في عصر «الرواية» السعودية.. ماذا بقي للقصة القصيرة؟

خلال السنوات الـ3 الأخيرة: 156 قصة قصيرة مقابل 215 رواية و198 ديوان شعر

TT

حتى وقت قريب، كانت القصة القصيرة أكثر أدوات الإبداع استيعابا للحراك المحلي الثقافي والاجتماعي المحدود في السعودية، لكن منذ نهاية تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة بدأت تتراجع. وأصبحت الرواية طاقة جديدة تستوعب الحاجة للحكي وتوفر فرصة أوسع لمشهد يضج بالتحولات.

وكما أن لكل ولادة مخاضها وألمها، كانت دموع السرديين تذرف على فن يتلاشى عبر الأيام، لم تنافسهم الرواية فقط؛ بل التقنيات المعاصرة التي جعلت الفضاء يمتلأ بالتعبيرات المبتكرة التي لا علاقة لها بالقصة وتقنياتها.

بعد أن كان الإنتاج القصصي في المقدمة، صار اليوم في المرتبة الثالثة بعد الرواية والشعر، حيث صدر في السعودية خلال السنوات الثلاث الأخيرة 156 قصة قصيرة، مقابل 215 رواية، و198 ديوان شعر.

وفي التحقيق التالي، تتحدث مجموعة من القاصين والباحثين السعوديين، عن واقع القصة القصيرة في السعودية.

* الباحث خالد اليوسف: حية لا تموت

* الباحث والقاص السعودي خالد اليوسف، الذي أصدر دراسة في ثلاثة أجزاء تحت اسم «معجم الإبداع الأدبي في المملكة العربية السعودية: دراسة تاريخية ببليوغرافية ببلومترية»، يشير إلى أن القصة القصيرة في السعودية ما زالت تسير جنبا إلى جنب مع الشعر والرواية ولم تتراجع في كتابتها ونشرها وإصدار المجموعات عما كانت عليه، مؤكدا أن «التواري» يعود إلى الإعلام الثقافي والحركة النقدية التي لم تستطع مسايرة كل هذا الإنتاج.

وقال اليوسف لـ«الشرق الأوسط»: «توقفت الأقلام الدارسة والناقدة والمستعرضة عن متابعة حركة الإبداع»، ويضيف أنه «بالنظر إلى ما يصدر كل عام من القصة القصيرة والرواية والشعر، فإنه صدر في 2010 عدد 62 مجموعة قصصية، و86 رواية، و82 ديوانا، فيما صدر في 2009 عدد 42 مجموعة قصصية، و65 رواية، و66 ديوانا، في الوقت الذي صدر فيه في عام 2008 ما يقدر بـ55 مجموعة قصصية، و64 رواية، و50 ديوانا».

أما في ما يتعلق بأكثرها سرعة وتأثيرا في معالجة القضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وحتى السياسية، قال اليوسف: «عُرف عن العرب سرعة التفاعل والبديهة والقدرة التلقائية والتعبيرية، وهذه لا تتأتى إلا للشعر الذي يحتاج إلى هذه الطاقات. أما القصة القصيرة، فإنها تحتاج إلى التفكير والتأمل والكتابة بعقل حاضر دون عاطفة ولهذا تأتي في المرتبة الثانية».

وأضاف: «الرواية صناعة وخلق عالم مختلف تماما عما هو في القصة القصيرة والشعر.. الرواية معرفة وعلم وجدل وفلسفة ورؤى وفنون.. ربما واقع غير موجود، وربما هي لعالم متخيل يراد ويحلم بوجوده وتكوينه! ولهذا يأتي الشعر، ثم القصة القصيرة، ثم الرواية».

إلا أن اليوسف يلاحظ أن هذا الترتيب لم ولن يؤثر على مسار القصة القصيرة، لأنها استطاعت أن تحتوي عوالم اللحظة والدهشة والموقف، وهي التي أبرزت المكان وخصوصيته، ورسمت ملامح الشخصية بكلمات محدودة مركزة، وعالجت كثيرا من المواقف التي لا تحتاج إلى صفحات كثيرة.

وكان اليوسف أصدر في وقت سابق كتابه «أنطولوجيا القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية» ويجمع الكتاب، وهو أول «أنطولوجيا» للقصة القصيرة في السعودية، تراجم لـ191 كاتبا وكاتبة، وكان أبرز من ترجم لهم اليوسف: عبد العزيز مشري، سباعي عثمان، عبد الله بامحرز، عبد الله جفري، عبد الله السالمي، عبد الله سعيد جمعان، هديل الحضيف. ومن الكتاب المعاصرين: إبراهيم الناصر، عصام خوقير، طه الصافي، يحيى الساعاتي، محمد علي قدس، محمد الشقحاء، حسين علي حسين، جار الله الحميد، عبد الله العريني، جبير المليحان، ناصر الجاسم، منصور المهوس.

في هذا الكتاب يرى اليوسف أن الصحافة كانت تعد النافذة الوحيدة للنشر، حيث صدرت أول مجموعة قصصية لأحمد عبد الغفور عطار بعنوان: «أريد أن أرى الله»، وذلك عام 1946. ثم توالى صدور المجموعات القصصية ليصل عددها حتى عام 1964م إلى خمس عشرة مجموعة قصصية.

ويرى أن دخول المرأة إلى الساحة القصصية، أشعل فتيل الحماس، حيث بدأت المرأة تنافس الرجل في الكتابة القصصية، مما أحدث تغييرا شاملا في مفهوم الكتابة القصصية، الذي أثر بدوره على حركة النشر، فبعد خمس عشرة مجموعة قصصية لفترة التأسيس فقط، وصل النتاج القصصي إلى خمس وثلاثين مجموعة، وهي الفترة الثانية للتطور الفني للقصة القصيرة السعودية التي انتهت في عام 1979.

وفي المرحلة الثالثة التي امتدت من عام 1980 حتى عام 1990، تجاوزت المجموعات القصصية التي صدرت لكتاب سعوديين 110 مجموعات قصصية.

في حين بدأت المرحلة الرابعة مع بداية أحداث حرب الخليج الثانية، التي أثرت على كتاب القصة القصيرة، فتوقف كثير من روادها في فترة الثمانينات، وتحول بعضهم إلى مجالات الحياة الأخرى.

* د.مطلق البلوي: لا شيء يضعف الإبداع

* الروائي والباحث، الدكتور مطلق البلوي، لا يرى أن التقنيات الحديثة ستضعف الاهتمام بالأدب، حيث إن «العمل الإبداعي يفرض نفسه حتى على المبدع، لارتباطه بأحاسيسه ووجدانه، وبالتالي، تكون مسألة المعالجة غير ذات بال في هذا السياق؛ على الأقل في ذهن المبدع».

أما المتلقي، فسواء أكان قارئا أم باحثا، فهو «قد يرى في هذا النص القصصي أو الروائي ما يلامس قضية من القضايا الاجتماعية أو السياسية أو نحوها» ويضيف: «يمكن أن نشير إلى مسألة مهمة، وهي مسألة التأويل وآلياته وما يمكن أن يأتي به من آفاق عديدة لنص إبداعي حسب من يقوم بهذا التأويل، وما أدواته المعرفية والثقافية لاجتراح هذا التأويل».

في هذا السياق، يرى البلوي أن هناك عودة لكتابة القصة القصيرة المحلية، وذلك لاستمرار الكتّاب في كتابتها منذ أيام الثمانيات الميلادية في المشهد المحلي الثقافي نتيجة لظهور الطفرة الاقتصادية في أواخر السبعينات الميلادية وتجلياتها المختلفة.

ويقول البلوي، إن بروز الأعمال الروائية أكثر من الكتابات القصصية أو ما يسمى «الطفرة الروائية» وازديادها في فترة ما بعد التسعينات الميلادية، يعود أيضا لأسباب تتعلق بحراك المجتمع المحلى واعتقاد كثير أن كتابة الروائية قد تتناسب مع ما يمكن كتابته من عوالم متعددة لنص روائي مشرع يقبل هذا التعدد ويجعل المبدع ذا نفس مفتوحة على فعل الحكي والحديث عن تفاصيل أكثر من النص القصصي.

لكن البلوي يلاحظ، أنه رغم طغيان الرواية على المشهد الأدبي، فإن النص القصصي الأخير أصبح يكتب عبر محاولة حقيقة في التجريب لمن يمتلك الأدوات المناسبة لذلك ويعي آلياته وشروطه في الإبداع، وقال: «ولعلي أشير هنا إلى تخوفي من فقد البوصلة الفنية عند قراءة السرد من كثرة الكتابات وقلة البحوث النقدية المواكبة لهذه الكتابات»، ويضيف: «أمر آخر؛ وهو أن كتابة النص القصي الحديث أخذت أبعادا مختلفة في طرق مواضيع تتوافق مع طبيعة المجتمع المعاصر وتعقيداته، فالمبدع ابن مجتمعه مع ما يمتلكه من أدوات ثقافية قد تجعله متعديا أكثر من الآخرين في فهمه ورؤيته لذاته وللآخرين وللعالم أجمع».

* هيفاء الفريح: الرواية أسهل طرق الشهرة

* أما الأديبة السعودية هيفاء الفريح، فقد أقرت بوجود تدفق روائي كبير في ساحة الأدب السعودي، يوازيه تدفق شعري قديم بشقيه الفصيح والعامي، وبأنواعه المتعددة؛ سواء أكان عموديا أم تفعيلة أم حرا، وأمام هذين التيارين ترى الفريح، أن الأقصوصة تقدم رجلا وتؤخر أخرى.

واستدركت الفريح، بأن هذا لا يعني على الإطلاق التفوق الفني لجنسيْ الرواية والشعر على الأقصوصة، «لأن موجة الرواية في مشهدنا المحلي أصبحت الموجة الأسهل والأسرع لطريق الشهرة، سيما إن كان فيها اختراق للتابوهات، بينما الشعر، هو الفن الذي لم يرتبط توهجه أو انطفاؤه بموجة ما؛ وإنما حسب ما تأتي به الموجة من لآلئ أو زبد يذهب جفاء».

أما على الصعيد العالمي، فترى الفريح أن القصة القصيرة ما زالت محتفظة بوهجها، مستشهدة بالاحتفاءات التي تهتم بالقصاصين وترجمة مجموعاتهم القصصية، «فالقاصة جوما لاهيري مثلا تُرجمت مجموعاتها إلى تسع وعشرين لغة، والقاص جيس رو حصد جوائز عدة.. وغيرهما كثير».

وتعتقد أن جميع الأجناس الأدبية، قادرة على معالجة القضايا الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية، «وبالنسبة إلى القصة تحديدا، فإنها هي التي تكفلت بنقل جل الفكر الروسي إلى جمهور المتلقين»، مشيرة إلى أن التاريخ الأدبي عرف عددا من القصص التي كان لها تأثير بالغ في الفرد قبل المجتمع، «فروايتا (كوخ العم توم) لهيريت ستاو، و(الجذور) لأليكس هيلي، ساهمتا في تحرير العبيد، وأوقفتا التمييز العنصري في أميركا إبان تلك الفترة».

* منيرة الأزيمع: أكثر معاصرة ودقة

* الباحثة والقاصة منيرة الأزيمع، تقول إن الساحة الثقافية تشهد طفرة في الأعمال الروائية والسردية أيضا، وهي حالة صحية بكل ما يبدو عليها من سلبيات، «ولست قلقة على مستقبل القصة رغم الإغراق الروائي، لأن لكل فن سحره وجماله، وأرى أن القصة أفضل حالا من الرواية رغم وجود مبدعين في كتابة الرواية، ورغم قلتهم لدينا، فإن القصة لا تعاني من أي من مشكلات الرواية».

ولا تعتقد الأزيمع أن هناك قطيعة حدثت بين القصة القصيرة وكتابها: «القصة القصيرة لم تخسر أبدا من يكتبها»، وتقول إنها لا ترى أن هناك احتفاء بالقصة القصيرة، «لكني أرى العكس؛ فالقصة القصيرة تعاني من قلة شعبيتها عند جمهور القراء والنقاد إذا قارناها بالرواية».

ومع هذا، ترى الأزيمع أن القصة القصيرة أحسن حالا من أي نوع أدبي آخر منذ نشأتها، وهي تسير بخطى واثقة، وأنها «لم تعان من أي مشكلات مثل غيرها من الأجناس الأدبية، فهي كما ترى تحظى بالاحترام، وكتابها مخلصون لها».

وأكدت أن الإبداع هو من يصنع التغيير وليس فقط التأثير فيه. و«أدبيا عُرفت القصة بأنها أكثر معاصرة ودقة في معالجة القضايا التي تتناولها، وتحليلها بشكل دقيق أكثر مما تفعل الرواية».