تجربة السعودية الناجحة في مكافحة الإرهاب

السفير السعودي لدى لبنان يبحث في أسبابه النظرية والعملية وكيفية معالجته

غلاف الكتاب
TT

مما لا ريب فيه أن الإرهاب بات اليوم أحد العناوين الأكثر حضورا على المسرح العالمي، بحيث يجتاح المعمورة في جهاتها الأربع. ولقد شكل تاريخ 11 سبتمبر (أيلول) 2001 محطة مفصلية خطرة في مسار الظاهرة الإرهابية، ما خلف تداعيات سلبية كبيرة، لا سيما لجهة تأزم العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي. إن الغرب، عبْر منظّريه غير المنصفين، يرى أن الدين الإسلامي مولد للظاهرات الإرهابية، يوفر السند المرجعي لسائر الممارسات العنفية. وقد أدى هذا التحامل على الإسلام إلى سجال لمّا ينتهِ. وجرّاء ذلك، وإمعانا في نشر جو تخويفي ترويعي من الإسلام لدى الغربيين، كان ابتداع مصطلح «إسلاموفوبيا»، أي الخوف من الإسلام!!

ووضعا للأمور في نصابها تصدى باحثون عرب وأكاديميون ورجال دين - ناهيك ببعض الباحثين الغربيين المنصفين - لهذه الموجة الظالمة التي وسمت الإسلام بالإرهاب ورأت أنه، بعد سقوط الشيوعية، شكل عدوا شرسا للغرب ولآيديولوجياته وتوجهاته العقيدية الفكرية.

وبسبب العداء الغربي للإسلام، وعقب أحداث سبتمبر 2001، كان غزو أفغانستان ومن ثم العراق. وما زال الجرح الأفغاني نازفا ويعاني الغرب بعامة، والأميركيون بخاصة، من ذلك التورط العسكري الذي لا سبيل إلى الخروج من مستنقعه! بينما يكابد العراق وضعا لا يحسد عليه، فهو يعيش حالة من التشظي على المستوى الطائفي والعرقي، وقد غدا مسرحا لفعاليات الكثير من التنظيمات الإرهابية.

كتاب سفير المملكة العربية السعودية في لبنان العميد علي عواض عسيري يشكل مرجعا لا غنى عنه لمن يريد التعمق في دراسة الظاهرة الإرهابية، فهذا المؤلف القيّم لم يغادر قضية تتعلق بهذه الظاهرة إلا وتوقف عندها مليا بعين رائية وفكر ثاقب ومقدرة تحليلية تتسم ببعد موضوعي، إلى معالجة منهجية تبغي جلاء الحقيقة والشهادة لها من دون زيادة أو نقصان.

وقد أكد السفير عسيري على هذا النهج في تعاطيه المسألة، فقال: «علينا، عند تحليل الإرهاب على الصعيد النظري والعملي، الابتعاد عن التعميمات والمدركات الجامدة الصماء والتفسيرات الأحادية» (ص35)، وليضيف في موضع آخر أن هذا الكتاب يمثل «مسعى إلى وضع الإرهاب، بكل ما يثير من جدل محتدم، في مكانه الصحيح. ويشمل ذلك أبعاده النظرية ومظاهره العملية» (ص9). وفي استعراض بانورامي لعناوين الكتاب، يتحصل لنا ذلك المسار المتدرج والمترابط في معالجة الظاهرة الإرهابية، بل إن هذا المؤلَّف هو كتابان في كتاب، أولهما يروح بعيدا في التنظير لهذه الظاهرة، عبر فصول أربعة: الإرهاب نظريا، الإرهاب في الممارسة، الإرهاب من المنظور الإسلامي، الأسباب العميقة للإرهاب. أما ثانيهما فهو كتاب قائم في ذاته، كونه ينكبّ على استجلاء التجربة السعودية في مكافحة الإرهاب، وذلك من خلال ثلاثة فصول: استراتيجية سعودية ضد الإرهاب: الأبعاد المحلية، استراتيجية سعودية ضد الإرهاب: المبادرات الدولية، محاكاة الاستراتيجية السعودية: أمثلة ونماذج.

ولقد جاءت خاتمة المؤلف لتفتح آفاقا أكثر اتساعا للمسألة المعالجة ولتدخلنا إلى عالم كتاب آخر، وذلك تحت عنوان: إعادة التفكير في مكافحة الإرهاب. وكأننا بالسفير عسيري يرى أن أطروحة الإرهاب قضية دينامية لا بد من مواكبتها وترصّدها بشكل مستمر، وبما يتيح مواجهتها درءا لمخاطرها متعددة الوجوه! إذا شئنا التوقف عند المحطات البارزة التي يستعرضها الكتاب، فإننا بإزاء خلاصات للاعتبار، بل هي مفاتيح لمستغلق المسألة التي يتصدى لها الكاتب. ولا بأس أن نستعير في هذا الصدد بعض هذه المفاتيح:

- إن الإرهاب من أوسع الظواهر انتشارا في العالم اليوم. هو ظاهرة يتعذر تدميرها وإزالتها بالقوة المجردة، أي أن مواجهتها لن تكون أمنية وعنفية، ذلك أن العنف يستولد العنف والدم يستدعي الدم! وهكذا، والقول للسفير عسيري: «المعركة هي اكتساب قلوب الناس وعقولهم» (ص10)، اكتساب القلوب، بما يعني البعد العاطفي، واكتساب العقول، بما يعني الإقناع للإقلاع عن هذه الظاهرة والتوبة توبة نصوحا.

2 - إجراء مراجعة نقدية للآراء السائدة والمنمطة حول ماهية الإرهاب وأهدافه وعلاقته بالأشكال الأخرى من العنف المدفوع ببواعث سياسية. وعليه فإن المهم، وفق الكاتب، تطوير فهم عقلاني لهذه الظاهرة.

3 - كون الإرهاب ليس مقتصرا على بيئة معينة، بل هو ظاهرة عالمية تتوسع باطراد، فمن الأهمية بمكان تطوير استراتيجية عالمية مستدامة وموثوقة ومعقولة لمكافحة الجريمة الإرهابية (ص12).

4 - إن الحرمان، بكل أشكاله وألوانه وتمظهراته، والذي تعاني منه نسبة كبيرة من سكان العالم، قد يكون أحد الأسباب الرئيسة لاستيلاد الظاهرة الإرهابية أو أقله يوفر لها المناخات الملائمة ويصب الزيت على نارها! إن الفقر يتلازم مع الجهل، بل هما في علاقة جدلية، كلاهما سبب ونتيجة للآخر. والفقير - تحت ضغط الحاجة - قد يغدو عرضة للاستلاب العقلي، ما يجعله لقمة سائغة لأصحاب الآيديولوجيات العنفية. مع التنويه إلى أن ثمة شرائح واسعة من المتعلمين وخريجي الجامعات تنضوي إلى صفوف الإرهابيين.

5 - إن الإرهاب الديني في هذا القرن يشكل عدوّا مراوغا، عدوّا يعمل من دون تحديد أهداف عسكرية معلنة، مستهدفا القتل الجماعي. وعليه فإن التصدي لمثل هذا العدو يتطلب مقاربات جديدة ومتعددة الشعَب، تستخدم الوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادية.

ويرى الكاتب أن دفع شبكات إرهابية مثل «القاعدة» نحو الاعتدال والتخلي عن التطرف مهمات عسيرة. وقد لا تتحقق ما دام بقي السياق الأوسع الذي تزدهر فيه الثقافة الدينية المنحرفة غير مفهوم بطريقة صحيحة (ص54).

6 - إن الإرهابيين بعامة، وإن كانوا يتحركون باسم الدين، يسيئون استخدامه، وهدفهم النهائي هو سياسي بامتياز.

إشارة إلى أن الجماعات أو المنظمات التي تمارس الإرهاب تحت اسم الإسلام والتي تسيء تفسير النصوص الدينية، شأنها شأن الطوائف المتتابعة خلال تاريخ اليهودية والمسيحية على مدى أكثر من ألفي عام.

ولا بد من لفت النظر إلى أن ثمة إرهابا دينيا راهنا في العالم الغربي أو المتقدم، مع أنه أصغر حجما وأقل انتشارا من حالة البلاد الإسلامية والعالمثالثية.

7 - إن السلْم موضوع مهيمن في القرآن الكريم الذي يزخر بعشرات الآيات التي تدعو إلى أن يجنح المسلم إلى السلْم، ذلك أن الحرب هي استثناء. كما يدعو القرآن الكريم إلى التسامح وإلى الاحترام المتبادل.

إن الإرهاب من منظور الإسلام جريمة ضد الإنسانية، ويستحق الإرهابيون أشد العقاب. ولكن للأسف فإن الإرهابيين ارتدوا عباءة الإسلام لارتكاب شنيع أعمالهم. وقد غدا الإسلام لديهم مشجبا يعلقون عليه دعاواهم الباطلة وسلوكياتهم الإجرامية.

علما بأن الإرهابيين لا يميزون بين مسلم وسواه من أتباع الديانات الأخرى، بل هم أشد قساوة، في غالب الأحيان، على أهل دينهم!

8 - إن إيجاد حل عادل لقضية فلسطين ولسائر المظالم العربية والإسلامية من شأنه تعطيل الكثير من ذرائع الإرهابيين الذين يتهمون الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة بأنهم يكيلون بمكيالين منحازين لمصلحة أعداء العرب والمسلمين، ولا سيما في ما يخص الصراع العربي - الإسرائيلي.

من هنا ينتج العداء الذي تكنه المنظمات الإرهابية لأميركا والغرب. وهذا الواقع يجيب عن الأطروحة الغربية التي تتوجه إلى المسلمين بالتساؤل الآتي: لماذا تكرهوننا؟!

مما لا شك فيه أن الاستراتيجية التي اعتمدتها المملكة العربية السعودية لمواجهة الظاهرة الإرهابية حققت نجاحا منقطع النظير. وهذه الاستراتيجية تقوم على ركائز ثلاث، أو هي ثلاثية الشعَب: استراتيجية الوقاية، استراتيجية العلاج، استراتيجية الرعاية.

هذه الاستراتيجية تنبع من نظرة المملكة إلى أن الظاهرة الإرهابية هي بمنزلة المرض وأن من يحمل جرثومتها مريض. وإذا كانت الوقاية من المرض تشكل مفتتحا، من المنظور الطبي الإسلامي، فقد كان لهذا المرتكز (أي الوقاية) أن يتصدر الشعَب الثلاث، ما يعني الفهم الإسلامي العميق من لدن المملكة لهذه الظاهرة. وبمعنى آخر فإن العلاج يتسم ببعد إسلامي إنساني.

فالوقاية تركز، في ما تركز، على تكريس الوسطية، معتقدا وممارسة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). ثم يأتي العلاج، عبر برامج إعادة التثقيف والمشورة والنصح. وأخيرا تبرز الرعاية من خلال مساعدة الإرهابيين التائبين وإعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع ليغدوا أسوياء، مع متابعة أحوالهم لفترة طويلة.

ولقد عمدت المملكة إلى اتخاذ إجراءات ناجعة ضد تمويل المنظمات الإرهابية، مجففة بذلك المنابع التي تمد شرايين الإرهاب. كما لجأت إلى الكثير من الإصلاحات في القطاع الاجتماعي وإلى خطوات أمنية وقانونية تصب في مكافحة الظاهرة الإرهابية، فمن البرنامج الإصلاحي في السجون - والسعودية أول بلد في العالم العربي يضع برامج إصلاحية مهنية وشاملة للسجون - إلى المعركة الإعلامية، ولا سيما معركة الإنترنت حيث أقام بعض العلماء في عام 2004 موقع «السكينة» لمواجهة دعاوى الإرهابيين وأطروحاتهم، إلى المبادرات الدولية التي تجسدت في اتفاقيات تعاون ثنائي وإلى تعاون متعدد الأطراف، وصولا إلى عقد مؤتمرات كثيرة لمكافحة الإرهاب (مؤتمر الرياض فبراير (شباط) 2005، مؤتمر في ظل منظمة المؤتمر الإسلامي في مكة، يناير (كانون الثاني) 2005 والذي أنتج مدونة سلوك دولية لمكافحة الإرهاب...)، وليس انتهاء بمؤتمرات الحوار الدولية بين الأديان (في مكة يونيو (حزيران) 2008، في مدريد يوليو (تموز) 2008، في الدورة الـ63 للجمعية العامة للأمم المتحدة) والتي جاءت بمبادرات ثلاث من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود.

ولقد كان لهذه الاستراتيجية السعودية أن تشكل قدوة للكثير من البلدان، وعلى سبيل المثال لا الحصر: حالتا مصر والعراق، ناهيك بإندونيسيا التي أفادت كثيرا من هذه الاستراتيجية وغدت أنجح التجارب من حيث نتائجها الإيجابية الملموسة. وإذا كانت باكستان لم تنجح في مكافحة الإرهاب فذلك لعدم اعتماد خطة إنمائية بالتوازي مع الخطة العسكرية.

بعد هذا الاستعراض الذي يحاصر الظاهرة الإرهابية ويقبض على تلابيبها ويتوقف مليا عند استراتيجية المملكة العربية السعودية التي شكلت تجربة نموذجية تحتذى في مكافحة الإرهاب، من قبل الدول التي تشهد حراكا إرهابيا متصاعدا، فإننا ندعو إلى تدبر كتاب السفير عسيري كونه من أهم المراجع التي قاربت هذه الظاهرة عبر بعديها التنظيري والتطبيقي العملاني. فهو، كما يقال، كتاب جامع مانع في بابه، لا سيما وأنه ارتكز على عشرات المراجع المعتبرة حول الموضوع والمكتوبة باللغة الإنجليزية.

وإذا كان السفير عسيري يؤكد، في مواضع متعددة من كتابه، على الجانب التوظيفي للمسألة، فإننا انطلاقا من هذه المقولة الثابتة نشدد على البعد الوظيفي لهذا المرجع الثر. ولن يكون ذلك إلا في إطار إقامة الندوات والمحاضرات والطاولات المستديرة في لبنان والأقطار العربية، ناهيك بدول العالم الأخرى، لا سيما وأن المرجع المذكور وضع أصلا باللغة الإنجليزية.

* رئيس جمعية «الأخوة اللبنانية - السعودية».