المثقفات في السعودية: حضور في الخارج وغياب في الداخل

الرجال: المؤسسات الثقافية غير فاعلة.. النساء: تهميش ذكوري

TT

مرة أخرى، تقفز إلى السطح قضية الإبداع النسوي في السعودية، فالكثير من الأعمال الروائية والكتابية والشعرية وحتى التشكيلية، التي تنجزها سيدات سعوديات تجد طريقها للانتشار والتكريم في الخارج، يناظره صمت مطبق وتجاهل من المؤسسات الثقافية في الداخل. وليس أقلّ تلك المنجزات النسائية فوز الروائية شادية عالم بجائزة الرواية العربية (البوكر) وانتشار أعمال روائية لزينب حفني، وليلى الجهني، ورجاء الصانع، مع تميز لأسماء مختلفة في النقد كفوزية أبو خالد، وأميرة كشغري وغيرهما.

هناك تباين بين موقف المثقفين الرجال، وخاصة المدافعين منهم عن حضور المرأة، مثل الدكتور معجب الزهراني، والروائيين يوسف المحيميد وعلي بافقيه، والناقد الدكتور عالي القرشي، وبين موقف السيدات، فالرجال يرون أن الإهمال سمة عامة لعموم المشهد الثقافي المحلي الذي يضيق بمساحة الإبداع ويدفعها نحو الخارج، أما السيدات المثقفات، وإن كنّ يتفقن على العموم، فإن لديهن مشكلة خاصة تتعلق بالتهميش الذي يشتكين منه من قبل مؤسسات الثقافة.

لماذا تحظى المرأة السعودية بحضور ثقافي في أصقاع العالم، لكن أعمالها وشخصها تكاد تكون مجهولة داخل وطنها.. هذا هو السؤال الذي حمله التحقيق التالي لعدد من النقاد والروائيين من الرجال والنساء في السعودية.

إيمان التونسي: فتنة الصحراء

في البدء، لاحظت الناقدة الدكتورة إيمان التونسي، عضو مجلس إدارة جمعية المسرحيين السعوديين، أن المنجز الثقافي النسائي يلقى احتفاء وتكريما في الخارج أكثر مما يلقاه في الداخل. وترى التونسي أن إغفال الإبداع النسوي يعود لعدة أسباب، منها ما يتعلق بالمتلقي ومنها ما يتعلق بالمؤسسة الثقافية.

وهي ترى أن المؤسسات الثقافية العربية والعالمية التي تحتفي ببعض الأعمال الثقافية التي تنتجها المرأة السعودية، تنطلق من معطيات لا علاقة لها بالإبداع دائما؛ فللصحراء العربية عبق لا يزال له تأثيره على نفوس الغربيين، فهم في شغف دائم لاكتشاف تفاصيل الحياة العربية في أراضيها الشاسعة وأساطيرها وطرائق الحياة فيها. فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالمرأة العربية التي غُيبت في كثير من الكتب والأفلام المعتمدة على كتب الرحالة والرحلات إلى المنطقة، وتضيف: «حتى النذر اليسير مما ظهر، كان في معظمه من نسج خيال مخرج أبدع صورا وقصصا أغلبها تكون مجانبة للواقع».

وتضيف التونسي: «أما الآن وقد تملكت المرأة زمام الكتابة من خلال دراسات تخصصية أو ملكات موروثة في فنون السرد والحكايا، فقد أصبح الآمر أكثر جذبا للمهتمين في الخارج الباحثين عن الأصيل وغير المكرور من القضايا الأنثوية».

وهي تعتقد أن المرأة السعودية الآن بما تقدمه من جدية وإتقان هي موضع اهتمام بلا شك، كونها تقدم تجربة مختلفة ومتميزة لم يسمع عنها من قبل، وبالتالي فإن أصالة تجربتها فد تقيم من الداخل بأنها «عادية ومتداولة» لأنها من سياق المجتمع نفسه، مما يدفعها إلى البحث عن البدائل سواء في دور النشر خارج الحدود، أو القراء الراغبين في الجديد والمتنوع.

الزهراني: حصار وحشي

أما الناقد السعودي الدكتور معجب الزهراني، فعبّر عن موقف متضامن مع المرأة، وأعتبر أنه على الرغم من الحصار الوحشي الذي يتعرض له المنتج النسائي، ويستهدف المرأة المثقفة، فإن المرأة استطاعت أن تسجل حضورا لافتا للإعجاب. ويضيف الزهراني: «هذا الحصار ينضوي تحته جميع المثقفات باختلاف الأجناس الأدبية، فالمرأة هي الشخصية المناضلة التي تصدرت المشهد على الرغم من أشواكه، وتسنمت مكانا مرموقا عربيا وعالميا. لو تغيرت بعض الوضعيات القانونية، لأصبحت مشاركات المرأة أكثر تألقا مما هي عليه الآن». ويرى أنه حينما يُحتفى بالمنتج الثقافي للسعوديات عربيا وعالميا، فهذا يكشف حجم «الحصار» على المرأة في محيطها.

ويستطرد الزهراني بالقول: «المرأة تعاني لدرجة الصعوبة الحركية في تنقلاتها من مدينة إلى أخرى، وفي خضم تلك العراقيل، عبرت المثقفة السعودية عن نجاحها، ولا أدل على ذلك من حصول رجاء عالم على (البوكر)، وهو فوز استحقته، ونماذجنا كثيرات، عرف الاحتفاء بهن خارجيا أكثر من الداخل».

كشغري: منجزها خارج النص

وبالنسبة للكاتبة السعودية أميرة كشغري، فإن بروز أسماء نسائية سعودية في الخارج تعبير عن المكانة التي وصلت لها المرأة، «فحضور المرأة بالصوت والصورة داخليا، زمانيا ومكانيا، يتطلب حضورها في احتفاء تكريمي يليق بمكانتها الثقافية والاجتماعية».

وهي تتساءل: «هل يتم التكريم للمرأة المثقفة في داخل بلدها إذا حصلت على اعتراف الخارج بها، وكأن مؤسساتنا المسؤولة عن رعاية الإبداع ترتقب ضوءا أخضر من الخارج؟!»، وضربت كشغري مثالا لحصول الروائية السعودية شادية عالم على جائزة «البوكر»، وقالت: «لدينا أنموذج حي هو رجاء عالم، حيث لم تشرح أعمالها إلا بعد فوزها بالبوكر!»، وهي الأديبة التي لم تحظ حتى اللحظة بتكريم في الداخل، ولا نعلم حيثيات غياب تكريمها!

القرشي: الإبداعات طبعت خارج الحدود

من ناحيته، نظر الدكتور عالي القرشي، الناقد السعودي المعروف، لمسألة غياب الحضور الثقافي للمرأة محليا، بشكل شمولي، معتبرا أنها تحمل عدة أبعاد مختلفة، مبينا أن كثيرا من أعمالنا الثقافية المتجاوزة، من حيث المستوى، فكريا وإبداعيا، وأنتجها الرجال أو النساء، أُصدرت وأنتجت خارج الحدود.

وضرب القرشي مثلا بكتب الدكتور عبد الله الغذامي، التي تطبع في المركز الثقافي العربي، شأنه شأن أعمال الدكتور سعد البازعي، والروايات اللافتة تطبع خارج البلاد، وهذا الأمر لا يبرره حاجز الرقابة وحيدا، ولكن الرغبة في الاكتشاف، والاستفادة من إمكانات التوزيع والنشر خارج السعودية، والوصول إلى المراكز الثقافية في العالم العربي والغربي.

أما التكريم، فيراه القرشي شأنا مختلفا، وهنا يذكر أن فوز رجاء عالم، بجائزة البوكر، لم يتحقق لكونها أنثى، بل لأنها مبدعة قدمت عملا إبداعيا تسابق معها رجال فيه، فحصدت الجائزة الأولى مناصفة مع رجل.

الفاسي: قيود الداخل وحرية الخارج

أما الكاتبة هتون الفاسي، فتقول إن الأطروحات التي تقيم الأعمال الإبداعية لعموم المثقفين، هي أطروحات مقيدة للإبداع، وما برحت تقدم العراقيل والعقبات التي تعتري طريق المثقفين.

وترى الفاسي أن المشهد الثقافي في الداخل يحجم المثاقفة الإبداعية، ويضيق مساراتها، وهي انعكاس لتقييد الحريات، وعدم إدراك قيمة العقل والمنتج الثقافي.

وتعتبر الكاتبة أنه ليس بالضرورة المطلقة أن كل كتاب يُكتب بالخارج، يجب في حقه الاحتفاء، بل إن المسألة تتمحور فقط في الأبعاد النقدية المتسعة التي تعج بها ردهات المؤسسات الثقافية بالخارج، ناهيك أن تلك المؤسسات تمتلك الاستقلالية بالكامل في التعامل مع المنتج الثقافي.

وبررت تسرب التكريم خارجيا لما تصفه الفاسي بعدم الثقة، وهي وصمة تصيب المرأة والرجل على السواء، وسيظل الاحتفاء في الداخل بالمنتج الثقافي الإبداعي، هاجسا يؤرق المفكرين والمثقفين.

يوسف المحيميد: لا تنتظر الداخل

الروائي يوسف المحيميد، يعطي السجال بشأن تكريم المنجز النسوي بعدا مختلفا، فهو يرى أن أمر التجاهل بالنسبة للإبداع السعودي الداخلي، سواء كان نسائيا أم رجاليا، ليس جديدا، وهو أمر متأصل منذ زمن بعيد.

وفي رأي المحيميد، فإن السعودية تعتبر بلدا جاذبا لاهتمام العالم، سواء الغربي منه والشرقي، لشغفهم بمعرفة ما يحدث داخل هذا المكان، باعتبار الأدب فنا وافيا لقراءة الآخر والإمعان فيه، وقد تعاظم ذلك الاهتمام منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).

ويجزم المحيميد بأن الأدب السعودي أصبح حاضرا بقوة في المشهد العربي، ليس فقط على مستوى الترجمات، أو على مستوى الجوائز الأدبية، فأصبحت هذه الكفاءة التي يحظى بها الأدب السعودي، تنتج أسماء لامعة على الصعيد الثقافي، وباتت تلك الأسماء تمتلك حضورها المضيء والمشرق.

ويقول المحيميد إن المثقف المحلي عليه الالتزام بقدر من الصبر، مستذكرا رأي أحد المثقفين حين فرغ من قراءة روايته «فخاخ الرائحة»، حيث قال: «لكي تكون متماسكا، لا تنتظر شيئا من الداخل».

ويقول: «حضور السعوديين في الإصدار الأول بالشارقة، كان لافتا ومبهرا، ولا يمكن أن يقام مهرجانا، دونما أن يكون للمثقفين السعوديين موضع قدم بها، وهذا دليل أن هذه الأرض ولادة وقادرة على التعاطي مع الشأن الثقافي على كل الأصعدة».

علي بافقيه: رجاء الصانع دفعت الرواية للأمام

الشاعر علي بافقيه، يعتبر أن أصداء المنجز الثقافي النسائي، وجدت في العالم العربي والخارجي وهو أمر مبرر، لأن الرواية في الداخل كانت كامنة ونادرة، واقتصرت في القدم على الرواد، إلى أن ظهر عبد العزيز مشري في البدايات، بتجربة فيها نوع من الإصرار وقدم مجموعة من الروايات.

ويقول بافقيه: «كان اقتحام الشاعر غازي القصيبي للرواية، نوعا من تشجيع الساحة على تناول الشأن الروائي، وأعقبه بعد ذلك الروائي تركي الحمد، ثم كان هناك خطوة رائعة تمثلت بإصدار رجاء الصانع روايتها (بنات الرياض)، وهذا خلق نوعا من الاحتفاء بالمنجز الثقافي النسائي، وهو تقديم كان هدفه إنمائيا للرواية السعودية، ودفع بها للأمام. ويحسب لرجاء الصانع جرأتها التي تجاوزت الساحة».

ويستدرك الشاعر بافقيه حديثه بالقول: «عجت العشر سنوات الأخيرة بالكثير من الأعمال الروائية المهمة، لرجاء العالم ورجال الصانع، وليلى الجهني، وكان النتاج الثقافي السعودي في حضور متجلٍّ»، مبينا أن ما يحدث الآن، أن المرأة في السنوات السبع الأخيرة قد لمعت في الرواية والمقال. ومن يتتبع رؤية الكاتبات السعودية في الآونة الأخيرة داخليا، يعي تمام الوعي أنها تدل على سعة أفق ونضج فكري واسع، وخطت خطوات مهمة وواثبة، وهي بلا شك جديرة بالاحتفاء داخليا وخارجيا.

* العكاس: البيئة المحلية مغلقة

* الدكتور منيرة العكاس، المسؤولة التربوية في مكة المكرمة، ترى أن تكريم المرأة في الخارج وليس داخل بيئتها المحلية، جاء لعدم وجود بيئة ثقافية مواتية تحتفي بالمنجز، وتؤطره إبداعيا، فالبيئة الإبداعية الناضجة، ترى في أطروحات المثقفات، منارات إبداعية، وشواهد أدبية متجددة.