الثورات العربية تشعل لهيب انتفاضة فنية في لبنان

حركة عكس التيار تتجاهل حمى الداخل والمحيط الغاضب

مشهد من أحد المهرجانات اللبنانية («الشرقالأوسط»)
TT

هل يسير لبنان عكس التيار؟ وهل يقوم بثورته الخاصة ذات النكهة الفنية بموازاة الثورات العربية المحيطة به؟ من أين تأتي الجرأة لهؤلاء اللبنانيين الذين يعلنون عن عشرات الحفلات.. وعدد مهم من المهرجانات لصيف لا يعرف أي عربي كيف سيكون مذاقه أو أي مفاجآت يمكن أن تتخلله؟ عدد السياح بالضرورة سينخفض بسبب الوضع السوري وصعوبة الوصول برا.. لكن الجهد في لبنان متواصل لا بل متصاعد لمنح المزيد من الزخم لدور بيروت الفني.. والاحتفال بالصيف وكأن لا حرائق تشتعل.

هل الفنون في لبنان وسيلة للهروب من واقع ممض؟ ولماذا يتزايد عدد المهرجانات على أنواعها على الرغم من اشتداد الأزمات السياسية المحلية واشتعال المنطقة العربية بالثورات الدامية؟ الجواب لا يتأخر عند فادي غزاوي، دينامو «مهرجان بيروت للموسيقى والفن» الذي استجد على الساحة هذه السنة، مستبقا الموسم الصيفي ووصول السياح ومتحديا حتى المطر الذي انهمر على غير عادته منذ أيام قائلا: «لن نغير موعدنا في العام المقبل. فبيروت في الصيف حارة وفي الشتاء باردة، ومهرجاننا يقام في الهواء الطلق ونحتاج مناخا معتدلا. هذا مهرجان لأهل بيروت ولكل اللبنانيين، كل ما نريده هو أن يأتي الناس ويصغوا للموسيقى ويستمتعوا». لا يهم غزاوي أن يتقاطع مهرجانه مع امتحانات نهاية العام، ولا يرى مشكلة في أن يكون عدد الرواد هذه السنة أقل من طموحاته: «نحن نتعلم، ونصحح أخطاءنا، ونحسن أداءنا، ثم إننا نعرف كيف نجمع 15 ألفا أو 20 ألف شخص، كما حصل في حفل شاكيرا، لكن ليست هذه غايتنا. هناك أنواع من الحفلات مثل استقدام (دي جيه) شهير بمقدورها أن تجذب عددا كبيرا جدا من الناس، لكننا نفضل نوعا مختلفا من الفنون لندعو الناس للتعرف عليه؛ نقيم حفلاتنا ونحن نعرف سلفا حجم جمهورنا، فموسيقى الجاز مثلا قد لا تجلب أكثر من 500 شخص، إلهام مدفعي بضعة آلاف، هذا معروف بالنسبة لنا، لكننا نريد هؤلاء الفنانين وليس غيرهم».

غزاوي متيم بالموسيقى مع فريق عمل صغير، يعمل ليل نهار لإحياء حفلات غنائية وموسيقية وسط بيروت على مدار ثلاثة أسابيع وبشكل يومي. وحين نسأله عن الوضع السياسي والاقتصادي المتردي في لبنان، وأجواء الثورات المحيطة به، يبدو فخورا بأنه يجعل الحياة تستمر على طريقته: «جميل أن نكون بلا حكومة منذ أشهر، والبلد في الوضع السيئ الذي هو عليه، وكل ما حولك يحترق، فيما بمقدورنا أن نحتفظ لأنفسنا بشيء من السعادة، من خلال هذا النشاط الذي نقوم به».

وعن قدرة الناس على شراء التذاكر يشرح غزاوي: «أسعارنا تناسب كل الناس، وللطلاب بطاقات بعشرة دولارات، الهدف أن يستمتع الجميع، نريد أن نفتح أبوابنا لكل الأعمار والفئات».

جان كسبيان الذي يبرمج الحفلات في مهرجان بيروت، سعيد بولادة مهرجان للعاصمة التي يقول: «إنها ليست أقل من بيت الدين وبعلبك والبترون، وهي مثل كل هذه المدن تبدأ بحرف الباء، ولن ندع حقها يسقط».

وبالفعل بات لكل مدينة مهرجانها الفني، وتسير على هذا المنوال صور وطرابلس وجونيه وذوق مكايل.

ولعل المشكلة أن هذه المهرجانات، تتشابه في نوعية برامجها أحيانا وتتضارب في مواعيدها، دون أن يحاول كل منها أن تكون له هويته الخاصة.

كان لافتا أن «مهرجان بيبلوس» بدأ منذ عامين، وقبل حتى أن يظهر نبض الشباب العربي ووزنه في الثورات التي انتفضت، يحاول تلمس الذوق الجديد، ويبدو أن المنظمين استشعروا قوة الطلب على الحفلات ذات النكهة الشبابية، فذهبوا للبحث عن أكثر الفرق شعبية بين المراهقين والجيل اليافع، أمر تسبب بانتقادات لاذعة لمهرجان غض نسبة لبعلبك أو بيت الدين، لكنه انطلق واعدا.

الانتقادات لا يبدو أنها أثرت على توجه الجهة المنظمة، فأكثر من حفلة شبابية أعلن عنها لهذا الصيف، أبرزها حفلا فرقة «سكوربيون» و«ثرتي سيكندز تو مارس»، والنتيجة أن الحجوزات بدأت مبكرة وكثيفة على هاتين السهرتين، والأهم أن الأهالي يبدون تعاطفا مع أولادهم، ويبتاعون معهم البطاقات، لمشاركتهم أفراحهم.

وبات من العرف أن تقدم مهرجانات «بيبلوس» مسرحية لمنصور أو أولاده كل سنة، وهذا العام الجمهور على موعد مع «دون كيشوت»، إضافة إلى حفلات ترضي أذواق محبي الجاز والروك والبوب.

وتحاول مهرجانات بيت الدين أن تتميز في حفلاتها العربية ما دام استقدام الفرق الأوروبية الكبيرة والشهيرة بات مكلفا، مع ارتفاع سعر اليورو، حيث بدأت منذ سنوات قليلة بتكريم كبار نجوم الغناء العربي؛ من أسمهان إلى أم كلثوم وعبد الحليم، بأصوات فنانين متميزين، ليصل السنة الدور إلى صباح، حيث ستكرم بصوت رويدا عطية، كما أن هناك حفلا لكاظم الساهر وآخر لسيدة المقام العرافي فريدا. وتبقى لجنة مهرجانات بيت الدين حريصة على تنويع حفلاتها بحيث ترضي كل الأذواق، وهو ما ستفعله أيضا هذه السنة مستقبلة فرقة للرقص المعاصر من خلال عرض يحمل اسم «بابل»، وهناك حفل جاز مع جورج بونسون، وآخر للتينور الإيطالي المعروف روبرتو الأجنا.

وككل سنة، أعلنت أيضا لجنة مهرجانات بعلبك عن برنامجها، لكنها جاءت مختصرة هذه المرة؛ تتضمن حفلين للموسيقى الكلاسيكية، إضافة إلى مسرحية غنائية للأخوين صباغ، وحفلا لموسيقى الجاز وآخر لرقص الباليه.

هذا غيض من فيض ما سيشهده لبنان هذا الصيف، متجاهلا الثورة التي تدق أبوابه من الحدود السورية شمالا وشرقا، مقيمة ما يشبه السد أمام السياح الذين يفدون من حدوده البرية.

وعلى الرغم من أن وزير السياحة، فادي عبود، أكد أن «تفاؤله فيما يتعلق بالموسم السياحي مبني على أرقام لا على أوهام»، معتبرا أن ثمة مبالغة فيما نُشر عن انتكاسة في حجز الفنادق ودخول السياح في الأشهر الفائتة بسبب وصول فريق ما إلى الحكم، فإن الوزير عاد وأكد أنه «لا يمكن مقاربة الموسم السياحي دون النظر إلى الوضع الإقليمي، وأن «شهر أبريل (نيسان) شهد انخفاضا في عدد السياح الأردنيين بنحو 9000 سائح أقل من المعتاد في هذه الفترة من السنة، لأن غالبية السياح الأردنيين يأتون برا عبر سوريا».

وشرح الوزير أن الوضع الإقليمي سينعكس على السياحة سلبا في لبنان، بشكل أكبر بكثير من تأثير عدم تشكيل حكومة.

الاعتبارات السياسية والأمنية، على الرغم من أنها تسبب قلقا لمنظمي المهرجانات، فإنها لم تكن أبدا يوما عائقا أمام عملهم باستمرار، وكأن لا شيء يمكن أن يؤثر على نشاطهم، وبالتالي؛ هل ستعتمد المهرجانات هذه السنة على روادها اللبنانيين المحليين بشكل أساسي؟ وكيف ستكون حركتها؟ هذا هو السؤال الأكبر الذي تصعب الإجابة عنه اليوم.

لكن بالإمكان استباق الموسم الصيفي بالقول إن «مهرجان البستان» المتخصص بشكل أساسي في الموسيقى الكلاسيكية شتوي وراض بجمهوره اللبناني، و«مهرجان الرقص المعاصر» خريفي هو الآخر، ويصعب الحجز في بعض حفلاته لكثرة الازدحام وقوة الإقبال.

وهناك في لبنان ثلاثة مهرجانات للسينما على الأقل، هذا غير ما يعقد من مهرجانات للأفلام الوثائقية والطلابية، ومهرجان عروض الشارع، كما مهرجان المونودراما. والمهرجانات أكبر من أن تحصى، وتبدو مستمرة من سنة إلى أخرى، على الرغم من شكوى منظميها.

وكل هذا معروف، لكن قد تكون الشجاعة وحدها هي التي تدفع البعض اليوم إلى ابتكار المزيد من المناسبات الثقافية والفنية المكلفة، والتي تتطلب تمويلا كبيرا، وجمهورا أكبر شجاعة، على استعداد لأن يصرف كل ما في جيبه من أجل لحظات انتعاش فني.

وفي هذا الظرف الاستثنائي عربيا تنطلق شركة جديدة في لبنان تحمل اسم «روت 69»، وهي التي استقدمت شاكيرا مؤخرا، التي حضر حفلها نحو 25 ألف شخص، وإن لم يبرز اسمها على الإعلانات، لأنها لم تكن قد حصلت على ترخيصها الرسمي.

وهذه الشركة التي تسم تطلعاتها بـ«الجريئة» و«المغامرة» يبدو أنها تسعى لاستقدام العروض الضخمة، التي تحتاج تمويلات كبيرة. ودلالة أخرى على أن بيروت تريد أن تحيا من دون التفكير بهواجس تحاصرها، هي هذا المسرح الضخم الذي نصبته مؤخرا شركة «سوليدير»، على الواجهة البحرية. وهو ربما أحد أكبر المسارح التي عرفتها العاصمة اللبنانية على الإطلاق، استعدادا لدور واعد لبيروت في مجال الفنون والعروض.

وتقول مسؤولة من شركة «روت 69»: «كانت الإمارات العربية هي الدولة العربية التي تستقدم الأسماء العالمية بشكل خاص، لكننا الآن نشعر بأن هناك نقصا لا بد من تعويضه؛ نريد أن نجعل بيروت مركزا يمر به الفنانون العالميون ليأتيهم عشاقهم من كل البلدان المجاورة، بما فيها قبرص وتركيا، وليس هذا بعسير، بدليل أن نجاح حفل شاكيرا كان كبيرا».