«هيئة قصور الثقافة» تدخل الزمن الثوري

جلسات عصف ذهني لرسم استراتيجياتها الجديدة

TT

كيف سيتم تسيير مؤسسات مصر الثقافية الرسمية بعد الثورة، وتحديدا ما هي الخطة التي سيتبعها رئيس «هيئة قصور الثقافة» الجديد، سعد عبد الرحمن، وهو القادم من الشعر وميدان التحرير؟ كيف سيتم رسم الخطط؟ ومن يتخذ القرارات؟ وما الفرق بين العمل الثقافي في ظل نظام مبارك، ورؤى الثورة؟

«أقف ضد ما هو سائد ومن هو سائد»، بهذه العبارة يلخص الشاعر المصري سعد عبد الرحمن رؤيته للعمل الثقافي العام، بعد أن تولى رئاسة «الهيئة العامة لقصور الثقافة»، أخطر جهاز ثقافي ينتشر عبر بيوت ومراكز وإدارات ثقافية في المدن والقرى والمحافظات. ويذكر عبد الرحمن أن صرخته هذه في مؤتمر أدباء مصر عام 2005، جعلته يدفع الثمن غاليا وقتها، حيث أدرج اسمه، ضمن الواقفين ضد منطق توريث الحكم الذي كان يسير على قدم وساق.

ولا ينكر سعد عبد الرحمن أن موقفه من النظام المصري القديم حدد أيضا المستوى الوظيفي الذي يمكن أن يصل إليه في الترقي الإداري، حتى أنه يقول: «لو لم تقم الثورة ما كان لمثلي أن يرأس الهيئة العامة لقصور الثقافة». فالرجل هو أول مسؤول مصري يعلن أن الكرسي الذي يجلس عليه الآن، يقف على أكتاف شباب «فيس بوك». صرخته العفوية في وجه التوريث، لم تذهب هباء، فقد جعلتها رياح ثورة 25 يناير بمثابة شهادة لثائر في ثوب شاعر. وهو يجتهد ليكون موظفا نوعيا، له بصمته الخاصة، في صرح كبير تحول، تحت وطأة الفساد الإداري إلى متاهة، أو غابة موحشة، قلما تزورها الأمطار والأعشاب.

عن حدود الاختلاف في العمل الثقافي بين النظام القديم والنظام الثوري الآن يقول عبد الرحمن: «الاختلاف الجوهري أنك تعمل الآن دون ضغوط أو تخوف. كنا نعمل ولدينا شعور أن هناك من يراقبنا، وأن كل تصرفاتك محسوبة عليك. وهو ما كان يخلق جوا من التوتر وعدم الاطمئنان. فكنت أحيانا تريد فعل شيء لكن التعويق المستمر من هذه الجهات أو تلك يشيع جوا من عدم الثقة في النفس. بالإضافة إلى أن كثيرا من القيادات كانت تعمل بمنطق (ابعد عن الشر وغني له) بمعنى عدم الاقتراب من الأنشطة التي يمكن أن تكون محل شك من ناحية رضا النظام السياسي عنها».

وينفي عبد الرحمن أن يكون قدم اعتذارا عن الوظيفة العامة في ظل نظام ثوري كان يحلم به، تحت وطأة مشكلات إدارية وفئوية لا يستطيع حلها قائلا: «ما قدمته لم يكن اعتذارا بل استقالة، وهي ليست تخليا عن المسؤولية في هذه اللحظة ولكنها ظرف إنساني؛ حيث إن لكل إنسان سقفا من الاحتمال وحينما يصل الإنسان إلى هذا السقف فليس أمامك وقتها غير الانسحاب. أنا لست هنا كنوع من التشريف ولكنه تكليف كبير بمهمة محددة. والكرسي في هذه الحالة (تيفال) وغير لاصق. وبالمناسبة هذا المنصب لم يكن ليوكل إلي في ظل النظام القديم، لأنه كان يرقي بعض معارضيه لكن بحدود لا يمكن تجاوزها». أما سبب ضيق سعد عبد الرحمن في هذه اللحظة التي كان ينتظرها فهي أن المطالب تتجاوز طاقته. ويكمل: «قلت لهم أنا لست نبيا وأنتم بهذا تحتاجون نبيا. لقد كان مطلوبا مني قبل أن أكمل أسبوعين في المنصب أن ألبي عشرات المطالب وأن أحل عشرات المشكلات، في الوقت الذي لم أكن أعرف بعد عدد أدراج مكتبي، فكيف لي إذن أن أستطيع حل مشكلات تراكمت عبر سنوات طويلة، بالإضافة إلى أن هناك طلبات فيها قدر كبير من المغالاة، كأن يطلب منك البعض بإلحاح عزل فلان وفلان وفلان وفلان من مناصبهم، لماذا؟ يقولون: فاسدون. وحين تسأل: ما الدليل؟ يقولون: لا يوجد دليل.. لقد أسقطنا مبارك دون دليل، تظاهرنا واعتصمنا حتى أسقطناه. فقلت لهم: هذا منصب سياسي، وما يجوز مع المنصب السياسي لا يسري على المنصب الإداري والتنفيذي». يشرح الرجل: «يمكنك أن تسقط رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء حتى لو كان صالحا، مجرد عدم الرضا عنه أو عن أدائه يسقطه، حتى دون تظاهر. المقصد أنني لا يمكنني اتخاذ قرار لا أستطيع الدفاع عنه ولا أملك مبررات موضوعية لاتخاذه لمجرد إرضاء الناس».

يرى عبد الرحمن أن المطالب الفئوية التي رفعت في هيئة قصور الثقافة، وفي مؤسسات مصر الأخرى، لا تتعارض مع أهداف الثورة وتعوقها، لافتا إلى أنها ليست بالحجم الذي يتصوره البعض؛ وعلى حد قوله: «في هيئة قصور الثقافة مثلا يوجد نحو 15 ألف موظف، لو حسبت الذين يحتجون فلن يزيدوا على مائة موظف. لو قارنت بين المائة وعدد موظفي الهيئة، بل بينهم وبين عدد الموظفين الموجودين في ديوان عام الهيئة وهم يزيدون على 2500 موظف فلا يشكلون نسبة تذكر. بالإضافة إلى أن نسبة من هذه الاحتجاجات يغذيها البعض بعيدا عن الاحتجاج الفئوي البريء والصادق، هذا موجود أيضا. وهناك من هو متعاطف مع هذه الاحتجاجات تحت ضغط الحماسة الزائدة. فكلنا يعلم أنه ليس كل من كان موجودا في ميدان التحرير ناشطا سياسيا. أقصد أن هناك من اعتبر مجيئي خسارة لبعض المكاسب المالية التي كان يحصل عليها بغير وجه حق. هناك من يتظاهر دفاعا عن حقوق مشروعة، وغيرهم يتظاهرون من أجل الحفاظ على بعض الامتيازات، وهؤلاء مرفوضون».

بحدس الشاعر الممسوس بقضايا وطنه يحرص عبد الرحمن على الذهاب إلى ميدان التحرير في كل جمعة. يعلق على هذا المشهد بقوله: التظاهر في التحرير الآن ليس هدفه أكثر من التذكير بمطالب عالقة، والضغط لإرسال رسالة بأن الثورة ما زالت مستمرة حتى تحقيق كل المطالب. لذلك فالميدان بعد السادسة يصبح خاويا، والمجموعة التي تصر على الاعتصام قليلة جدا ولا تجد آذانا مصغية. بالنسبة لي أصبح ميدان التحرير بمثابة نافذة ورئة أتنفس بها الهواء النقي.

من واقع المسؤولية والخبرة الطويلة في العمل، لا يتفق عبد الرحمن مع بعض من يرون أن العمل الثقافي قبل ثورة يناير كان يعاني فشلا، ويقول: «لا أوافق على هذا التصور بشكل كامل. هذا البلد يملك كوادر كثيرة جدا كانت وستظل عصية على التطويع. هؤلاء رغم كل ما كانوا يواجهونه بقوا يرون أنهم جزء من الدولة المصرية وليسوا جزءا من النظام المصري، وبالمناسبة هذا ما حافظ على كيان البلاد من الانهيار».

أحد التشكيليين شبه هيئة قصور الثقافة بأنها «صرح كبير يجب هدمه»، وأن موقعا ثقافيا خاصا مثل ساقية الصاوي أكثر فعالية من هيئة يتبعها 546 موقعا ثقافيا في مصر كلها. يقر عبد الرحمن بضرورة إعادة النظر في عمل الهيئة، وأن يطال التغيير الجذري عددا من المواقع بها. ويرى أن ساقية الصاوي تجربة ناجحة وجيدة، لكن مقارنتها بالهيئة يحمل ظلما وإجحافا كبيرين للهيئة ودورها. ساقية الصاوي - بحسب رأيه - «تعمل في نطاق محدود للغاية جغرافيا، لا يتجاوز القاهرة، كما أنها متحررة من الأهداف الاستراتيجية الكبرى للوطن، وليست مسؤولة عن تثقيف الناس، وتقدم خدمة ثقافية مدفوعة الأجر في معظمها. كما أن ساقية الصاوي ليست مسؤولة عن تنوير المواطنين ومواجهة الأفكار الظلامية التي تثير الفتنة الطائفية. لكن الهجوم على الهيئة ومقارنتها بساقية الصاوي ينبع مما يؤمله المصريون من هيئة قصور الثقافة لما لها عندهم من رصيد منذ الستينات. بالإضافة إلى أن ساقية الصاوي تجذب انتباه الإعلام، في الوقت الذي تقيم الهيئة يوميا مئات أضعاف نشاطات الساقية لكن الإعلام لا يسلط عليها الضوء. وإذا جاءت وسائل إعلامية فإنهم يأتون ليصوروا الوزير أو رئيس الهيئة في يوم الافتتاح، ولا يهتمون بالنشاط نفسه».

وحول ما يمكن أن تقدمه الهيئة في مواجهة الأفكار التي تستغل الدين والمثيرة للفتنة الطائفية مثلا، يوضح عبد الرحمن: «نحن لا نعمل لصالح تيار ضد تيار آخر، لكننا نعمل في اتجاهين: إيجابيات نشجعها، وسلبيات نحاربها. وفي الوقت نفسه هناك مجموعة من الملتقيات لمجموعة من المثقفين منهم مثقفون من أبناء الهيئة، سيجلس الجميع في هذه الملتقيات في جلسات عصف ذهني حول استراتيجية جديدة للهيئة وآليات تنفيذ هذه الاستراتيجية. بعد ذلك تأتي المرحلة الثانية وهي تقديم أوراق مدروسة، بحيث نستطيع في النهاية أن نضع أيدينا على أهداف استراتيجية وآليات ينبغي أن نعمل بها تناسب هذه الأهداف. في الوقت نفسه لسنا متوقفين عن العمل، فهناك مجموعة من اللقاءات الثقافية لمجموعة من الشباب المثقف المهتم بتثقيف الناس سياسيا وتوعيتهم حول المرحلة الجديدة».

لكن، كيف تتعامل الهيئة لمواجهة المد الديني الموجود في الشارع. من وجهة نظر عبد الرحمن؟ «المد الديني ليس مشكلة. المشكلة الحقيقية تبدأ عندما يتصور أحد أنه يحتكر الحقيقة، هنا تبدأ تغذية التطرف والاحتقان الطائفي والإقصاء، ويصبح المد الديني سلبيا وتجب مواجهته، لكنها ليست مواجهة عن طريق الوعظ المباشر الممجوج، ولكن عن طريق غير مباشر مثل تبسيط المفاهيم للناس بتواضع ومحبة».

يعترف عبد الرحمن بأن الوظيفة أثرت على اهتمامه بنشر إبداعه، لكنها لم تؤثر على نسبة إنتاجه. ويبرر ذلك بأنه «مقل أصلا، وهذا ليس عيبا». فهناك شعراء كثيرون في تاريخ الشعر العربي مقلون جدا رغم موهبتهم الشعرية. هناك تياران في الشعر العربي من هذه الناحية. تيار مقل ينحت في صخر، وأشهر هؤلاء الفرزدق، وتيار آخر يغرف من بحر. بل إن هناك شعراء مهمون في تاريخ الشعر العربي عرفوا بقصيدة واحدة مثل مالك بن الريب التميمي التي لا تعرف له سوى القصيدة التي قال فيها راثيا نفسه:

صريع على أيدي الرجال بقفرة

يسوون قبري حيث حم قضائيا

أقول لأصحابي ارفعوني لأنني

يقر لعيني أن سهيل بدا ليا

خذاني فجراني ببردي إليكما

فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا

يذكر عبد الرحمن أن الأبيات التي كانت ترن في أذنه أيام الثورة - وهو واحد من حفظة الشعر العربي - كثيرة جدا، لكن أهمها بيت أحمد شوقي الشهير: «وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق».