الحب يصنع معجزة المسرح الفرنسي

تنظيم محكم مع حرية كبيرة أنتجا 715 مسرحية في سنة واحدة

TT

خلال عام واحد فقط، أنتجت فرنسا 715 مسرحية، وهو عدد كبير وقياسي في زمن يشكو فيه العالم كله تراجع جمهور المسرح الجاد، ويتسابق النقاد على نعيه والتنظير لأسباب اقتراب وفاته. لماذا تسجل فرنسا استثناء ليس له شبيه؟ هل هي البنية التقليدية للمؤسسات الفنية، أم ديناميكية القطاع الخاص؟ أين السر في المعجزة الفرنسية ليقتدي العالم بوصفتها؟

بينما يلفظ المسرح أنفاسه الأخيرة في عالمنا العربي بسبب مواضيعه الهابطة التي لم تعد تدغدغ الأحلام وتعالج الهموم والأزمات الاقتصادية، التي أثقلت كاهل المنتجين والجمهور، نشهد في الوقت ذاته انتعاشا له في فرنسا، حتى بات يسهم إلى جانب القطاع المسرحي الحكومي في ضخ الحيوية والحياة في المشهد الفني الفرنسي عموما.

هذا ما جاءت لتؤكده العروض الكثيرة التي زخرت بها الخشبة الفرنسية هذه السنة، والتي تمت مكافأة أحسنها خلال حفلة «الموليير» الأخيرة، مسجلة في سابقة أولى من نوعها نجاحا جماهيريا منقطع النظير، حيث تابع فعاليتها أكثر من مليوني متفرج، وتم خلالها ترشيح ستة وثلاثين عملا هي من أحسن ما أنتج.

السنة كانت وفيرة تم فيها إنتاج أكثر من 715 عملا مسرحيا: 272 من المسرح العام الذي تدعمه الدولة ماديا، و443 من القطاع الخاص الذي لا يعيش إلا على إيرادات العروض ولا يحظى من الدولة إلا ببعض الإعفاءات الضريبية. وبين الاثنين يبقى الطفل المدلل هو المسرح التابع للقطاع العام، حيث إنه يحظى منذ سنوات باهتمام الدولة ودعمها المادي المباشر. وهو يتكون من شبكة واسعة من المؤسسات الدرامية، تبدأ بالمسارح الخمسة الأكثر نفوذا في فرنسا. وهي الوحيدة التي تحمل تسمية «مسارح وطنية» أربعة منها توجد بالعاصمة باريس: «مسرح شايو»، «مسرح أوديون»، «مسرح لاكولين»، والأكثر شهرة «لاكوميدي فرانسيز»، والمسرح الأخير، وهو المسرح الوطني لمدينة ستراتسبورغ الواقعة بشمال فرنسا.

بعضها يضطلع باختصاصات معينة: فمسرح أوديون ومسرح لاكولين مثلا يقدمان عروض المسرح المعاصر والأوروبي، الاستعراضات الراقصة بمسرح شايو، المسرح الوطني بستراسبورغ يهتم بإدارة المعهد العالي للفنون الدرامية، أما «لاكوميدي فرانسيز» الأشهر من نار على علم، بفضل مجموعة أعماله الكبيرة المقتبس معظمها من روائع موليير وجان راسين، فهو المؤسسة المسرحية الوحيدة التي تملك منذ إنشائها في القرن الثامن عشر فرقة خاصة بها، علما بأن المسارح الوطنية الخمسة وُضعت منذ إنشائها تحت وصاية الدولة التي تتولى تمويل عروضها بالكامل بميزانية مهمة وصلت سنة 2009 إلى 67 مليون يورو. كما يعتبر مسييروها موظفين سامين في أجهزة الدولة يتم تعيينهم بمرسوم خاص من رئيس الوزراء نفسه.

خشبات القطاع العام الأخرى تسمى «مراكز الدراما الوطنية» (سي دي أن)، ويصل عددها لست وثلاثين، وهي أقل أهمية ولكن أكثر استقلالية، حيث تكتفي الدولة بتمويل 56 في المائة من ميزانيتها. وهي تتمتع بهوية قانونية مرنة تسمح لها بتنويع سبل تمويلها ولا يشترط على من يدير هذه المسارح أن يكون خبيرا في الإدارة، بل يحبذ أن يكون من المخرجين وأن يقوم على الأقل بإنجاز عملين في كل موسم. إضافة للمسارح الجهوية التي تنتشر في المدن المتوسطة والصغيرة وهي تجمع كل أشكال فنون الخشبة وتنشط على شكل جمعيات أهلية للاستفادة من بعض المساعدات، ويبلغ عددها السبعين موزعة في مختلف مدن فرنسا، كما تهتم وزارة الثقافة بتمويل نشاطات فرق مسرحية صغيرة وتظاهرات ثقافية، كمهرجان أفينيون ومهرجان خريف باريس.

لكن الانتعاش الذي أصبح يرافق نشاط الخشبات الفرنسية لا يعود لاهتمام الدولة بهذا القطاع فقط، ولا للتنظيم الذي يميز هياكلها فحسب، بل في جزء كبير منه لحيوية المسرح الخاص، الذي يسهم بأكثر من 60 في المائة من إنتاج الساحة الفنية. وأقل ما يقال هو أن المسرح الخاص في فرنسا يعتبر استثناء آخر يضاف لقائمة الاستثناءات الكثيرة التي يعدها هذا البلد.

في الوقت الذي يعتبر فيه «أبو الفنون» مصدر ربح مادي لكثير من المستثمرين، يبقى المسرح الخاص في فرنسا بؤرة إبداع وفضاء للتسلية والترفيه، كما أنه لا يكتفي بكونه مكانا لاستقبال الجمهور، بل هو أيضا مغامرة محفوفة بالمخاطر والتحديات بالنسبة لرجاله من الفنانين والإداريين؛ حيث إن نموذج المسرح الخاص في فرنسا لا يعرف مساهمة منتجين من الخارج، فتمويل المشاريع الفنية يقع على عاتق المسرح نفسه (من ميزانية المسرح)، أما مديره فيكون إجباريا من الوسط الفني، وهو من يضطلع في نفس الوقت بمهام المنتج المنفذ، والمسؤول الأول عن اختيار الأعمال والمشاريع الفنية، وهو من يدافع عنها ويتابع تطورها بعيدا عن نفوذ المنتج (صاحب المسرح). وهي وضعية تختلف عما هو معمول به في مسارح «لندن» و«نيويورك» التي لا تكون فيها المسارح سوى «فضاءات» و«أماكن» تستقبل العروض الفنية دون أي مغامرة أو تدخل من المؤسسة الدرامية، والتي تكون فيها حرية المخرج محدودة بسبب نفوذ المنتج أو الممثل النجم.

لكن المسرح الخاص هو أيضا قطاع اقتصادي مهم تصل إيراداته السنوية لـ150 مليون يورو ويُوظف أكثر من مليون عامل مستدام وألفي عامل بالقطعة. وهو قطاع ينمو وينتعش بفضل تنظيم محكم وروح التعاضد التي تجمع أعضاءه. فنرى المسارح الثلاثة والخمسين التي تنتشر في باريس، وتنشط على شكل تعاونية مهنية بعلامة مميزة تحمل تسمية «اتحاد المسارح الباريسية»، تضمن جودة العروض وشروط الرفاهية والراحة في القاعات.

وكان هذا الاتحاد قد لجأ منذ ستينات القرن الماضي لإنشاء «صندوق دعم مالي» لمساعدة المسارح الأعضاء في الاتحاد وحمايتها في حالة أزمات مادية مفاجئة. المسرح الخاص هو أيضا قطاع لطالما استفاد من رعاية رجال أعمال وأثرياء وضعوا فيه ثقتهم، يحركهم حب المسرح الراقي والفن الجميل فوق كل اعتبار مادي، في الوقت الذي يستثمر آخرون في البورصة والعقارات ويركضون فقط وراء الربح المادي. أهمهم المليونير فرانسوا بينو الذي ترك شركاته واستثماراته لابنه هنري فرانسوا (زوج الممثلة سلمى حايك) ليتفرغ لهواياته الفنية. فهو إضافة لكونه أهم جامع للتحف الفنية المعاصرة في العالم والمساهم الرئيسي في دار«كريستيز» للمزادات الفنية، وصاحب معرض قصر غراتسي بالبندقية، أيضا من وضع يده على مسرح «مارينيي» أكثر الخشبات حيوية في الساحة الفنية الفرنسية.

حبه للمسرح جعله يستثمر فيه دون حساب، فرغم العجز في ميزانية مسرح «مارينيي» الذي وصل للمليون يورو، فإنه طلب من مديره «بيار لسكور» المحافظة على برمجة طموحة ذات مستوى فني عال، وتم تقديم أعمال لا تظهر عادة إلا في المسرح الحكومي، كأعمال «جورج فيدو» و«شكسبير» و«سيلين»، ولم يكتف بالأعمال الكوميدية التي قد تضمن له عائدا ماديا وفيرا.

هناك أيضا منتج المشاهير، جان كلود كامو، الذي وضع يده على اثنين من أشهر المسارح الخاصة وهو مسرح «لا مادلين» ومسرح «بورت دو سان مارتن»، ورجل الأعمال جان مانويل بيجون، الذي اشترى ملكية مسرح «لا فريتي» سنة 2004 وهو على حافة الإفلاس، وحوله اليوم لمؤسسة مزدهرة تحقق إيرادات تصل لخمسة ملايين يورو.

كما أن المسرح الخاص الفرنسي الذي لا يحظى بمساعدات حكومية قد عرف كيف يطور وصفاته الخاصة التي تسمح له بالاستمرار: من تمديد فترات العروض الناجحة وتأجير المسارح نهارا، إلى الاعتماد على عدد محدود من الممثلين للتقليل من النفقات، واقتباس أشهر الأعمال السينمائية والأدبية.

وعلى الرغم من اختلاف النموذج الاقتصادي الذي يقوم عليه كل من المسرح الخاص والمسرح الحكومي في فرنسا، فإن «التكامل» يميز العلاقة بين الاثنين؛ فالفنانون ينتقلون بين القطاعين دون أي عقد وكثير من المسارح تأخذ على عاتقها إتمام عروض المسارح الأخرى أو إعادة عرضها من جديد، لا سيما أن المسارح الخاصة لا توجد إلا في باريس، بينما تحظى المسارح الحكومية بتغطية وطنية كبيرة. على أن أهم أسرار هذا الانتعاش يبقى حب «الفن الراقي» الذي يحرك كلا القطاعين.