فولتير في منفاه الإنجليزي

عاش في المنفى أكثر من 30 سنة قبل أن يسمحوا له بالعودة إلى باريس

فولتير تأليف: ريمون تروسون
TT

بدايات القرن الثامن عشر، كانت إنجلترا آنذاك متفوقة على الدول الأوروبية كافة من حيث التقدم العلمي والصناعي والسياسي. كانت لندن منارة التنوير الأوروبي في حين أن باريس كانت تغط في ظلام عميق. ما هو السبب يا ترى؟ هل يعود إلى تفوق العرق الإنجليزي على العرق الفرنسي؟ بالطبع لا، يقول فولتير، وإنما هو يعود إلى تفوق النظام السياسي الإنجليزي على النظام السياسي الفرنسي.

إنها لمتعة ما بعدها متعة أن تغطس في هذا الكتاب الضخم لأحد كبار أساتذة الجامعة البلجيكية، البروفسور ريمون تروسون. وهو أيضا عضو الأكاديمية الملكية البلجيكية في بروكسل. ومعلوم أنه يشكل مرجعية أكاديمية لا تضاهى فيما يخص فلاسفة الأنوار الكبار من روسو إلى فولتير إلى ديدرو، إلخ. لقد أمضى حياته في التحدث عنهم وعن الدور الذي لعبوه في تشكيل الوعي الأوروبي الحديث. ويا ليتنا نحن العرب نهتم بترجمة أعماله الكبرى بدلا من تضييع الوقت في ترجمة كتب الدرجة الثانية أو الثالثة. وفي هذا الكتاب الجديد يقدم المؤلف سيرة موثقة عن حياة فولتير الذي عاش في المنفى أكثر من ثلاثين سنة قبل أن يسمحوا له بالعودة إلى باريس، مسقط رأسه، ومعلوم أن اسم فولتير ملأ الدنيا وشغل الناس على مدار القرون الماضية ولا يزال، فهو رمز على محاربة الكنيسة والتعصب الديني ومحاكم التفتيش.

وقد ولد في باريس عام 1694 ومات فيها عام 1778 عن عمر يناهز الرابعة والثمانين عاما. وهو عمر مديد بالنسبة إلى ذلك الزمان ويضاهي المائة عام وربما أكثر بالنسبة إلى عصرنا الحالي. هذا العمر الطويل جدا هو الذي أتاح لفولتير أن يؤلف كل هذه الكتب العديدة ويخوض كل تلك المعارك الفكرية. لكن لنعد إلى الوراء قليلا إلى البدايات الأولى. بعد أن درس في أفضل المدارس الفرنسية على يد اليسوعيين، راح يتفرغ للقراءة والكتابة، وأخذ ينظم الشعر في مدح الكبار من أمراء وسواهم لكي ينال المجد والشهرة والمال أيضا، فقد كان يعتقد أنه شاعر، ولكن التاريخ كشف عن خطأ هذا الاعتقاد، فقد كان مفكرا لا شاعرا.

ولكن في عام 1725 حصلت له حادثة أثرت عليه كثيرا، فقد اختلف مع أحد النبلاء الإقطاعيين حول قضية معينة، وحصلت بينهما ملاسنة حادة، وعندئذ أرسل له هذا الشخص بعض أزلامه لضربه وإهانته أمام الناس. ثم لم يكتفوا بذلك وإنما وضعوا الحق عليه وسجنوه في سجن «الباستيل» الشهير!

وقد قال له أحد أصدقائه: «لقد أخطأت إذ اختلفت مع ابن عائلة إقطاعية كبيرة، كان ينبغي عليك أن تسكت فلا ترد عليه، فالنبلاء لا يرد عليهم ولا يتحداهم أحد. هل أنت مجنون؟!»، ثم يردف المؤلف قائلا ما معناه «والواقع أن فرنسا كانت محكومة آنذاك من قبل طبقة النبلاء الإقطاعيين، أي أبناء العائلات الكبرى، وأما أبناء الشعب فكانوا أقل من اللاشيء، وهذا ما لم يفهمه فولتير، أو قل ما لم يرد فهمه فدفع الثمن باهظا».

فالقانون في ذلك الزمان كان اعتباطيا وتعسفيا ولصالح الأقوياء ضد الضعفاء. بعد أن خرج من سجن «الباستيل» سافر فولتير إلى إنجلترا لكي ينسى هذه المحنة، أو بالأحرى تلك الإهانة التي حطمته نفسيا لفترة من الزمن. وقد اطلع هناك على النهضة الإنجليزية في المجالات كافة من مسرح وفكر وعلم وفلسفة، وكانت إنجلترا آنذاك متفوقة على الدول الأوروبية كافة من حيث التقدم العلمي والصناعي والسياسي. كانت لندن منارة التنوير الأوروبي في حين أن باريس كانت تغط في ظلام عميق. ينبغي ألا ننسى أننا في بدايات القرن الثامن عشر وبالتحديد عام 1728.

لقد كانت إنجلترا آنذاك تعيش في جو من التسامح الديني والانفتاح الفكري، هذا في حين أن فرنسا كانت تعيش في ظل نظام أصولي، إقطاعي، متعصب. وبقي فولتير هناك سنتين أو أكثر حيث اطلع على علم نيوتن وفلسفة جون لوك، وعاد إلى فرنسا وهو مليء بالحماسة للفلسفة العقلانية الإنجليزية، وفي ذات الوقت كانت نقمته عارمة على تخلف الفرنسيين.

وقد شرح كل ذلك في كتابه الفلسفي الأول «رسائل إنجليزية»، الذي تحول فيما بعد إلى رسائل فلسفية ولكن السلطة صادرته فورا وأمرت بحرقه وملاحقة مؤلفه. لحسن الحظ فإن فولتير كان قد احتاط لنفسه هذه المرة فهرب من فرنسا سرا تحت جنح الظلام لكيلا يدخلوه إلى غياهب سجن «الباستيل» الرهيبة مرة أخرى.

والواقع أن المقارنة التي أقامها فولتير بين وضع فرنسا ووضع إنجلترا آنذاك كانت مزعجة جدا للسلطات الفرنسية، ففي الرسالة الأولى قال إن فرنسا لا تسمح إلا بوجود مذهب مسيحي واحد هو المذهب الكاثوليكي، هذا في حين أن إنجلترا تسمح بعدة مذاهب وتيارات فكرية، وهذه المذاهب تتعايش مع بعضها البعض بكل محبة وسلام ووئام.

وبالتالي، فالتعددية ليست خطرا على وحدة الأمة على عكس ما يزعم أصحاب الوحدة الصارمة أو الأحادية الدينية والمذهبية من الفرنسيين. ولهذا السبب فإن إنجلترا تشهد عصر الحرية الديمقراطية، هذا في حين أن فرنسا تبدو استبدادية بشكل مطلق، وفيها تسرح طبقة النبلاء الإقطاعيين وتمرح وتسيطر على كل الثروات تقريبا من دون أن تشتغل. فهي عاطلة عن العمل والآخرون هم الذين يشتغلون، وكانت هناك ثلاثمائة عائلة تسيطر على مقدرات فرنسا وثرواتها في حين أن الشعب الكادح العامل يكاد يموت من الجوع. ولهذا السبب اندلعت الثورة الفرنسية. ولم تكن كتابات فولتير بغريبة عنها.

كما أن الفرنسيين يحتقرون التجارة على عكس الإنجليز، بحسب ما يقول فولتير. ويضيف أيضا: «وكذلك الأمر فيما يخص الفلاحين، فهم مسحوقون في بلد كفرنسا في حين أنهم معززون مكرمون في إنجلترا»، وما هو السبب يا ترى؟ هل يعود إلى تفوق العرق الإنجليزي على العرق الفرنسي؟ بالطبع لا، يقول فولتير، وإنما هو يعود إلى تفوق النظام السياسي الإنجليزي على النظام السياسي الفرنسي.

فالأول يقوم على حكم القانون والبرلمان، أما الثاني فيقوم على الاستبداد المطلق وعدم الاعتراف بإرادة الشعب. في النظام الفرنسي لا يوجد حكم قانون وإنما حكم التعسف والاعتباط، فالطبقة الإقطاعية الأرستقراطية تقف فوق القانون ولا ينطبق عليها، وبالتالي فتستطيع أن تفعل بالشعب ما تشاء دون أن يحاسبها أحد. إن الفلاح غني وفخور بنفسه وأوضاعه في إنجلترا، هذا في حين أنه ذليل في فرنسا. هذا الكلام أثار حفيظة السلطات الفرنسية إلى أقصى حد ممكن.

ويرى فولتير في رسائله الفلسفية أن الضريبة مقسمة على الجميع بشكل عادل في إنجلترا، في حين أنها ظالمة كل الظلم في فرنسا. فالشعب الفقير المؤلف من جماهير الفلاحين هو الذي ينوء تحت وطأة الضرائب المرهقة، وهو الذي يدفع الأموال إلى الأغنياء والنبلاء الإقطاعيين لكي يستمتعوا بها ويترفهوا في قصورهم وصالوناتهم الباريسية، هذا في حين أن النبلاء الأغنياء فاحشي الثراء معفون من الضرائب!

على هذا النحو راح فولتير يفرغ كل ما في جعبته ضد فرنسا وحكومتها عن طريق الثناء على غريمتها ومنافستها إنجلترا. على هذا النحو راح ينتقم من ملك فرنسا لويس الخامس عشر الذي احتقره واضطهده ووضعه في سجن «الباستيل». ثم هاجر لاحقا إلى بروسيا عند مليكها الكبير فريدريك الثاني، ومعلوم أنه كان صديقه ومعجبا به. فقبل أن يصعد فريدريك على سدة العرش كان يعتبر نفسه تلميذا للفيلسوف فولتير، وكان يتراسل معه حول مختلف قضايا الأدب والفكر والدين والحياة.

وقد استقبله ملك بروسيا بالأحضان وخصص له راتبا كبيرا وعينه على رأس الأكاديمية وخلع عليه الهدايا والهبات. وهناك أنهى كتابه عن عصر لويس الرابع عشر وابتدأ في تأليف كتاب جديد تحت عنوان «التاريخ الكوني». ولكن الأمور سرعان ما ساءت بين الملك والفيلسوف لأسباب شتى، وعندئذ افترق فولتير عن ملك بروسيا وسافر في حال سبيله.

ولم يعد يعرف أين يستقر، فأبواب باريس مغلقة في وجهه بسبب حقد النظام والأصوليين المسيحيين عليه. والكنيسة الكاثوليكية تقلقه بعد أن شنت هجوما كبيرا على أفكاره المهرطقة، فذهب إلى مدينة ليون، حيث استقبلوه بحماسة شديدة، وبعد أن أقام فيها بضعة أيام واصل سيره حتى وصل إلى الحدود الفرنسية - السويسرية، ثم عبر الحدود واختار أن يسكن داخل الأراضي السويسرية لكي يكون بعيدا عن باريس والأصوليين الحاقدين عليه.

وهناك اشترى بيتا بالقرب من مدينة لوزان الجميلة المستلقية على شواطئ بحيرة «ليمان» الشهيرة. وبعدئذ اشترى قصرا في منطقة «فيرني» داخل الحدود الفرنسية، ولكن دائما بالقرب من سويسرا، وهناك عاش الفترة الأخيرة من حياته وكتب أجمل مؤلفاته.

ثم يردف المؤلف قائلا: «وبعد عودته من بروسيا أصبح فولتير ملك الرأي العام، ليس فقط في فرنسا، وإنما أيضا في كل أنحاء أوروبا. وطبقت شهرته الآفاق، وأصبح يتدخل في القضايا العامة ويدافع عن المضطهدين لأسباب دينية بشكل خاص، وأعلن الحرب على التعصب والمتعصبين المسيحيين».