السعودية: «ممانعة» الانفتاح الثقافي تفقد صلابتها

مثقفون: ثقافة الإقصاء وهيمنة الرأي الواحد لم تعد تلقى قبولا

لقطة من معرض الرياض الدولي للكتاب، العام الماضي («الشرق الأوسط»)
TT

الجدل في مسألة ثقافة الانفتاح والمشاركة كبديل للإقصاء والتهميش، يأخذ منحى مختلفا هذه الأيام. فيما مضى كانت ثمة ممانعة لا ترى وجودا لمشكلة الإقصاء والتهميش واستبداد الرأي الواحد، وهذا النوع من المعضلات في بنية الثقافة المحلية، وإنكار المشكلة يقود حتما للتعمية عليها ومن ثم تفاقمها وتعاظم الآثار التي تنجم عنها.

اليوم، هناك اعتراف بهذه المشكلة، وإن بتوصيفات مختلفة.

بعد ثورة الاتصالات، وبعد الثورات التي تعصف اليوم بالعالم العربي، تنبري مجموعة من المثقفين لاعتبار أن هيمنة فكر ما، أو ثقافة ما، مهما كانت مبرراتها، من شأنها أن تدفع لمزيد من التوترات الاجتماعية وتقليص مساحة التعايش.

ثمة مثقفون سعوديون يعتبرون أن الثقافة العربية تتوارث مشكلة أحادية الثقافة والرأي، وعزل مخالفيها، وازدراء آرائهم. في حين يفرط آخرون في رسم ملامح رومانسية لمشهد يشهد ربيع التعايش الفكري.

وفي حين يشير مثقفون إلى تجذر ثقافة الأحادية في المجتمع السعودي، بسبب البيئة الاجتماعية وسيطرة ثقافة القبلية، يرى آخرون أن التفكير الأحادي والجنوح إلى ممارسة ثقافة الإقصاء، هو سلوك اجتماعي قبل أن يكون نمطا ذهنيا تسلطيا يهتم بالسيطرة الكاملة على ملامح المشهد الفكري والثقافي لأي مجتمع، معزين ذلك لانحسار مسيرة الحركة العلمية الصحيحة، جراء ضغط بعض التوجهات الفكرية الأحادية، وبسبب تحويل اهتمام أفراد المجتمع نحو مسارات علمية طبيعية بحتة.

* عبد الله الناصر: الإقصاء يوازي الاستبداد

* في تحليله لثقافة الإقصاء، يعيد الكاتب السعودي الدكتور عبد الله الناصر، مستشار وزير التعليم العالي وعضو مجلس الشورى، المشكلة إلى نزعة متأصلة في الثقافة السائدة لدى المجتمع العربي ككل، والتي تكرس لثقافة الأحادية والاحتكارية والاستبدادية. مبينا أن هذه الثقافة غير الحرة تسيطر بشكل سافر على مختلف المنابر بمختلف الوسائط، غير أنها غير دائمة.

واعتبر الناصر في حديثه لـ«الشرق الأوسط» الثقافة منتجا اجتماعيا، ومن ثم فهي تعكس حالة المجتمع، مبينا أن المجتمع العربي يعيش حالة عدم توازن ثقافي وفكري منذ زمن بعيد، وذلك بسبب عدم التوازن السياسي والاقتصادي، مما يعني ارتباط شكل ومكونات الثقافة بهذه الحالة، مشيرا إلى تغلغل وهيمنة هويات قاتلة استعمارية وعنصرية، نتج عنها خلخل في تركيبة العقلية المكونة لهذا المجتمع.

ويتحدث الناصر عن الحراك الثقافي الذي أعقب الثورات العربية التي انطلقت شرارتها من شمال غربي أفريقيا وتحديدا تونس، وزحفت لتشمل قطاعات كبيرة من شمال أفريقيا مرورا بليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن. معتبرا أن حركات التغيير التي شهدها العالم العربي كانت ردة فعل لتكريس الثقافة الأحادية والاحتكارية والاستبدادية، في بعض تلك البلدان.

ويرى أنه بخلاف البلاد العربية، فإن البلدان المتقدمة كالولايات المتحدة وأوروبا تعيش ثقافة مختلفة تماما تعزز للثقافة الحرة بكل أشكالها الرأي والرأي الآخر ومحاربة الأحادية والإقصاء، مستفيدين من الثقافة التي أشاعها كبار الكتاب والمفكرين والمثقفين، أمثال الروائي الروسي الشهير تولستوي، والروائي والقاص الأميركي الكبير إرنست همنغواي، والكاتب الروسي أنطون تشيكوف، وتشارلز جنكيز، وغيرهم، من الكتاب الذين حملوا من خلال كتاباتهم الهم الإنساني البحت لأنهم كتبوا للإنسانية والإنسانية فقط.

* الوافي: أفول الفكر الإقصائي

* لكن إلى أي مدى يتفاقم الفكر الأحادي؟ يجيب الروائي والإعلامي إبراهيم الوافي: (الأحادية والإقصائية بصورتهما المباشرة تقلصت إلى حد كبير مع دخول الألفية الثالثة، والانفتاح على الآخر بطرق شعبية من خلال ثورة الاتصالات، وبالتالي حدث هناك تلاقح وتمازج بين الأفكار على كل المستويات، وأصبح الآخر دائما على مرمى اهتمام وتأمل دون توجيه سياسي أو فكري أو اقتصادي من خلال قنوات خاصة سواء كانت رسمية أو فئوية).

وبالنسبة للوافي، فإن التفكير الأحادي كان دافعا لنزعة التطرف، (فالتفكير الأحادي أحدث لذاته نكوصا شنيعا من خلال حالات التطرف التي تلبسته وعانى منها المجتمع ويلات كثيرة لعل أكثرها وضوحا الإرهاب الذي أفاقت الألفية الجديدة على ويلاته في كل المجتمعات).

وبرأي الوافي، فإن خارطة الطريق للخروج من هذا المأزق هي الحوار المتعدد، حيث (إن أكبر مواجهة لهذه الأحادية أو الإقصائية في مجالاتها المتعددة يكمن في إشاعة ثقافة الحوار كفعل مضاد لثقافة الإقصاء وتكثيف حضوره الإنساني على كل المستويات)، وبالنسبة للمجتمع السعودي فهو (على قدر كبير وواع لهذه الحقيقة، ولهذا فهناك من يتصدى لثقافة الحوار لتحويله من قيد النظريات إلى واقع التطبيقات).

* د. العطوي: فتح الأبواب

* من ناحيته قال الدكتور مسعد العطوي رئيس نادي تبوك الأدبي، إن الثقافة الأحادية متجذرة في بلادنا وفي غيرها من البلاد العربية، مبينا أن أسبابها تنطلق من منطلقات دينية واجتماعية متباينة.

وأضاف العطوي أن المكون الشعبي الذي يؤمن بصنمية الفرد يؤثر بشكل مباشر في شكل وطبيعة مثقفي تلك البيئة، حيث تشترك في أنماط سلوكية متشابهة، حتى بالنسبة للمجتمعات التي تعيش في المدن، حيث تبقى ثقافة القبيلة نافذة.

وقال العطوي، نحن في حاجة ماسة إلى إشاعة ثقافة قبول الآخر بل واستمزاجها، ويتعين صناعة حوار حر شفاف مسؤول في كل المنابر المتاحة دون قيود أو شروط مخلة، وهذا يعتمد على نوعية فكر المحاور ومرونته وسعة أفقه، حيث إنه كلما اتسم بثقة وفهم وثقافة مستوعبة، استطاع أن يزيح المعوقات التي تقف في طريق بناء أرضية ثقافية للجميع، كما أن العكس يأتي أيضا بنتيجة عكسية.

وبرأي العطوي، فإن وسائل الاتصال الحديثة سهلت مهمة حوار مع الآخر المختلف، ولم يعد هناك إمكانية لتقييد الحوار أو احتكاره لصالح جهة دون الأخرى، مبينا أنه من الصعوبة بمكان سلب الآخرين حقهم في التعبير العقلاني.

* الفضيل: ثقافة الإقصاء سلوك اجتماعي

* الكاتب الدكتور زيد الفضيل، قال لـ«الشرق الأوسط»: إنه لا يمكن الفصل في العلاقة بين الأحادية الفكرية والأحادية الاجتماعية، ذلك أن التفكير الأحادي والجنوح إلى ممارسة ثقافة الإقصاء، هو سلوك اجتماعي قبل أن يكون نمطا ذهنيا تسلطيا، يهتم بالسيطرة الكاملة على ملامح المشهد الفكري والثقافي لأي مجتمع، وبهذه الرؤية يمكن النظر إلى الأمر بشمولية واسعة، إذ مع الملاحظة يتبين أن ملامح الفكر الأحادي التي يجبر فيها الناس على الإيمان برأي واحد، وتفرَض عليهم صورة واحدة، ونموذج واحد، لا يترعرع إلا في أحضان تلك المجتمعات النائية التي يرتكز بناؤها الاجتماعي على ثنائية الغالب والمغلوب.