المسرح الغنائي اللبناني في أزمة بعد غياب الرحبانيين الكبيرين

على من لم يحالفه الحظ أن ينسحب من الحلبة

مشهد من مسرحية «من أيام صلاح الدين» بطولة عاصي الحلاني
TT

يعشق اللبنانيون المسرح الغنائي، ولا يعلن عن مسرحية جديدة إلا ويتم تداول اسمها، والحديث عما ستنطوي عليه، وإن كانت تستحق تحمل عناء التنقل لمشاهدتها أم أنها ستخيب الظن، والأسئلة في محلها، فرواد هذا المسرح وكباره ذهبوا. وبعد الأخوين رحباني، منصور وعاصي، يبدو كأن الساحة فرغت إلا من ورثتهما، ومن يحاولون استقطاب جمهور يتعطش وينتظر. هذا الصيف، وفي خضم المهرجانات ثلاث تجارب غنائية قدمت، بينها مسرحيتان، وعمل استعراضي. مسرحية «دونكيشوت» التي رآها الجمهور في جبيل، لأولاد منصور الرحباني، ومسرحية «من أيام صلاح الدين» للأخوين فريد وماهر صباغ في قلعة بعلبك. وهناك العمل الاستعراضي الذي أريد منه تكريم الفنانة الكبيرة صباح بصوت المطربة السورية رويدا عطية، ومن إخراج جيرار أفيديسيان، في بيت الدين.

وعلى الرغم من أن أفيديسيان سبق له أن أخرج مسرحيات غنائية مثل «سفرة الأحلام» لمادونا، فإن الجانب الاستعراضي مما رأيناه في بيت الدين كان ينقصه الاحتراف. ليس فقط أن عطية كسرت اللهجة اللبنانية التي تميز أغنيات صباح ومواويلها أكثر من مرة، لكن ترك المخرج المسرح فارغا وفقيرا، علما بأن بعض الإضاءة بالليزر أو الرسومات واللوحات الخلفية كان بمقدورها أن تفي بالغرض دون كبير عناء أو باهظ تكلفة. أما نقص الديكورات فلم يعوض بالملابس التي هي جزء أساس من حضور الصبوحة المسرحي. واللجوء إلى مصمم كبير مثل زهير مراد لتصميم الفساتين لم يسعف في حل المشكلة؛ إذ إن الهدف ليس الملابس الجميلة، وإنما الطلة الاستعراضية للأزياء التي تفرض حضورها على المتفرج. عثرات كثيرة شابت ليلتي تكريم شحرورة الوادي، مما جعل الحاضرين يشعرون أن وجود صباح الشخصي، والموال القصير الذي أطلقته كشفا عن أنها النجمة التي لا تعوض أو تقارن. ومع أن رويدا عطية تملك خامة صوتية قوية، فإن أداءها كان يحتاج المزيد من الصقل والتمرين والتدريب. لم يقدم أفيديسان مسرحية غنائية في بيت الدين، لكن نجاحه في هذا الحفل كان سيسجل له، بعد أن أصبح المسرح الغنائي في لبنان في أزمة حقيقية ويحتاج من ينقذه.

فمسرحية «من أيام صلاح الدين»، التي افتتحت مهرجانات بعلبك هذه السنة، وانتهت عروضها بالأمس، أثبتت لمرة جديدة كم أن المسرح الغنائي صعب المراس، ويحتاج ذائقة رفيعة، وعملا جماعيا احترافيا عاليا ليس في متناول كثيرين. ولم يتوقف الأمر على أخطاء تقنية كبيرة، سواء في الإضاءة أو في الصوت، لكن أيضا غابت الحبكة التي تشد المتفرج، وهبط مستوى الحوار، وبدت حركة الممثلين على المسرح ضعيفة، بينما بقيت الأغنيات ذات الألحان الموفقة قليلة. الإمكانات الكبيرة التي توافرت للعمل لم تنقذه من الضعف، وكان واضحا أن ثمة هشاشة وسمت المسرحية ككل، وتركت المتفرج أمام تساؤلات كبيرة حول موهبة الأخوين صباغ، وقدرتهما على الدخول في مغامرة من هذا الحجم.

وإذا كان من مستفيد من هذا العمل في بعلبك فهم أولاد منصور الرحباني، الذين قدموا أول عمل مسرحي غنائي لهم بعد وفاة والدهم، وهو «دونكيشوت»، قبل أيام فقط من بدء عروض مسرحية «من أيام صلاح الدين». هذه المسرحية الرحبانية التي قدمت في جبيل كانت موضع نقد من مشاهديها أكثر مما نقدتها الصحافة، وتساءل الجمهور عن غياب الفلكور اللبناني الذي أحبوه عند الرحابنة، فيما كان رأي أسامة الرحباني: «إن الدنيا تتغير وتتطور، وليس بالضرورة أن يبقى السروال والطربوش موجودين في الأعمال الرحبانية». الأنغام الغربية في المسرحية لم ترق للجمهور العريض، لكن يسجل للجيل الرحباني الجديد، حرفيته في تقديم مشهدية باهرة، وإضاءة مدروسة ومتقنة، وعمل مترابط يجعل المتفرج، على الرغم من انتقاده للعمل، يقر بأنه أمام فريق فني يعرف كيف يدار المسرح الغنائي، وإن اختلفت الأمزجة حول تقييمه.

المستفيد الثاني من هشاشة مسرحية «من أيام صلاح الدين» هو غسان الرحباني، ابن إلياس الرحباني، الأخ الثالث والأصغر للأخوين رحباني. فقد اختير العام الماضي ليكون عمله المسرحي الغنائي «ومن الحب ما قتل» هو نجم الليالي اللبنانية في بعلبك. وهذا العمل الذي دارت أحداثه حول الصراع بين الموسيقى الغربية والشرقية، لم ينل إعجاب النقاد، وكتبت فيه مقالات لاذعة، لكنه، مقارنة بما قدم هذه السنة في بعلبك حول شخصية البطل والقائد صلاح الدين، يفوز فوزا كبيرا؛ إذ اتسم العمل، على الرغم من عيوبه بطرافة الفكرة، وابتكارية الرقصات، وجمالية الكثير من الألحان ونقاء الصوت، وظرف في الحوار. وهو ما يستدعي إعادة النظر في التقييم عند عقد المقارنات بين من يحاولون احتلال الساحة، لمعرفة من يستحق أن يكمل تجاربه وإن بدت غير ناضجة، وبين من يتحتم عليهم الانسحاب لأنهم لن يجدوا من يشتري البطاقات التي يعرضونها للبيع في شباك التذاكر، في المرات المقبلة.

المسرح الغنائي الذي تميز به لبنان منذ ستينات القرن الماضي، وصعد نجمه في ظل غياب كبير له في الدول العربية الأخرى؛ حيث برز نجومه، مثل فيروز وصباح ووديع الصافي وفيلمون وهبي، وآخرين كثر، يعاني اليوم أزمة خطيرة، بعد أن ظن كل من حصل على مبلغ مالي يكفيه للإنتاج أنه قادر على إبهار الناس، وإرضاء أذواقهم. الجمهور بات أكثر تطلبا وتقنيات المسرح الغنائي في العالم تزداد تكلفة وتعقيدا، وعلى الفنانين الذي تورطوا في المحاولة أن يعيدوا تقييم حساباتهم، رأفة بأنفسهم وبجمهورهم وبالوطن الذي يمثلونه.