بالنسبة لمن لا يستطيعون تسديد الضربات أو استقبالها، فيمكن لهم أن يستمتعوا بصيد «المونادا (المشروبات الغازية)» ولعبتي «الغولف» و«البولينغ»، مقلدين أشهر الأبطال العالميين، ممن نتابعهم يتبخترون فوق المساحات الخضراء، في كل فصول السنة، وهم يضربون كرات صغيرة نحو حفر بعيدة. وبهذا، تكون الساحة قد دخلت منطق السوق وثنائية العرض والطلب، مما يؤكد حقيقة أن لا شيء يبقى على حاله وأن دوام الحال من المحال، وأن ساحة جامع الفنا، كما عايشها البعض في الستينات والسبعينات، على الأقل، تختلف عن ساحة بدايات الألفية الثالثة. وبين الماضي والحاضر، تتابع ساحة جامع الفنا حكايتها مع الزمن، ومع التحولات المتسارعة من حولها.

ومع التحولات التي أصابت جامع الفنا، صار بعض الكتاب العالميين المشهورين، ممن هاموا بالساحة ودافعوا عنها حتى صنفت تراثا شفويا عالميا، يكتفون بالجلوس بالمقاهي المحيطة بالساحة، يشربون كؤوس الشاي المنعنع، ويتمعنون في شريط التحولات التي تعرفها الساحة الشهيرة أمامهم، وهي عادة صار يجاريهم فيها بعض المثقفين المراكشيين، مستعيدين أيام «باقشيش» و«ولد عيشة» و«فقيه لعيالات» و«عمر مخي» و«إمداحن» و«عمر واهروش»، وغيرهم، من نجوم الحكي والفكاهة والفرجة في ستينات وسبعينات، وحتى ثمانينات الساحة. وسواء تعلق الأمر بالماضي، مع «الصاروخ» و«باقشيش»، أو بالحاضر، مع «قفازات» الملاكمة و«حفر» لعبة الغولف، فإن الغاية تبقى تقديم فرجة يومية تجعل من جامع الفنا، ساحة مفتوحة على مستقبلها، في وقت ينبه ويحذر كثيرون، من خطر التفريط في رمزية الساحة وصيتها التاريخي والإنساني.