عبد الله عبد الجبار: رومانسي أيقظته صفعة السياسة

شيخ النقاد السعوديين يرحل في صمت

عبد الله عبد الجبار
TT

يعتبر عبد الله عبد الجبار، شيخ النقاد السعوديين الذي توفي السبت الماضي أحد أهم الرواد في مجال الفكر والأدب والنقد السعودي، كما أنه مثل مرحلة مهمة في تاريخ الأدب السعودي، كان فيها أحد طلائع النهضة الأدبية والفكرية التي شهدتها السعودية في مراحل مبكرة من تأسيسها.

وينتمي شيخ النقاد السعوديين إلى جيل عرف بريادته في الأدب والمسرح والشعر، بينهم أحمد السباعي وعبد القدوس الأنصاري.

والمفارقة في حياة الراحل عبد الله عبد الجبار، أنه رغم التصاقه بالتجارب الأدبية، واحتكاكه بمختلف التيارات والمشارف الفكرية، وتنقلاته بين دول العالم، فإنه توفي عن 91 عاما دون أن يتزوج أو يبني أسرة خاصة به، رغم أن أحدا لم يصنفه انعزاليا أو انطوائيا عن الحياة العامة.

ساهمت ولادته في مكة المكرمة، التي كانت في القرن الماضي تشهد حركة علمية وأدبية متقدمة عن بقية أرجاء الجزيرة العربية، في إذكاء وهج العلم لديه، كما أن دراسته الأولى على أيدي سيدة مكية جعلته أكثر انفتاحا وتسامحا.

وقد ولد الراحل عبد الله عبد الجبار في حي «سوق الليل» المتاخم للحرم المكي في مكة المكرمة عام 1919، وتلقى تعليمه الأولي في المدرسة الفخرية العثمانية بالمدينة المقدسة، كما درس الابتدائي والثانوي في مدرسة الفلاح، ثم سافر ضمن البعثة السعودية الثانية إلى مصر عام 1355هـ (1935) والتحق هناك بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول بالقاهرة. وحصل على شهادة الليسانس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية عام 1359هـ (1940). وعمل بعدها مدرسا في مدرسة تحضير البعثات، كما عين مديرا للمعهد العلمي بمكة سنة 1947، ثم مديرا للبعثات السعودية في القاهرة سنة 1950، وأتاحت له الإقامة في القاهرة التعرف على الحياة الأدبية التي نشطت هناك في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وتولى أمانة «رابطة الأدب الحديث»، وكان له صالون أدبي أسبوعي يلتقي فيه نخبة المثقفين والأدباء، وكان مكانا يلتقي فيه رواد الأدب والفكر من السعوديين وغيرهم، أمثال، حمزة شحاتة، وعبد الله القصيمي، ومحمد سعيد بابصيل، وعبد الله خطيب، وحمد الجاسر، وإبراهيم فلالي، وبعض طلاب البعثات الجامعية - آنذاك - مثل عبد الله أبو السمح، وعبد الرزاق حمزة، وعابد خزندار. وكان من بين طلاب البعثات في ذلك الوقت، أحمد زكي يماني، وإبراهيم العنقري، وأحمد صلاح جمجوم، وعبد العزيز الخويطر، وحسن نصيف، وأحمد محمد علي.

عاش الحيز الأكبر من تجربته في مصر، وتعتبر تلك المرحلة من شبابه حافلة بالتقلبات السياسية التي انعكست على الحياة الثقافية والأدبية، واقترن مبكرا بالتجربة السياسية في مصر ما بعد ثورة يوليو (تموز) سنة 1952، وتأثر فكريا بالمد القومي والناصري الجارف آنذاك. لكن تأثيره على جيل البعثات السعودية التي كان يشرف عليها في القاهرة كان عميقا، خاصة أنه مثل مركزا لاستقطاب الشبان الجدد عبر صالونه الثقافي الذي كان يقيمه في القاهرة.

وعلى الرغم من حماسه القومي، فإن عبد الله عبد الجبار تعرض في عام 1967 وعلى أثر هزيمة يونيو (حزيران) للاعتقال في السجون المصرية لنحو 10 أشهر، وخرج من السجن كسير الكبرياء، وهو يجد نفسه ضحية الشعارات الكبيرة التي آمن بها، وحين تم الإفراج عنه غادر القاهرة إلى لندن، عاش خلالها في منزل متواضع يقدم فيه دروسا خصوصية في اللغة العربية لغير الناطقين بها ولأبناء الدبلوماسيين، وكانت فكرة تعليم اللغة العربية في بريطانيا نواة لمشروع أكبر تكفل به الملك الراحل فهد بن عبد العزيز أفضى لإنشاء مدرسة عربية تابعة للسفارة السعودية في لندن، تولى عبد الجبار إدارتها، وتحولت فيما بعد لأكاديمية الملك فهد في لندن.

في عام 1978 اختار عبد الجبار العودة لبلاده، وتم تعيينه مستشارا لجامعة الملك عبد العزيز، انصرف بعد نحو عام للتفرغ لكتاباته وأبحاثه في الأدب والثقافة، وكان له صالون ثقافي، يطل من خلاله على المشهد الثقافي المحلي ويحتضن التجارب الصاعدة. وحظي في عام 2006 بتكريم من الدولة في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) وتم منحه وساما من الدرجة الأولى.

ويعتبر كتابه ذائع الصيت «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية»، الصادر عام 1959 أبرز مؤلفاته، وقد وضع هذا الكتاب الناقد عبد الله عبد الجبار، في صدارة مؤسسي حركة النقد في السعودية.

يعتبر هذا الكتاب دراسة أكاديمية منهجية، وكان عبارة عن مجموعة من المحاضرات ألقاها على طلاب قسم الدراسات الأدبية واللغوية بمعهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية. ويعتبر الكتاب أهم المراجع لدراسة الحياة الأدبية والاجتماعية والثقافية والسياسية في الجزيرة العربية، وهي تركز على أثر البيئة في النتاج الشعري في منطقة الجزيرة العربية، مع تحليل التيارات الأدبية التي عرفت آنذاك مثل الكلاسيكية، والرومانسية، والواقعية، والتيارات الوطنية والقومية.

وفي كتابه التيارات الأدبية، كما في الكثير من كتبه الأخرى، يظهر اهتمام عبد الجبار بتوثيق مسيرة الأدب في الجزيرة العربية والاهتمام بنحو خاص بمنهج التحليل النفسي للأدب، ولذلك فقد بدا كتابه «التيارات الأدبية» أحد أهم المراجع الأدبية التي تناولت تلك الحقبة الزمنية، وخاصة فيما يرتبط بتحليل السياقات الشعرية والأدبية واكتشاف التأثيرات الاجتماعية والسياسية فيها.

وقد عكست مؤلفات عبد الله عبد الجبار، تأثره بالمدارس الفكرية التي سادت في النصف الأول من القرن الماضي، فقد كتب «قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي» بالاشتراك مع الناقد المصري الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، وطبع في القاهرة عام 1958، وكتاب «الغزو الفكري»، سنة 1974، ومن أعماله في القصة؛ «أمي» عام 1954، و«ساعي البريد»، وفي مجال المسرح كانت أول مسرحية له بعنوان «الشياطين الخرس»، عام 1954، والتمثيلية الإذاعية «العم سحتوت» 1954.

وصدرت مؤخرا المجموعة الكاملة التي تحتوي أعمال الناقد عبد الله عبد الجبار، في 7 مجلدات، تضم أكثر من 2300 صفحة، وبينها كتابه «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية»، الصادر عام 1959.