هل يمكن إخضاع كل شيء للنقد في عاصمة النور؟

الرقابة في فرنسا تطارد أفكار باسكال بونيفاس

باسكال بونيفاس
TT

يعترف باسكال بونيفاس، بمرارة، وهو باحث وسياسي ومدير معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية في فرنسا، أنه عرض كتابه الأخير «المثقفون» Intellectuels faussaires على أربع عشرة دار نشر فرنسية فرفضته (معظمها كانت متفقة مع طروحاته - وهي أبعد ما تكون عن التطرف!)، حيث خشيت من عواقب نشره على سمعتها. هل كان يتصور أحد أن يحدث الأمر في فرنسا «بلد حقوق الإنسان والمواطن؟!»، فما الذي أدى إلى هذه الرقابة المقنعة في فرنسا؟

وبعد أن قبلت دار نشر صغيرة «Jean-Claude Gawsewitch» نشر كتابه، اصطدم بعائق آخر وهو رفض معظم وسائل الإعلام الفرنسية «بكل تنوعاتها» استدعاءه للحديث عن كتابه وتقديمه للقارئ. ولم تتطرق للكتاب سوى صحف ومجلات هامشية بعض الشيء، من قبيل مجلة «بوليتيس» الأسبوعية، في حين أنه نزل ضيفا على تاديي في برنامجه «ce soir ou jamais»، الذي يعتبر من أنجح البرامج الثقافية في القنوات الرسمية الفرنسية وأكثر حرية ومصداقية. وجاءت الصدفة من دعوته إلى برنامج «on est pas couché» الذي يخرجه لورونت ريكيي، وهو برنامج ثقافي ليلي متأخر، في حين تعمدت معظم البرامج السياسية والفكرية التي تعج بها القنوات التلفزيونية تجاهل كتابه.

ويتميز باسكال بونيفاس بكونه من المثقفين والباحثين الجديين الهادئين الذين يحس المستمع أو المشاهد معهم بالصدق والرغبة في الانفتاح على الآخر والإنصات لحججه، في حين أن أغلبية المثقفين الفرنسيين الذين باتوا يستوطنون وسائل الإعلام، يبدو أنهم يفضلون التهييج والصراخ وتوجيه الاتهام (ليفي، فنكلكروت، وغيرهما).

كرس بونيفاس كتابه الجديد لزمرة من المثقفين الفرنسيين (من بينهم ألكسندر أدلر وبرنار هنري ليفي وكارولين فوريست، وغيرهم) الذين يسيطرون على وسائل الإعلام الفرنسية وعلى المشهد الثقافي الفرنسي (فضح هذا الأمر الكاتب رونو كامو في كتابه «بادية فرنسا»، الذي تعرض لحملة شرسة أدت إلى تدخل القضاء ومسح صفحات من الكتاب، وانتهى الأمر بالكاتب معاديا للإسلام والمهاجرين!)، الذين لم يفعلوا سوى التعبير عن جهل مدقع بمواضيع اشتغالهم وكذا اجترار الأكاذيب في مختلف وسائل الإعلام، من دون خجل، بل ومن دون الشعور بأي قلق على مناصبهم، مما يساهم في تجهيل المستمع والمشاهد الفرنسي، بل والكذب عليه. والأمثلة كثيرة على المغالطات التي عبر عنها هؤلاء. وكمثال على ذلك، التصريحات الجازمة لألكسندر أدلر (كان اشتراكيا مع ميتران وتدرج في وضعيات عديدة قبل أن يستقر في كنف الرئيس نيكولا ساركوزي)، الذي يقدم نفسه على أنه خبير في الشأن الروسي تارة، وأوروبا الشرقية تارة أخرى، والذي أصبح، الآن، خبيرا في الشؤون العربية الإسلامية، بأن حرب الخليج الثانية لن تقع، وغيرها من التوقعات الكاذبة.

لا يبرز الكتاب أشياء جديدة عن الواقع الفكري الفرنسي الراهن، وهي حقائق يعرفها الكثيرون في فرنسا، ولكن لا يتجرأ كثيرون على الحديث عنها، بسبب وجود إرهاب فكري كبير في فرنسا. وهو إرهاب مسلط على كل من يتجرأ على القفز على الدوكسا الباريسية، أو التفكير بطريقة مختلفة فيما يتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي. ومن هنا تنبع خطورة هذا الكتاب. وباسكال بونيفاس لا يبدي ولا يكن أي عداء لإسرائيل، على الرغم من حملة التشهير به، وهو يدافع، فقط، عن حق الشعب الفلسطيني في دولة على حدود 1967 بجوار دولة إسرائيل.

ولكن من أين جاء هذا العداء الشديد الذي يتعرض له الباحث باسكال بونيفاس؟

قبل سنوات تجرأ باسكال بونيفاس، وكان لا يزال عضوا في الحزب الاشتراكي الفرنسي (وقد استقال منه الآن)، الذي يعشش فيه كثير من الصهاينة، على تأليف كتاب يتطرق إلى مسألة انتقاد دولة إسرائيل وتصرفاتها القمعية ضد الفلسطينيين. وتساءل فيه: هل يمكن أن ننتقد تصرفات دولة إسرائيل من دون أن نتهم بمعاداة السامية؟

الجواب، طبعا، في المشهد الفكري الفرنسي، واضح، وهو أن من يجرؤ على انتقاد إسرائيل، واحة «الديمقراطية» وسط صحراء القمع العربية، يعتبر معاديا للسامية يتوجب تكميم صوته.

لم يغفر اللوبي الصهيوني النافذ في فرنسا لباسكال بونيفاس «سقطته»، وهو، الآن، يدفع ثمن «وقاحته».

وإلى مدى يعلمه الله، ستظل المسألة الإسرائيلية في فرنسا تسمو على أي اعتبار لحرية التعبير والنشر، وسيظل الشعار: «فكر وانتقد أي شيء عدا إسرائيل»!