«الثقافة القمامة» لها أصول تاريخية عريقة عند الأميركيين

كتّاب بلاد العم سام يعتبرون فنون الترفيه بعيدة عن الرقي

TT

معرض موضوعه الثقافة الأميركية، أقيم في «متحف التاريخ الأميركي»، أعاد النقاش حول أنواع هذه الثقافة، ليتبين أنها في أميركا كما كل ثقافات الدنيا تنقسم إلى قسمين، قسم شعبي وآخر أكثر رقيا. لكن هذا التقسيم لم ينه الجدل، ودخل البعض في تقسيمات الثقافة غير الراقية التي اعتبرها منحطة لا بل «ثقافة قمامة».

أقيم مؤخرا في متحف التاريخ الأميركي، وهو واحد من مجموعة متاحف «سموثونيان» في واشنطن، معرض عن الثقافة الأميركية، وقسمها إلى قسمين: «هاي كلشر» (ثقافة راقية)، و«لو كالشر» (ثقافة ضحلة).

في القسم الراقي، كانت هناك إشارات لأعمال فنية «راقية»، مثل لوحه «النبي حزقيال» التي رسمها الإيطالي رافائيل دا أوروبينو (توفي سنة 1520) ومثل تمثال «النبي داود» الذي نحته الإيطالي مايكل أنغلو (توفي سنة 1564) ومثل مبنى «بارثينون» في قلعة «اكروبوليس» في أثينا الذي بني لعبادة الإلهة «أثينا»، إلهة الحضارة والجمال والقوة (اكتمل بناؤه سنة 438 قبل الميلاد). وكانت في المعرض أمثلة لثقافة راقية غير غربية، مثل لوحة «الفيلسوف» التي رسمها الرسام الصيني شين هونغشو في عهد حكم عائلة مينغ (انهار سنة 1644).

وجاء في كتاب «قصة الثقافة الراقية» الذي كتبته سنة 1989 الأميركيتان نينا فورتين وغياي توكمان، أن وصف «الثقافة الراقية» يعود إلى ما قبل مائة سنة، عندما نشر البريطاني ماثيو أرنولد كتاب «الثقافة والفوضى». انتقد الكتاب بشدة ما سماها «الثقافة الفوضوية»، وانتقد من سماهم «مدعي الثقافة».

وفرق كتاب «قصة الثقافة الراقية» بين «لو كالشر» (ثقافة ضحلة) و«بوبيلار كالشر» (ثقافة شعبية). وقال الكتاب إن الأولى جزء من الثانية. وأن الثقافة الشعبية تشمل «كل جوانب الحياة العامة بخيرها وشرها، تشمل الأفكار والنشاطات والأحاسيس والخيالات والتصورات التي تجمع أغلبية الناس في أي مجتمع».

لكن الثقافة الضحلة هي عكس الثقافة الراقية. وتشمل أشياء مثل: مسلسلات تلفزيونية شعبية، وروايات باهتة، وصحافة إثارة، وصور وأفلام فاضحة، وتعر من أجل التعري وليس من أجل الفن.

غير أن مرور أكثر من مائة سنة على نشر كتاب «الثقافة الفوضوية» ربما يدعو إلى إعادة النظر في التقسيمات والأوصاف. خاصة أن كثيرا من المحرمات صار مقبولا، خاصة لأن الروايات صارت شعبية أكثر منها ضحلة. وضحالة الروايات كانت من علامات «الثقافة الفوضوية»، بالمقارنة مع روايات البريطاني ويليام شكسبير، مثلا.

لكن، حتى في زمن شكسبير، انتشرت روايات رومانسية «شعبية»، ولم يكن كاتبوها من عمالقة الأدب، بل كانوا من عامة المهتمين بالأدب. وفي الوقت الحاضر، صارت الروايات الرومانسية وغير الرومانسية «شعبية» أكثر منها «ضحلة».

ويمكن اعتبار أن مقولة «الشعبي» لا تعني بالضرورة «ضحلا»، تنطبق على مجلات وأخبار التلفزيون المثيرة، والتي تركز على أخبار وشائعات عن نجوم ونجمات السينما والتلفزيون، وعن المشاهير والمشهورات من السياسيين والرياضيين والأغنياء. وأيضا، تغيرت النظرة إلى كرة القدم وغيرها من أنواع الرياضة؟ فكيف يمكن أن توصف بأنها «ضحلة»، وهي شعبية ويشاهدها ويمارسها ربما كل الناس؟ وماذا عن طعام «بيتزا» الشعبي الذي صار يقدم في أرقى الفنادق وصار جزءا من الثقافة الأميركية (وغير الأميركية)؟

لكن، توجد أنواع من الثقافة لا تزال تسمى «ضحلة» عندما تعرض في متاحف «سموثونيان» في واشنطن، مثل فنون العالم الثالث. ورغم أن هذه كانت تسمى «بدائية»، قبل استعمال هذا الوصف المستجد مؤخرا، من باب التأدب، وصارت توصف بأنها «قبلية». بعض فنون العالم الثالث تعتبر «راقية» وسط شعوبها وأهلها، لكن، عندما يعرضها الأميركيون في متاحفهم، يطبقون عليها أوصافهم وتقسيمات تخصهم. فقد قسمها الأميركيون إلى ثلاثة أقسام: الأفريقية، والباسيفيكية والهنود الحمر. وهي «ثقافة قبلية» لأنها تعكس عادات وممارسات قبلية وريفية». ويقصدون من هذه الأوصاف أنها ليست ثقافة «مدنية»، أي ليست «حضارية». ومن هنا جاء وصفها بـ«الضحلة».

قدمت هذا الشرح مجلة «سموثونيان» الشهرية التي تصدرها الإدارة المشتركة للمتاحف بنفس هذا الاسم الموجود في «مول» واشنطن، بالقرب من البيت الأبيض. وقالت المجلة: «ليس الهدف الإساءة إلى أي ثقافة، ولكن يمكن وصف ثقافة ما بأنها من الريف أو من المدينة رمزا لمرحلتين حضاريتين مختلفتين».

وقالت المجلة إن خصائص هذا النوع من الثقافة «القبلية» أنها:

أولا: منعزلة عن «الثقافات الرئيسية» في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.

ثانيا: ليست مكتوبة أو مقروءة، بل محكية ومسموعة وحتى نحوتها وتماثيلها دون أساس مكتوب يترجمها ويفسرها. (مثل الهيروغليفية، لغة قدماء المصريين).

ثالثا: تنمو في مجتمعات ريفية وفي قرى قليلة السكان وموزعة وفي نظام وراثي.

رابعا: تعتمد على الأيدي في الرسم أو النحت، لا على أجهزة حديثة (إلا التي أدخلها الغربيون في وقت لاحق).

«ثقافة الانتيك» هي نوع آخر من أنواع «الثقافة الضحلة». وكلمة «انتيك» تعني «عتيقة»، أي أنها أشياء صنعت في الماضي البعيد لا لتكون قطعا فنية، ولكن للاستخدام اليومي، مثل: علامة قديمة لمشروب «كوكا كولا» أو «بيبسي كولا»، وتليفون من النوع الذي كان يستعمل قبل سبعين سنة، ومكواة ملابس من النوع الذي كان يملأ بجمر أحمر.

هذه وغيرها كانت معروضة في متحف «سموثونيان»، بالإضافة إلى أشياء أخرى مثل: حذاء قديم كان يستعمله قدماء الاسكيمو وهو من جلد الدب القطبي، ومصباح من النوع الذي كان يستعمل الشموع، وسيارة إطفاء حريق من النوع الذي كانت تجره خيول. ولأن هذه الأشياء عندما صممت لم تكن قطعا فنية، لا يمكن اعتبارها قطعا فنية في الوقت الحاضر. لكن، انتقد معارضون هذا التقسيم، ويشيرون إلى الأغنياء الذين يحتفظون بسيارات قديمة، مثل أول سيارة فورد، وأول سيارة تعمل بالجازولين، وأول سيارة تعمل بالديزل. وقال المعارضون إن الأغنياء يعتبرون هذه «ثقافة راقية»، رغم أنها لا تختلف كثيرا عن مصباح من النوع الذي كان يستعمل الشمع.

أما «ثقافة القمامة» فهذه حديثة ضحلة و«بربرية». يعني أنها استفادت من الحرية والحضارة الحديثة، لكنها ليست إيجابية بالصورة المطلوبة. وفصل هذا النوع من الثقافة كتاب «تراس كالشر» (ثقافة القمامة) الذي كتبه ريتشارد سيمون، أستاذ في جامعة كاليفورنيا بوليتيكنكز (ولاية كاليفورنيا).

كتب: «ليست هذه إساءة إلى شخص، أو اختراع، أو عادة، لكن الحقيقة هي أن ثقافات كثيرة حديثة لا تفيد المجتمع مثلما تفيده الثقافة الراقية». وأشار إلى مسلسلات تلفزيونية مثيرة، وأغان خليعة، ومجلات مغامرات كرتونية. وإلى عادات مثل: المنافسة في شراب البيرة والكحول. وتكوين عصابات في الأحياء الشعبية، ولبس ملابس خليعة أو غريبة. وكتب: «ماذا أستفيد أنا عندما أرى فتاة تصبغ شعرها بلون بنفسجي، أو فتى يعلق حلقة في أذنه اليمنى؟». لكن، انتقد آخرون هذه النظرية، وقالوا:

أولا: صارت هذه الأشياء «شعبية»، وبالتالي لا يمكن أن تكون «قمامة».

ثانيا: يغامر مخرجو هذه المسلسلات التلفزيونية وناشرو كتب المغامرات الكرتونية بالاستثمار في هذه المجالات. ولهذا، على الأقل، يجب احترام مغامراتهم، وتقدير نيتهم في تقديم أعمال إيجابية.

ثالثا: ريتشارد سيمون، مؤلف الكتاب، في الخمسين من عمره، ويريد أن يحكم على ثقافات محبوبة وسط الذين لا تزيد أعمارهم عن ثلاثين سنة.

لكن، نقل المؤلف المعركة إلى مستوى أعلى، ولم ينتقد هذه «الثقافة الحديثة» فقط، بل انتقد كل «الجيل الحديث». ومن الثقافة الضحلة «ثقافة الحمام»، وهذه من جانبها تنقسم إلى قسمين:

أولا: أوصاف التعري والتبرز والتبول، وأيضا وظائف جسمية أخرى غير مستحبة، مثل: التقيؤ والشخير.

ثانيا: شتائم عن هذه الأشياء.

لأن حرية التعبير التي يوفرها الدستور الأميركي تسمح بالشتائم، وتسمح بنشر وإذاعة ثقافة الحمام، التي صارت جزءا من الثقافة الأميركية العلنية اليومية. لكنها تنتشر على استحياء، لأنها، طبعا، غير مؤدبة حسب مقاييس التأدب المتفق عليها. وتنتشر هذه أكثر وسط الشباب (وحتى الأطفال) عنها في وسط الأكبر سنا، وفي أوساط الرجال عنها وسط النساء. وقال مدافعون عن «ثقافة الحمام» إنها:

أولا: مواضيع واقعية لا يمكن إنكارها.

ثانيا: لا بد من نشرها إذا أراد البعض القضاء عليها أو تخفيف حدتها.

ثالثا: جزء كبير منها نكات وفكاهيات، وليس «ثقافة جادة».

رابعا: كانت جزءا من الأدب الغربي القديم.

«كانتربري تيلز» كانت جزءا من الأدب الغربي القديم مثل رواية «كانتربري تيلز» (قصص كانتربري) التي كانت من أوائل القصص البريطانية التي نشرت. كتبها البريطاني جيفري جوسار (توفي سنة 1400). وهي انطباعات عن المجتمع البريطاني، خاصة عن دور رجال الدين، وعن دور المرأة.

في قصة «زوجة باث (مدينة في جنوب إنجلترا)» اعترافات «اليسون» وعن زواجها من خمسة رجال، وانتقادها لما سمته «نفاق رجال الدين»، وقالت إن أنبياء مثل إبراهيم ويعقوب كانت لهم زوجات كثيرات، وإن المرأة يمكن أن يكون لها أكثر من زوج.

ورغم أن رأيها هذا ليس جديدا، ففي القصة إشارات إلى تفاصيل علاقاتها الحسية مع الأزواج الخمسة، خاصة الخامس، جانكين، الذي فضلته على الذين قبله. وبدأت قصتها بأن أشارت إلى حبها وقالت: «أنام وهو يشغل بالي، وأستيقظ وهو يشغل بالي». وجزء كبير من التفاصيل في القصة يمكن اعتباره من «ثقافة الحمام».

أشار كتاب «الثقافة القمامة»، إلى ما سماه «بروفانيتي كالشر» أو (ثقافة دنسة) وقال إنها من أنواع الثقافة غير الراقية. وإن أصل كلمة «بروفانيتي» (دنس) يعود إلى القرون الوسطى في أوروبا، عندما كان رجال الدين يسيطرون على كل جوانب المجتمع. وكانوا يمنعون أي نوع من أنواع «الثقافة القمامة». وطبعا، لم يمنع هذا الناس من أن يستعملوا العبارات الجنسية والبذيئة في حياتهم اليومية. وسمي هذا «بروفان»، أي خارج الكنيسة. وهكذا، قسموا الثقافة بين التي داخل الكنيسة (الطاهرة)، والتي خارجها (الدنسة).

ولم ينف الكتاب أن الثقافة الأميركية ورثت «الثقافة القمامة» عن الثقافة الأوروبية القديمة. ولم يقلل من أهمية روايات مثل «قصص كانتربري»، لكن، قال الكتاب «إن الثقافة الأميركية الترفيهية»، مثل المسلسلات التلفزيونية ومجلات الإشاعات والمشاهير، تدعي أنها لا تقل أهمية، وأن هذا خطأ.

وقسم الكتاب الثقافة إلى «مفيدة»، و«ترفيهية»، وقال إن هذا التقسيم هو الذي يفصل بين «الثقافة القمامة» و«الثقافة الراقية».