الطغاة.. كُتّابا

بينهم ماوتسي تونغ وكيم إيل سونغ وصدام حسين ومعمر القذافي

TT

مهما بدا الأمر مثيرا للغرابة ظاهريا، فإنها ليست المرة الأولى التي أبدى فيها أحد المستبدين ميلا خاصا للفن والأدب، فإذا عرف التاريخ البعيد نيرون بصفته شاعرا «رقيقا»، والتاريخ القريب أدولف هتلر رساما ومعماريا، وماوتسي تونغ نظاما للقوافي الطويلة، فإن ظاهرة الديكتاتور - الكاتب، كما يبدو، تحولت إلى تقليد ملفت للنظر في القرن الذي ودعناه. الطغاة يكتبون بأنفسهم الروايات والمسرحيات وينظمون الشعر. يكتبون بأنفسهم؟ هذا ما يوحون به على الأقل، أو يجبروننا على تصديقه وبمختلف الوسائل. بالإضافة إلى ذلك، يسأل المرء نفسه فقط، من أين يملك هؤلاء الجلادون الوقت الكافي للكتابة، فإذا كان الحاكم «العادي» (في البلدان غير الديكتاتورية) يعمل كما هو معروف 16 ساعة في اليوم، فإن الديكتاتور يعمل تقريبا طوال الـ24 ساعة، أولا بسبب انشغاله بتوزيع أوامر القتل اليومية على مدار الساعة، حتى في أوقات الوجبات الغذائية (صدام حسين مثلا، كان يتلذذ بمشهد القتل، بينما يأكل البيتزا، أو القذافي الذي لا يجد الوقت حتى لخياطة جلبابه الممزق عند الإبط)؛ ثانيا حتى إذا نام في الليل، فإنه بالتأكيد لن يحلم بشخصيات رواياته، مثلما يحصل عادة مع كل روائي، إنما يحلم بالسلطة. ويقف المرء مشدوها، أمام قدرة هؤلاء الطغاة بالسيطرة على هذا التنافر: كتابة القصيدة والرواية والنوتة الموسيقية بذات اليد التي تعذب وتقتل.

من الخطأ النظر بتهكم للأعمال التي كتبت ونشرت باسم هؤلاء، باعتبارها أعمالا ركيكة مثيرة للسخرية. لأنها الركاكة هذه بالذات، هي دليل قوتهم، فمن يفرض نفسه على الملايين من الناس، ليس شخصا ضعيفا، وحتى لو افترضنا أن أحدا «مثقفا» كتب له هذا العمل «الركيك» (كما تسرب عن كتبة صدام حسين من «المثقفين» العرب، أشهرهم كاتب مصري مخضرم) فإنها قوة الطاغية أيضا، التي تقنع الآخرين بالتخلي عن شخصياتهم وكتابة نصوص على مقاس المستبدين، أو مديحه كما فعل عشرات الكتاب والكاتبات، المثقفون والمثقفات من أبناء هذه الأمة الذليلة. الضعيف في هذه الحالة، هو الذي يكتب للديكتاتور وليس الديكتاتور – الكاتب. لأن الضعف يعني التمزق الداخلي، الانكسار والاتكاء على شعارات طنانة، في حالة انكشاف السر. الطغاة لا يخجلون من العمل المكتوب، على العكس، يفتخرون به، ويجعلونه يوزع في كل مكان، ويقيمون له المؤتمرات التي يقدم فيها ذوو الاختصاص الدراسات «العميقة». المؤتمرات التي دعت لها ليبيا وحضرها مئات الكتبة «المثقفين» من رداحي الأمة لتقديم دراسات بشأن قصص الديكتاتور معمر القذافي هي خير مثال.

تلك هي ميزة الطغاة: إنهم أقوياء غير منكسرين، يؤمنون، بما يفعلونه، بالتمام. وعلى هذا الأساس علينا أن نستوعب التزامن (الذي يبدو غريبا!) بين الكتابة الأدبية والعنف، وبأنه يتحول عندهم إلى شيء واحد. والأخطر من ذلك أيضا أن جميعهم، يتحدرون من علاقات بدوية أو ما قبل قروية، بدائية، علاقات اجتماعية بسيطة، وعندهم ثأر قديم مزمن وتدميري لكل ما هو ثقافي. من هنا تأتي خطورة ضحالة وانحطاط أعمالهم المتخلفة من كل النواحي: المضمون، والشكل، والتي تستدعي أخذها بنظر الاعتبار ليس عند تحليل شخصية هؤلاء المستبدين فقط، إنما عند تحليل شخصية المجتمع الذي يحكمونه ويروج ويشجع لهذا التخريب الثقافي، الذي ليس من المبالغة تصنيفه بأنه أخطر من كل أسلحة الدمار الشامل.

وإذا كان أربعة من الطغاة هؤلاء انتهوا إلى مزبلة التاريخ، كل واحد منهم على طريقته، أقصد العراقي سفـاح بغداد الأول صدام حسين الذي انتهى إلى منصة الإعدام، والرجل الذي يشبه القرع الكوري الشمالي كيم إيل سونغ الذي مات بالسرطان، والرجل الضاحك دائما التركمنستاني صبار مراد نيجاسوف الذي أطيح به بين ليلة وضحاها، والطنطل الذي تخصص بالكتابة للأطفال الصربي كاراجيك الذي انتهى إلى سجنه في لاهاي، فإن خامسهم ما زال يصر على الجلوس على عرشه، يملك في يده الصولجان، ويخطئ من يظن أن الرجل الذي وضعته ذات يوم الولايات المتحدة الأميركية على قائمة «المارقين» سيختفي بسهولة من المشهد العام، كيف يفعل ذلك وواحد مثله هو، ابن البدوي، المولود في «سرت»، عليه أن يفتخر بأنه سجل تاريخا في سيرة الطغاة الذين سبقوه، لأن اسمه كان أول اسم تصدر قائمة «المارقين» المطلوبين للولايات المتحدة الأميركية، في الوقت الذي كان فيه أمير الظلام «أسامة بن لادن» يصطاف على شواطئ الريفيرا ويلعب القمار في موناكو، وها هو يطل علينا بوجهه الأكثر شرا بطاقته التدميرية التي ظننا أنها ضعفت في السنوات الأخيرة والتي كان آخرها جريمة إسقاط طائرة مدنية، لأنه كما أراد أن يقنعنا فحول وفاحلات الأمة من نقادها وكتابها، بأن الرجل مشغول بالكتابة، زاهد عن الحكم!

لا ندري أي رواية أو قصة سيكتب في المرة هذه، بل لا ندري أي كتاب وكاتبات، مثقفين ومثقفات سيكتبون عنه، عندما ينتهي من إبادة شعبه، ويلعق الدم البشري المسوح. فواحد مثله محكوم أبدا بالتأسيس لما بعد حداثة «الإرهاب» الأخضر، إن ليس عن طريق الكتابة فعن طريق رمي القنابل والسلاح، ألم نخبره بهذا الشكل حتى الآن؟ ليس في سلوكه وحسب، فمثلا لم يكتف أبو المارقين ذات مرة (لكي يعلن عن حداثته الجديدة)، بنصب خيمة في زياراته الرسمية في حديقة مضيفيه دائما، وتغذية نفسه من حليب أنثى جمل تصحبه دائما في رحلاته، ولا بإحاطة نفسه بفرقة حماية مكونة من النساء «الجميلات» فقط (الأمر الذي يثير غالبا السخرية عند مضيفيه من إخوته من فحول الأمة «المخصيين»)، بل في ما كتبه أيضا، في تلك القصص المعدودة على وجه الحصر، فمن قرأ مجموعته القصصية التي حملت العنوان الغريب «دولة الحقراء»، والتي حسب ما روج مثقفون ومثقفات هذه الأمة، بأنه «أراد لها أن تكون مانيفستا يروج لطريقة الليبيين في الحياة»، سيكتشف القارئ شخصية معمر قذاف الدم هذا الذي يفوق خطره أفعى الكوبرا، وسيعرف أن الإجماع الموجود على جنونه المطبق ليس هباء، وأن التخريجات تلك التي تتحدث عن «السكينة والهدوء والهارمونية» التي «تسيطر على عالم القصص» التي هي في الحقيقة مقالات «فلسفية!!»، والتي تحوي على «رؤية فنية مركبة للموت» كما كتبت إحدى الناقدات «الماجدات» (لماذا لا؟ من هو أكثر من الطاغية خبرة بالقتل!)، أو والتي هي «تخطيطات بيوغرافية، قريبة من الخيال العلمي، تركز على نقد الحضارة الحالية»، وعلى «الإيماءات المشبعة بالحنين»، كما كتبت روائية مصرية «ماجدة» أخرى تفهم نفسها خبيرة في «سيكولوجيا» البدو والخباء والباذنجان، وهي تتحدث في دراستها عن «أوجه اليوتوبيا» في قصص «دولة الحقراء»، التي حلت عليها ضيفة مع رفيقاتها «الرداحات» ورفاقها «الرداحين» الأمجاد، هي كذب وهراء وتعبير عن إفلاس وفساد الحياة الثقافية عندنا التي تتنفس هواء ملوثا مثل هواء القذافي وغيره من حثالة الطغاة، وأن القصص التي كتبها هي في الحقيقة ليست غير خلاصة لتصور طاغية مريضا لدولة المستقبل التي يريدها لليبيين. على العموم تتحدث «دولة الحقراء» التي أبدعها القذافي عن العالم «الذي يعاني من فوران دائم»، و«البشر يعيشون فيه منحشرين مع بعض في مدن صغيرة مجبرين على استخدام الوسائل التكنيكية التي تستعبدهم». «عندما نبلط الشوارع أو نزخرفها بالموزائيك أو نبنيها، فإننا نقتل البلاد.... ستتحول البلاد ذاتها إلى موزائيك أو إسفلت، كونكريت أو مرمر»، تقول القصة التي تحمل عنوان «الأرض». وفي موقع آخر: «نفسك يتصاعد مثل كلب مسعور، لعابه يقطر على شوارع مدينة جنوننا الحديثة». رسالة الكاتب المريض الذي مكانه عيادة نفسية في الحقيقة، قذاف الدم معمر واضحة: الدعوة للبساطة والشعبية، والتي هي في الحقيقة محاولة منه لكي يجعل شعبه يقبل بالتنازل عن إنجازات الحضارة الحديثة، ويقتنع بالعيش في الخيام ويشرب حليب الجمال. ومن لا يقتنع بذلك بنفسه، فسيجبره زعيم «دولة الحقراء» على التسليم بذلك بالحديد والنار!