الانتفاضات العربية خلخلت الغرب المنافق

ياسمينة خضراء في حديث لـ «الشرق الأوسط» بمناسبة قرب صدور روايته الجديدة

ياسمينة خضراء
TT

الحديث مع ياسمينة خضراء - محمد مولسهول اسمه الحقيقي - مثير على أكثر من صعيد. هذا الروائي الذي ترجم إلى 32 لغة عبر أرجاء العالم ليس عاديا بكل المعايير بحكم ماضيه العسكري الذي لم يمنعه من الكتابة رغم كل العواقب الوخيمة المحتملة في ثكنة أشبال الثورة التي دخلها في سن التاسعة، فضلا عن بروزه أوروبيا وعالميا في فترة قصيرة. فإلى الحوار معه:

* هل تعتقد معي أن روايتك الأخيرة «نظرة المشردين» تعد استراحة محارب مقارنة برواياتك السابقة التي أكسبتك شهرة منقطعة النظير بسبب تناولك قضايا العنف في روايات الاغتيال وكابل وصفارات بغداد و«دين الليل على النهار» التي عدت فيها إلى الفترة الاستعمارية الفرنسية على طريقتك الخاصة؟

- كنت دائما متأثرا بالمشردين وسبق لي أن تناولتهم في رواية «الجهة الأخرى للمدينة» عام 1988 وعودتي إلى هذا الموضوع تدل على استمرار تعاطفي مع هذه الفئة المغبونة التي تعد مرجعية أساسية في مسار ذاكرتي الأدبية في آن واحد، وكما تعلمون فإن جون ستانبك هو مصدر تفاعلي مع المشردين وعنونت هذه الرواية التي كتبتها قبل 27 عاما «نداء المدينة» كمقابل لرواية «نداء الغابة» لجاك لندن. لقد كتبت هذه الرواية بالنفس الإبداعي الذي عرفت به وليس صحيحا القول إنها تعبر عن تراجع إبداعي، والذين كتبوا ذلك لا يعرفون ياسمينة خضراء.

* أنا لم أقل هذا، وقصدت باستراحة المحارب الموضوع الذي يختلف جذريا عن مضامين الروايات السابقة التي جعلت منك روائيا ملتزما وصاحب أسلوب روائي متميز.

- هذا صحيح، ولكنك تعرف بحكم اطلاعك على رواياتي السابقة أنني بقيت وفيا لأسلوبي الذي نال إعجاب الملايين من قراء المعمورة ومن حق كل واحد قراءة الرواية من منظور الموضوع أو الأسلوب، وخلافا للذين قالوا إنهم وجدوا صعوبة في التعرف علي، فإن الكثير افتتنوا بهذه الرواية من منطلق قراءة روائية محضة.

* إلى أي حد يمكن أن نربط موضوع الرواية بذاكرتك الشخصية التي تعيدنا إلى طفولتك العسكرية، أي بدخولك مدرسة أشبال الثورة في سن التاسعة؟

- هذه قراءة تاريخية صحيحة أيضا، واليتيم المشرد الذي جعلت منه بطلا في روايتي الأخيرة جزء من ذاكرتي الشخصية المرادفة ليتامى الثورة الذين كانوا شهود عيان على اغتيال آبائهم وحرق قراهم وتشريد واختفاء أقربائهم. بهذا المعنى، أستطيع القول إنني عشت بترا روحيا مكنني من أن أتحول إلى ولي أمر كل يتامى العالم الذين حرموا من طفولة عادية.

* محاربة اليأس كما فعلت في هذه الرواية هي رسالة كل رواياتك. أليس كذلك؟

- بلى.. بلى هذه هي حقيقتي الفكرية والأخلاقية والأدبية وكنت وسأبقى الأديب الذي يتناول الإنسان المتألم غنيا كان أم فقيرا، وكما قلت فإن هذا المنحى يفسر بآلام كبيرة كابدتها طيلة حياتي ومنها معاناة اليتم، والقارئ لكل رواياتي يكتشف أن الرسالة التي تتحدث عنها تتجاوز معنى الصمود في وجه الأهوال وتصل درجة البحث عن مخرج يحرر الإنسان من ربقة الضائقة النفسية والوجودية.

* إلى أي حد يمكن الربط بين وجودك في ثكنة عسكرية في سن التاسعة وبين تعاطفك مع المهمشين الذين كثيرا ما يجدون في الحياة العسكرية خلاصهم لأسباب اجتماعية قاهرة؟

- هذه قراءة صحيحة أيضا، وأستطيع القول إنني أحسست بالتهميش مجرد دخولي ثكنة أشبال الثورة في سن التاسعة وشخصيا لم أفهم لماذا اقتلعت من عائلتي لألتحق بعالم مغلق لم أكن مستعدا للعيش فيه. في الثكنة التي قضيت فيها ثلاثين سنة عرفت كل أنواع المهمشين واكتسبت ثقافة اجتماعية مكنتني من الغور في أعماق الذهنية الجزائرية، كما أن الثكنة كانت شاهدة على ميلي المبكر للقراءة وللكتابة الروائية اللتين مارستهما بكل السبل رغم الرقابة الصارمة.

* روايتك القادمة «المعادلة الأفريقية» تصدر هذا الشهر عن دار «جوليار».. ماذا عن موضوعها تحديدا؟

- في الرواية يقول رجل دين أفريقي لبطلي الأوروبي: «لا يجب أن تترك نفسك أسيرا للحزن واليأس ووحدهم الموتى لا يستطيعون النهوض من جديد». وخلافا لرواياتي السابقة، فإنني أتقمص لأول مرة شخصية أوروبي يسعى نحو الآخر الأفريقي بغرض التعرف على حقيقته بعيدا عن الأفكار المسبقة الناتجة عن الجهل وفعلت ذلك بعد ما سعيت في روايات سابقة لدعوة المسلمين والعرب للقيام بالشيء نفسه ضمن منظور بيداغوجي من شأنه تقريب الثقافات والحضارات من بعضها البعض من أجل عالم متنوع وتعددي وغير نمطي.

* هل أفهم أنك تريد التنديد بأصحاب الطروحات الكولونيالية والقديمة والجديدة حيال كل ما هو أفريقي وبذلك تكون قد أجبت ساركوزي الذي قال في خطابه بدكار أن الأفريقي لم يدخل التاريخ وتدارك الأمر سياسيا مؤخرا في حفل إدخال إيميه سيزير إلى مقبرة العظماء بباريس؟

- لم أقصد ساركوزي تحديدا ولا أحدا آخر من رجال السياسة الذين لا يشكلون هما في حياتي خلافا للناس البسطاء القريبين مني بحكم مشاركتهم الهواجس والانشغالات الإنسانية التي جسدتها في كل أعمالي الروائية، وهؤلاء يجدون أنفسهم في مقاربتي الفكرية والأخلاقية والأدبية، وكما أحبوا رواياتي السابقة سيحبون روايتي الجديدة التي دعوت فيها البطل الألماني إلى اكتشاف الفلسفة الأفريقية وقدرتها على إغناء الإنسانية الأمر الذي يسهم في وضع حدا لصدام الذهنيات وليس الحضارات كما يقول صمويل هنتغتون.

* ما رأيك كمثقف تحدث كثيرا عن الانتفاضات العربية - وليس الثورات كما قلت - عن الغرب الذي يعطي دروسا في الديمقراطية علما بأنه دعم الديكتاتوريات العربية التي تنهار من يوم لآخر، ويشككك اليوم في مدى نجاعتها بتلويحه بخطر الإسلاميين؟

- أنا أفرق بين غرب الشعوب الرائع وغرب التمذهب الآيديولوجي.

* أنت تعلم أنني أقصد الغرب الثاني..

- نعم.. نعم، فهمت قصدك وهذا الغرب سياسي ولا يعمل خارج روح المناورات والدسائس والمؤامرات والسعي المرضي نحو المصالح في ظل توجه قائم على النفاق والكذب والمكيافيلية. هذا الغرب ما زال يعمل على محاربة السلام الذي أسميه «البطالة التقنية» مقابل الحرب التي تضمن تموينه للشعوب المستضعفة التي يعتقد أنها غير جديرة بحياة سياسية مدنية وحضارية. وكتحصيل حاصل يمكن الاستنتاج بأن الانتفاضات العربية تحدث خللا في مشاريع الغرب في المنطقة وتعطل رؤاه، لكنه قادر بذكائه على إيجاد بدائل للأمر الواقع الذي يواجهه.

* وهذا ما هو بصدد فعله في تونس ومصر وليبيا..

- لا أستطيع أن أتنبأ بما سيحدث تحديدا، ولا أعتقد أن ذلك سيتم في هذين البلدين ويجب الانتظار للجزم. وخلافا لما حدث في تونس ومصر، فإن المشروع الغربي في ليبيا وكما قلت في حديث لمجلة «دير شبيغل» الألمانية، لا يتماشى مع مبدأ التحرر الفعلي لأن تدخل الناتو غير مقبول ومبرر حتمية تنحية القذافي بدعوة حماية شعبه غير مقنع أيضا والغرب الذي يبكي على الشعب الليبي اليوم هو نفسه الذي سكت على القذافي لعقود.

* بهذا التحليل أنت ترد على بابا المثقفين برنار هنري ليفي الذي قال لي عنه الممثل الشهير والمهمش ديودونيه إنه وزير الثقافة الحقيقي في فرنسا.

- من أكون أنا حتى أجادل سادة العالم الذين أعاني من سيطرتهم منذ أكثر من عقد والهجمة الشرسة التي تعرضت لها في الجزائر ليست معزولة عن مناورات هؤلاء الذين لا يرتاحون لنجاح روائي عربي ومسلم في الغرب.

* أفهم من كلامك أنك ما زلت تعاني مما تسميه بالهجمة الشرسة رغم أنني أعتقد أن رواج رواياتك في فرنسا والجزائر وفي الخارج من شأنه أن يخفف من وطأة تأثرك..

- الوضعية لم تتغير، وما زلت أتعرض لهجوم السلطة الجزائرية والمعارضة والفرانكفونيين والمعربين والأصوليين الإسلاميين وأنا عدوهم المشترك الأول والأخير في كل الأحوال ولا أفهم لماذا يشوهون صورتي ومواقفي وأقوالي في كل مناسبة. وسنرى ماذا سيقولون عن روايتي الجديدة.

* يبدو أنك تبالغ وشخصيا وقفت مؤخرا في الجزائر عند توزيع رواياتك وإقبال الناس عليها.

- لا أتحدث عن القراء وأقصد النخبة.

* لماذا لا تتفهم هذا العداء بحكم ماضيك العسكري وقبولك مهمة رسمية على رأس المركز الثقافي الجزائري في باريس وادعائك الحرية في آن واحد رغم أنك قلت في مناسبة سابقة إن الرئيس بوتفليقة هو الذي عينك شخصيا على رأس المركز؟

- لا أريد تفهمه لأنني أعرف من أكون وهذا العداء ما هو إلا نتيجة لتمكن الإمبريالية الثقافية من إقناع أبناء وطني أن من يخدم وطنه يعد خائنا الأمر الذي لم يعرفه أي بلد، وأرد على أولئك قائلا: تساءلوا لماذا قبلت المنصب رغم أنني غني ومشهور ولست في حاجة لأي شيء ويشرفني أن أخدم بلدا في طريق الانهيار، وأضيف أن من بين أعدائي صحافيا وجامعيا شهيرا يكتب في صحيفة جزائرية معروفة وينتحل صفة كاتب أميركي باسم جونتان كلاي.

* من هو؟

- لا أذكر اسمه لأن الموضوع شخصي

* سمعتك تقول في «إذاعة الشرق» إن ما يحدث في الدول العربية ليس ثورات، بل انتفاضات. لماذا؟

- لأن الثورات مرادفة لتصور آيديولوجي معين وبرنامج سياسي يحدد البديل لما كان قائما من قبل من جهة، والثورة الناجحة هي التي تغير الوضع وتثوره كما عرفنا عبر التاريخ من جهة أخرى، وكما تعرف، فإن ما هو قائم إلى حد الساعة غير واضح المعالم وعليه لا يجب التهليل بانتصار غير مؤكد وكمثقف أنا سعيد بهذه الانتفاضات التي أسقطت الطغاة ولا أملك إلا أن أدعو إلى التفاؤل الحذر لقطع الطريق على المتربصين من المنهزمين داخليا وخارجيا.

* كنت من أبرز الروائيين الذين كتبوا عن الإسلام السياسي الذي يبدو أن هذه الانتفاضات قد تجاوزته وهو الإسلام السياسي الذي يلوح بإمكانية عودته الكثير من المثقفين الغربيين الذين أيدوا أنظمة القمع المتهاوية بمبرر سد الطريق على الإسلاميين. ما هو تعليقك؟

- كنت من الذين عرفوا الإسلام السياسي بالعصيان المدني ضد أنظمة القهر والتهميش الجذري والتنديد به كتوجه لا يعني عدم تفهمه كظاهرة سياسية واجتماعية وهذا ما تناولته في رواياتي. الشيء الإيجابي والمتميز في الانتفاضات العربية يكمن في خصوصيتها السلمية التي أضحت درسا للإسلاميين ولمن سبقوهم من الحكام الطغاة عربا وغير عرب ناهيك عن بعدها البيداغوجي ونضجها السياسي غير المحسوب على هذا التوجه أو ذاك والمرادفة لحرية وكرامة الجميع.

* أخيرا، وكمثقف لماذا تأخرت الجزائر عن ركب الانتفاضات العربية وليس الثورات كما تفضل القول؟

- الجزائريون انتفضوا ضد السلطة أكثر من مرة منذ الاستقلال وكانت المرة الأولى عام 1988 حينما خرج الشباب يطالبون بحياة اجتماعية أفضل وبتعددية سياسية تضع حدا لعهد الحزب الواحد. في المرة الثانية عاشت الجزائر حربا حقيقية دارت بين الإسلاميين والسلطة وعرفت بالعشرية السوداء وهذه الحرب أنهكت كل الجزائريين وأتت على الأخضر واليابس وأدت إلى مقتل أكثر من مائتي ألف جزائري. الشعب الجزائري متعب اليوم وما زال متأثرا بما جرى ويتطلع اليوم إلى مزيد من الحرية والعدالة والكرامة، لا سيما أن البلد يمتلك كل مقومات العيش الكريم وعلى السلطة انتهاز فرصة الانتفاضات العربية لتستبق أي احتقان وتقوم بالإصلاحات التي يتطلع إليها الشعب.