النفط.. وإرادة التنمية

أوجه خلل كثيرة بحاجة إلى تصحيح

«العين بصيرة.. مثلث التجاهل: النفط والتنمية والديمقراطية» علي خليفة الكواري منتدى المعارف - بيروت 2011
TT

«العين بصيرة» عنوان كتاب للقطري، علي خليفة الكواري، المساهم المؤسس منذ عام 1979 في منتدى التنمية، الذي يتخذ من أقطار مجلس التعاون الخليجي إطارا لعمله، والمشارك منذ عام 1991 مع الدكتور رغيد الصلح في تنسيق نشاطات مشروع «دراسات الديمقراطية في العالم العربي»، الذي يتخذ من أكسفورد مقرا له.

يجمع الكتاب خيط واحد من الاهتمام يعبر عن محاولات كشف أوجه الخلل المتعددة لتصحيحها، والسعي إلى تنمية فهم مشترك أفضل لإصلاح الأوضاع المتردية على المستوى الوطني والإقليمي والعربي، وذلك مساهمة مع الباحثين والفنانين والكتاب والإصلاحيين عامة، الذين تناولوا مشكلات النفط والتنمية، والعلاقة الجدلية بين استخراج الطاقة الناضبة يوما والمستقبل.

ويسعى هذا الكتاب إلى المساهمة في إيجاد فهم أفضل لأسباب الأوضاع النفطية الراهنة، بهدف تنمية وعي المعنيين بأبعادها وتنبيههم إلى مخاطر انعكاسات تلك الأوضاع في المديين القريب والبعيد، باعتبار هذه الأوضاع مقيمة بظلها الثقيل وليست أوضاعا عابرة. فالتحولات التي أدت إلى تغيير سوق النفط من سوق بائعين إلى سوق مشترين، وأدت إلى انحسار الطلب على صادرات الدول الأعضاء في «أوبك»، وكسر إرادتها عندما عجزت «أوبك» عن حماية سعرها المعلن، وانهارت أسعار النفط، هي تعبير عن نجاح استراتيجية وكالة الطاقة الدولية في ضوء عجز «أوبك» عن صياغة استراتيجية ذات توجهات تنموية تسمح للدول الأعضاء فيها بتقليل حاجتها إلى تصدير النفط بشكل عام وتصديره إلى الدول الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية بشكل خاص.

ويهدف الكتاب أيضا إلى إبراز دور وكالة الطاقة الدولية فيما حدث من تحولات في أسواق الطاقة وسوق النفط منذ عام 1974. ولعل إبراز هذا الدور يساعد على تحري الأسباب التي أدت إلى الأوضاع النفطية الراهنة كأوضاع مقيمة وليست عابرة.

يلخص القسم الأول من الكتاب أبعاد التحولات الجذرية التي شهدتها أسواق الطاقة وسوق النفط منذ عام 1974 وأدت منذ عام 1985 إلى استعادة الدول المستهلكة سيطرتها على سوق النفط، وتمكنها من توجيه أسعاره وفق مصالحها البعيدة المدى.

ففي الربع الأخير من عام 1973، وعلى أثر حرب أكتوبر (تشرين الأول)، والمقاطعة النفطية العربية للولايات المتحدة وهولندا، فقدت الدول المستهلكة للنفط سيطرتها على أسعاره، فارتفع سعر البرميل من أقل من ثلاثة دولارات إلى نحو 11 دولارا اعتبارا من يناير (كانون الثاني) 1974.

وفي نهاية عام 1985 لم تستطع الدول الأعضاء في «أوبك» الدفاع عن السعر الرسمي الذي قررته، على الرغم من محاولاتها برمجة الإنتاج من مطلع الثمانينات. وبذلك انهار السعر الرسمي للنفط من 28 دولارا إلى نحو عشرة دولارات. وظل يتأرجح بعد ذلك عند مستوى أقل كثيرا من السعر الذي حددته «أوبك» منفردة في نهاية عام 1973. وبذلك استعادت الدول المستهلكة للنفط، ممثلة هذه المرة في وكالة الطاقة الدولية، سيطرتها على سوق النفط بفضل تحولات جذرية تغيرت بموجبها سوق النفط من سوق بائعين إلى سوق مشترين. ويمكن ملاحظة خمسة مظاهر رئيسية لهذه التحولات وهي:

1- انخفاض معدلات الطلب على الطاقة:

يعود ذلك إلى سلسلة إجراءات أدت إلى تطوير تقنيات ساعدت على ترشيد استخدام الطاقة.

2- تغييرات هيكلية في نمط استهلاك الطاقة:

تغير هيكل الطلب بشكل تدريجي منتظم، وأخذت بدائل النفط تحتل حصصا متصاعدة في موازين الطاقة.. فالطاقة النووية التي لم يزد نصيبها على 0.4 في المائة عام 1973 ارتفع نصيبها إلى 5 في المائة عام 1987. وكذلك زاد نصيب الطاقة المائية من 0.3 في المائة إلى 6.7 في المائة في الفترة نفسها، وكذلك زادت مساهمة الغاز الطبيعي من 18.6 في المائة إلى 19.9 في المائة عام 1987. فانخفضت نسبة مساهمة النفط في استهلاك الطاقة من 45 في المائة إلى 37.6 في المائة عام 1987.

3- الظاهرة الثالثة البارزة في تحولات أسواق النفط والطاقة تتمثل في تراجع الطلب العالمي على النفط منذ عام 1987: ويعود ذلك إلى إدراك العالم لتزايد شح الموارد النفطية وعدم قدرتها على تلبية حاجات العالم المتزايدة من ناحية، ولوجود معظم احتياطات النفط في منطقة جغرافية واحدة هي المنطقة العربية وجارتها إيران من ناحية أخرى. لذلك لم يزد الطلب العالمي على النفط في الفترة 1973 - 1987 سوى بنسبة 7.3 في المائة، في حين بلغت نسبة الزيادة على الطاقة بوجه عام 32.1 في المائة في الفترة نفسها.

4- انحسار الطلب العالمي على صادرات «أوبك»:

برزت ظاهرة انحسار الطلب العالمي على صادرات «أوبك» منذ عام 1978 بعد أن بلغت صادراتها من النفط الخام يوميا 27.6 مليون برميل لتصل إلى 10.8 مليون برميل عام 1985. وعلى الرغم من انخفاض الأسعار ظل الطلب في انخفاض.

تعود ظاهرة هذا الانحسار إلى نمو صادرات الدول غير الأعضاء في «أوبك» على حساب حصة «أوبك».

5- هبوط أسعار النفط إلى حدها الأقصى.

نتج عن تبلور الظواهر الأربع السابق رصدها، تحولات جذرية في أسواق النفط منذ عام 1973، أدت إلى عودة سوق النفط إلى سوق مشترين تتحكم فيها الدول المستهلكة. وبطبيعة الحال عندما يتحكم المشترون في السوق يكونون غير مضطرين إلى دفع سعر يفوق سعر التكلفة الحدية لإنتاج النفط، بعد أخذ مسألة تكلفة الإنتاج في الحقول التي يلزم تطويرها من أجل استمرار السوق سوق مشترين.

سهلت «أوبك» نجاح سياسات وكالة الطاقة الدولية بركونها إلى سياسة أحادية البعد ترتكز على تحديد السعر من دون تهيئة الدول الأعضاء إلى تقليل اعتمادها تدريجيا على صادراتها من استثمار عائدات النفط وتوظيفها في بناء قاعدة اقتصادية بديلة للنفط. ولعل «أوبك» غالطت نفسها كثيرا عندما خيل إليها أن الظروف التي أدت إلى امتلاكها قرار تحديد الأسعار هي ظروف من صنعها, فقد تناسى القائمون على إدارة «أوبك» أن الظروف التي أدت إلى امتلاكها لهذا القرار كانت مجرد صدفة تاريخية تهيأت مرتين واستفادت منها الدول المصدرة للنفط.

يبدو أن «أوبك» لم تدرك، أو لم يُسمح لها أن تدرك، أن استراتيجيتها يجب أن تكون نقيضة لاستراتيجية وكالة الطاقة الدولية، وسبيلها الوحيدة إلى ذلك تحويل سوق النفط إلى سوق بائعين عن طريق تبني استراتيجية ذات توجهات تنموية غايتها بناء قاعدة اقتصادية بديلة للنفط تسمح بتقليل الاعتماد تدريجيا على صادرات النفط، من منطلق أن النفط مصدر ناضب لا يجوز الاعتماد عليه، وليس من منطلق احتكار النفط ورفع أسعاره واستخدام عائداته للتظاهر بالغنى ومواصلة التبذير، ومثل هذه الاستراتيجية ممكنة، وإن كان من غير المحتمل أن تتبلور في ضوء غياب سياسات نفطية ذات توجهات تنموية في الدول ذات التأثير في قرار «أوبك».

لعل العائق الرئيسي لوجود سياسات نفطية ذات توجهات تنموية يتمثل في ضرورة إجراء إصلاح شامل ومشاركة كاملة لكافة الشرائح المنتجة، تتيح للدول المصدرة للنفط التعامل مع ظاهرة تراجع العائدات النفطية وتوزيع أعبائها بشكل عادل، الأمر الذي يحول دون بزوغ الأمل الذي يتوقف عليه الأمن الاقتصادي والسياسي للدول المصدرة للنفط. وذلك يعتمد على عنصرين:

أولهما: صياغة أنظمة استرشادية بقصد تشجيع الاستثمار في غير المجال النفطي.

وثانيهما: إزالة القيود عن التجارة البينية وتجارة الترانزيت وانتقال عناصر الإنتاج بقصد إيجاد سوق أرحب للاستثمار.

يحدد المؤلف المهمة المركزية للاستثمار في دول مجلس التعاون الخليجي كمثال يحتذى فيرى:

المهمة المركزية للاستثمار في دول مجلس التعاون الخليجي من منظور اقتصادي تتمثل في بناء قاعدة اقتصادية بديلة للنفط فيما بقي من زمن يمكن الاعتماد فيه على النفط، لذلك فعندما نتحدث عن التنمية فإننا نقصد المعادل الموضوعي للاستثمار. فمهمة الاستثمار في دول المنطقة بناء قاعدة اقتصادية بديلة للنفط تكون مرتكَزا لعملية التنمية الشاملة ومصدرا لأداء وظائف حيوية يقوم النفط بأدائها في الوقت الحاضر. وبين أن الوظائف التي يجب على القاعدة الاقتصادية البديلة للنفط أن تضطلع بها تدريجيا خمس مهمة:

1- إيجاد فرص عمل منتج ومجزي يكفي لاستيعاب قوة العمل المحلية المتزايدة.

2- إنتاج متطلبات إشباع الحاجات الأساسية للسكان وتصدير سلع وخدمات (غير النفط) تكفي لسد الواردات.

3- توفير مصادر بديلة للدخل القومي وميزان المدفوعات.

4- توليد فائض اقتصادي سنوي يكفي لتلبية الاستثمارات الجديدة.

5- تمكين القاعدة الاقتصادية البديلة من تدعيم ذاتها واستمرارها في أداء وظائفها في المستقبل.

آفاق التنمية رحبة، وأبوابها مفتوحة، وكلمة السر تتمثل في إرادة التنمية، وإدارة التنمية، وهي قضية مجتمعية كبرى تتطلب التوافق حولها باعتبارها رؤية وطنية مستقبلية لكسب المستقبل، ولا بد أن تتبناها أغلبية أفراد المجتمع، ويتم الالتزام بمتطلبات وضعها موضع التطبيق من قبل الدولة حيث إن هناك خيارات صعبة وتضحيات تطال جميع الفئات بما فيها النخب الحاكمة وأصحاب النفوذ، كما أن هناك منافع وفرصا يجب أن يعم خيرها الجميع.

يؤكد المؤلف خلاصاته في موضوع التنمية بدراسة الطفرة النفطية الثالثة في عام 2002، حيث وصل سعر برميل النفط إلى 147 دولارا، وكان على «أوبك» والأقطار العربية خاصة أن تكون كبش الفداء، وأن تكون المزود الحدي لسوق النفط بصرف النظر عن مصلحتها. ينكمش الطلب عن نفطها كلما كان هناك بديل منه، ويتم الضغط عليها لتخفيض الأسعار نتيجة اعتمادها المطلق على عائدات تصدير النفط، وحاجة حكوماتها السياسية والأمنية إلى الدول الكبرى المستهلكة للنفط.

كان على الأقطار العربية أن تلبي ذلك الطلب حتى تصل إلى طاقتها الإنتاجية القصوى، بصرف النظر عن قدرتها الاستيعابية المنتجة لعائدات تصدير النفط وقدرتها على استثمار فوائضها في الخارج بشكل يحافظ على القوة الشرائية لتلك الفوائض، وتكون آمنة.

لقد كان الارتفاع إلى مستوى 147 دولارا للبرميل في يوليو (تموز) 2008 يعبر عن النزع الأخير للمضاربات الشرهة التي سبقت انكشاف الأزمة المالية العالمية. أما ما تلا ذلك من انخفاض تحت مستوى 70 دولارا في سبتمبر(أيلول) 2008، فإنه يعود إلى تراجع الطلب العالمي على النفط مؤقتا، بسبب بوادر الانكماش والكساد الاقتصادي في الدول الصناعية، واستخدام الدول المستهلكة لمخزونها الاستراتيجي الضخم الذي بلغ 2.6 مليار برميل في نهاية 2007.

على الجيل الحالي دين مقابل استنضاب الثروة النفطية التي تكونت عبر ملايين السنين للأجيال المقبلة، وعليه أن يستثمر عائدات النفط بدلا من استهلاكها. ولن يتم ذلك دون بناء قاعدة اقتصادية إنتاجية تكون بديلة من الاعتماد على تصدير النفط.