«الفن التفاعلي» يكسر الحواجز بين الجمهور والمبدعين

ابتكارات جديدة من رحم التكنولوجيا

TT

بات هناك فن جديد يعتمد على التفاعل بين المبدع وجمهوره، لابتكار لوحة أو تصميم إعلان وربما لعمل فيلم أو تقديم مسرحية. مشاركة الناس العاديين في الابتكار الفني لم تؤثر فقط على الجمهور، وإنما على الفنانين أنفسهم. فنون جديدة تولد بسبب تطور وسائط الاتصال، أحدها «الفن التفاعلي». وهنا محاولة لمعرفة المزيد عنه.

هل تنتهي حدود المتفرج عند باب المتحف أو قاعة العرض؟ وهل تبقى فقط نظرة الإعجاب وتذكرة العرض هما كل ما يربط الفنان وعمله بالجمهور؟ أسئلة كثيرا ما أثارت الجدل في الأوساط الثقافية، لتفتح النقاش على مصراعيه حول دور محتمل للمتفرج في عملية الإبداع، ومعه مهمة اجتماعية جديدة للفنان لم يعهدها من قبل.

تلك هي المبادئ التي يقوم عليها «الفن التفاعلي»، أو كما يسمى أيضا بـ«الفن الاجتماعي» أو «التساهمي». وهو تيار جديد يؤمن بأن عملية الإبداع يجب أن تخرج من مثلث: الفنان والمعرض الثقافي والمجمع، وأن على الفن أن ينزل للشارع ليصبح أداة اتصال تربط الجمهور بالفنان وتقوي الروابط الاجتماعية بين مختلف أفراده. مغامرة فريدة من نوعها يصبح فيها المواطن البسيط (بقدرة قادر) مساهما نشيطا في صنع الحدث الثقافي، فتزول الهوة التي تفصله عن المبدع الذي تعود العيش في أبراج عالية، وتختفي الحواجز التي تفصل العالمين: عالم الهواة وعالم المبدعين.

تصورات جديدة وغريبة لكنها في منتهى الجدية، وقد بدأت ترى النور على أرض الواقع في شكل مشاريع فنية على الشبكة وتظاهرات متفرقة هنا وهناك، يستغربها الجمهور لأول وهلة، لكن سرعان ما تلقى إعجابه.

إحدى هذه التظاهرات حطت رحالها مؤخرا بمركز جورج بومبيدو الثقافي تحت اسم «مصنع أفلام الهواة» أو «لوزين دي فيلم أماتور»، فكرة طريفة لمشروع طموح يتم من خلاله دعوة عدد من الزوار لتقمص دور كاتب سيناريو ومخرج بإنجاز شريط سينمائي قصير يحمل كل مميزات العمل الدرامي. الفكرة للمخرج الفرنسي المقيم في هوليوود ميشال غوندري، صاحب الأعمال المعروفة «إترنال سونشاين»، «بي كايند رووند» و«ثي غرين هورنيت»، وحائز على أوسكار أحسن سيناريو عام 2004.

يقول ميشال غوندري إن فكرة المعرض جاءته بعد تصويره لفيلم «بي كايند رووند» أو «be kind rewind». فعدا الأبطال الثلاثة للعمل؛ داني كلوفر، بلاك جاك، موز داف، كل الممثلين الآخرين كانوا من الهواة. وهم تحديدا سكان الحي الذي صور فيه هذا العمل. تجربة ممتعة تركت آثارا إيجابية عند المخرج، وأقنعته بتكرار التجربة: «مشاعر الفخر والسعادة التي رأيتها في وجوه الهواة وتعاونهم الكبير أقنعاني بأن العمل بمبدأ جماعي تفاعلي في مجال السينما، شيء ممكن، بل وقد يكون بناء وممتعا للغاية»، يضيف هذا الأخير.

«مصنع أفلام الهواة» يضع تحت تصرف المرشحين لهذه المغامرة استوديو وعدة ورشات وديكورات: غرفة نوم، مطبخ، مشهد لشارع مزدحم، مكتب عمل.. إلخ، إلى جانب عدة إكسسوارات وملابس وكاميرا لتصوير المشاهد. على الفريق بعدها اختيار موضوع الفيلم، كتابة السيناريو والحوار والتقاط المشاهد تحت إشراف مخرج محترف في مدة قياسية لا تتعدى 3 ساعات.

المغزى ليس بالطبع الوصول إلى إنجاز عمل درامي بمقاييس المحترفين، بقدر ما هو تقريب الهواة من فضاء المبدعين. معرض «مصنع أفلام الهواة» لاقى نجاحا كبيرا، حيث زاره أكثر من 56 ألف شخص، 4500 منهم شاركوا في ورشات صنع الأفلام، وخرجوا منها بـ311 شريطا قصيرا، علما بأن التجربة لا تزال مستمرة، وهي مرشحة لاستقبال عدد أكبر من الزوار بعد استقرارها في منطقة «أوبارفيليي» في إحدى ضواحي باريس.

مساهمة الجمهور في العملية الإبداعية قد تكون مباشرا في مجال الأغنية والفنون الحية أيضا، وهو ما استوعبه كثير من الفنانين الغربيين الذي راحوا يطلقون دعوات مختلفة للهواة للمشاركة في أعمالهم. فريق موسيقى البوب الأميركي «لنكن بارك» مثلا ينظم حاليا مسابقة على موقع «يوتيوب» لتصميم فيديو كليب إحدى أغاني ألبومهم الجديد، الذي يحمل اسم «ثي كاتاليست».

الدعوة عامة كما يقول إعلان الفرقة، التي لا تنسى أن تذكّر المشاركين بأن الفائز سيحصل على تذاكر مجانية وتوقيعه على فيديو كليب الأغنية. المبادرة نفسها قامت بها فرقة «راديوأهيد» البريطانية التي رصدت جوائز مالية وصلت إلى 30 ألف يورو، وفرقة «بي بي برون» الفرنسية التي بثت تسجيلا لإحدى حفلاتها على صفحتها على «فيس بوك» من إخراج شباب من الهواة بواسطة هواتفهم الجوالة.

لكن الفن التفاعلي عرف انتشارا أوسع في ميادين فنية حديثة، كالفنون الرقمية، التي تمنح - بفضل ظهور الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة إمكانية أكبر لمشاركة الجمهور - وبصفة عامة كل أنواع الفن التشكيلي والمعاصر التي تمزج بين أدوات وتقنيات مختلفة.

الدعوة للمساهمة تتم إما عن طريق الشبكة العنكبوتية أو في موقع المعرض نفسه، حسب «مسودة» محددة تسمى «بروتوكولا» يضعها الفنان الذي يتقمص دور الحكم ليحدد شروط وقواعد معينة لمشاركة الجمهور دون وضع قيود على رؤيتهم الفنية أو وجهة نظرهم. جيروم كارفي، فنان تشكيلي فرنسي، أطلق مسابقة لتصميم ملصقات فنية، محددا مسبقا للجمهور الراغب في المشاركة سلسلة من الخطوات الواجب اتباعها، من ضمنها: التسجيل على الموقع المخصص للمسابقة، والالتزام بمقاييس ومادة معينة للملصقات، واستعمال تقنية خاصة، لكنه لم ينس أن يذكر في إعلانه أن المسابقة مفتوحة أمام الجميع مجانا ودون مقابل، وأن الحرية الإبداعية تبقى كاملة.

وفي كل مرة يبقى استعمال وسائل الاتصال الحديثة مهما لاعتماد مبدأ الفن التفاعلي، كما يقول الباحث أوليفيي دونات، صاحب كتاب «العادات الثقافية للفرنسيين في عصر الرقميات» دار نشر «لا ديكوفرت»، «طبيعي أن يثير الحاسوب نشاطنا أكثر من التلفزيون، هذه العلاقة التفاعلية ولدت وضعية جديدة وكسرت الحدود بين الهواة والمحترفين، بين المنتجين والمستهلكين. وكأن الحواجز الثقافية اختفت حين دخلت لمسة المتفرج في العملية الإبداعية».

تظاهرات أخرى تضع المتفرج في قلب الحدث الفني، كمعرض «بارانويا» الذي يتضمن سلسلة تجارب إبداعية لا تصبح فعلية إلا إذا شارك فيها الزوار.

ومن «التحف الفنية المفتوحة»، كما يسميها الكاتب والباحث الإيطالي، إمبرتو إيكو، مرفق صممه الفنانان غريغوري لاسير وأناييس ماتدان المعروفان باسم الثنائي «سينوكوسم»، الذي يضم مياها زرقاء تأخذ أشكالا وأصواتا غريبة ومختلفة حسب حركات الأيدي التي تلامسها، أو المنحوتة العصرية للفنانة البرازلية أنازيا فرانكو المسماة «إكسبندن إي»، التي تضم ثقبا يكتشف الزائر من خلاله انعكاسا مذهلا لمدار عينيه.

إن كانت الغالبية تتحدث عن الأثر الإيجابي لهذا الفن الجديد على الجمهور الهاوي، فإن الأثر نفسه قد لوحظ على الفنانين، حتى إن بعضهم اختار التخصص في هذا النوع الجديد، على اعتبار أن الجمهور هو امتداد طبيعي للعمل الفني.

الفنانة الفرنسية فيرونيك أوبويي، صاحبة مشروع «قُبلة المصفوفة»، الذي يدعو مستعملي الشبكة لتسجيل قراءات شخصية لنص مارسال بروست، المعروض حاليا في مركز لافيلات، تقول إن «هذا التفاعل المتجدد مع الجمهور يغذي المخيلة ويفتح للفنان آفاقا جديدة، لكنه لا ينسى أن يمتعه ويبعث البهجة في قلبه».