الهندال: التيار الليبرالي في الكويت بحاجة إلى صدمة ثقافية ليصبح واقعيا

الناقد الكويتي لـ «الشرق الأوسط» : الشأن الثقافي أصبح آخر اهتمامات المؤسسات الرسمية

فهد الهندال
TT

يرى الناقد والكاتب الكويتي، فهد توفيق الهندال، أن الصخب السياسي في الكويت يطغى على الحياة الثقافية والأدبية التي تميزت بها هذه الإمارة الخليجية على مدى سنوات. ويقول في هذه المقابلة مع «الشرق الأوسط» إن المؤسسات الثقافية الكويتية لم تعد تولي الثقافة هناك اهتماما، وإن «الشأن الثقافي أصبح في آخر اهتمامات المؤسسات الرسمية، نظرا لتدخل السياسة في كل الاختصاصات والصلاحيات»، محملا النخبة الثقافية مسؤولية تفشي الشللية و«التبادل المنفعي» بين أطرافها. «الشرق الأوسط» أجرت الحوار التالي مع الكاتب والناقد الكويتي فهد توفيق الهندال:

* لماذا لم تعد الثقافة مغرية في الكويت؟ هناك تراجع في الحياة الثقافية، والجدل الثقافي يتم استبدال التشنجات السياسية به.

- هناك فعلا تراجع في الحياة الثقافية نتيجة طغيان الثقافة الاستهلاكية وانحسار الإنتاجية عند المواطن والمقيم معا في مجتمع يعتبر من المجتمعات ذات الرفاهية العالية، إضافة إلى أن الشأن الثقافي أصبح في آخر اهتمامات المؤسسات الرسمية، نظرا لتدخل السياسة في كل الاختصاصات والصلاحيات، فأصبحت الرقابة التشريعية تمارس ضغطوها نحو التضييق لا التشجيع لما يهم الشأن الثقافي والمهتمين به.

* أنتم ماذا فعلتم كمثقفين؟

- نحن طالبنا مرارا وتكرارا الكثير من نواب مجلس الأمة والكتاب بضرورة تشجيع الثقافة، بانفتاحها أكثر على حرية الإبداع والتعبير بدلا من محاصرتها بالوصاية والرقابة، كما هو حال المفروض على معارض الكتب والمهرجانات الفنية، وعلى الأسماء الثقافية الزائرة للبلاد. والتشنج السياسي جزء من محاولة فرض رأي معين على حساب بقية الآراء، وهو ما يتعارض مع مفهوم الديمقراطية والحريات.

* في رأيك؛ هل يعود ذلك لغياب القضايا، أم غياب الأسماء المحركة لها؟

- ربما يكون ذلك فعلا مرتبطا بعدم وجود خطاب ثقافي جاد للمثقفين أنفسهم، الذين يرزحون تحت رحمة المؤسسات الرسمية الراعية للثقافة في قضية الدعم والمصالح وعدم الرغبة في إثارة ما قد يعتبر خروجا عن سياستها وتقليدها البروتوكولي المتبع منذ عقود، إضافة إلى الصراعات الدائمة فيما بينهم في المؤسسات الأهلية الراعية للثقافة والنفع العام، وهو ما نرصده فعلا من واقع تجربتنا مع العمل الإداري الثقافي الذي يفترض أنه يسير وفق رؤية وخارطة واضحة تضع أولويات العمل الثقافي وتحدد أبرز مواطن الخلل، إلا أننا نجد أننا أمام مزاجيات وترضيات وشلليات بدأت تتغلغل في الجسد الثقافي على مستوى الإدارات والمشاركات الثقافية الداخلية والخارجية والإصدارات والجوائز وغيرها من صور التبادل المنفعي بين أطراف يفترض أنها ذات رؤية ثقافية شاملة، وليس وفق أهواء شخصية وحلقة خاصة الخاصة أو شللية معينة، وسواء وجدت الأسماء الثقافية المحركة أم لا، ما دام أن هذه السياسة النفعية حاضرة في الوسط الثقافي وغالبة، فلن تستطيع أن تتحرك على قضاياك الثقافية.

* الليبرالية الكويتية

* تضج الحياة السياسية في الكويت بكثير من الانقسامات من دون أن نجد دورا للمثقفين؟

- لأن المثقفين أنفسهم تورطوا وسقطوا في براثن السياسة، وهنا لا أمانع أن يكون للمثقف حضور ودور في الحياة السياسية، ولكن ليكن من باب النقد الثقافي والفكري لما وصلت إليه الأوضاع من تواضع في مستويات التنمية وتراجع في الحريات وتفتيت المجتمع إلى ولاءات صغيرة على حساب هوية الوطن الجامعة، وشخصيا كانت لي تجربة في هذا المعترك السياسي المزعج بضجيجه وخلافاته وانقساماته واتهاماته على أقل اختلاف في وجهة نظر تبديها، من باب أننا في مجتمع ديمقراطي، ولكن شعرت بالغثيان نتيجة تكالب الغالبية على الصراع السياسي من باب «خالف تُعرف» أو لتكريس أسمائهم كناشطين في السياسة وهم لا يفقهون مفاهيمها ولا ألاعيبها الذكية على الأقل، فتجد الخطاب السياسي أصبح سطحيا يُستفز بأقل ما يمكن، فينكشف لك الانقسام البغيض وتسقط أقنعة كثيرين كنت تعتقد أنهم مع دولة القانون والمؤسسات والحياة الدستورية وخيار المجتمع المدني!

لهذا، عندما تقرأ لشخصية قيادية سابقة تتحدث عن الإصلاح، تتساءل لماذا لم تطبقه في زمن إدارتها، وعندما تقرأ لعضو برلمان مقالات ينتقد فيها تراجع الأداء الحكومي والبرلماني تجد أنه جزء من هذا التراجع، وعندما تقرأ لأستاذ جامعي يتحدث عن أهمية إعطاء الفرصة للشباب للمبادرة وأخذ الفرصة تجد أنه يحاربهم ويتعمد إقصاءهم حفاظا على موقعه «مكانك سر» في العمل الأكاديمي، وغيرهم كثيرون، ألا يشعرك هذا بالغثيان؟

* في كتابه «الليبراليون الجدد: جدل فكري»، أفرد المفكر الأردني الدكتور شاكر النابلسي فصلا عن أزمة الفكر الليبرالي في الكويت، تحت عنوان «أزمة الليبراليين العرب: الكويت أنموذجا»، يعتبر فيه أن الليبرالية في الكويت تعيش أزمات متعددة منذ نكسة يونيو (حزيران)، حتى أحداث سبتمبر (أيلول)، وصعود التيارات الإسلامية، بالنسبة إليك، كيف تراجع الفكر الليبرالي في أكثر دول الخليج انفتاحا؟

- أعتقد أن التيار الليبرالي شأنه شأن بقية التيارات في الكويت بحاجة إلى صدمة ثقافية واعية، تجعله يعيد أوراقه بحسب معطيات ومتطلبات الواقع، لا تكون فيه السياسة هي الخطاب الوحيد واليتيم له، وإنما ليقدّم مشروعه وخطابه لأن يكون منتجا فاعلا في كل صور الحياة في الكويت، لاعتقادنا أن الفكر الليبرالي لا يزال بحاجة إلى مزيد من الوعي به من قبل المنتمين إليه أولا ومن ثم المجتمع في ظل الحاجة الملحة للتعددية الثقافية والفكرية دون أن تكون على حساب هويته وخصوصيته، ودون أن يعني ذلك أيضا إقصاء الآخر والانكفاء على الذات والانجرار نحو موروثات خلافات الماضي، فخط الزمن واضح يسير دائما إلى الأمام لا الخلف، نحن مع تعدد الفكر الإنساني في ظل احترام حقوق الإنسان وحرية التعبير.

الفكر والحجر

* في كتابك «الفكر والحجر - تأملات ذاتية في مدارات الهوية»، تعتبر الكتابة مهمة «رسالية» تتجاوز حدود التعبير والمتعة، إذ تقول: «إن قلم المثقف وسيلة إنقاذ لمجتمع غارق في الصراعات والإشكاليات وإشعال فتيل الوعي من خلال الكلمة».. في رأيك هل يصلح المثقفون اليوم لهذا الدور؟ ألا ترى أنهم أحد عناصر الانقسام الاجتماعي، وأن بعضهم يقدمون المسوغات للاستبداد والتخلف؟

- هنا قصدت المثقف الذي يتشابك مع القضايا الفكرية الخاصة بهوية المجتمع وليس المثقف الذي لديه حظ يسير من الخبرة الثقافية أو لائحة إصدارات، بل أعني الذي يملك تقييما منطقيا لمعطيات الواقع ويرصد ملامح المستقبل بتجرد كبير من الشخصانية والنفعية، المثقف الذي يعي قيمة الحرية ومسؤوليتها في بناء وتنمية المجتمع لا تدميره وتفريقه تحت شعار التمرد على السائد أو التغيير لمجرد التغيير المستورد، فليكن المثقف هو الفعل نفسه والحدث، وليس ردة الفعل. والكتابة جزء مهم في طرح الأسئلة والبحث عن أجوبتها ما بين أركان الحياة والتاريخ، فعندما لا ننتبه لمتطلبات العصر من أهمية قراءة الماضي لاستشراف الغد، فإننا نعاني أمية فكرية، تنأى في انغلاقها النرجسي عن الحراك الاجتماعي والاقتصادي لبناء المجتمع المتعدد بثقافاته والمتحد بإنسانيته، ومتى ما استقل المثقف بآرائه، نأى عن تبعية المؤسسات والتيارات التي قد تشكل معاول هدم كيان المجتمع وهويته.

إسماعيل وتجاهل النقاد

* كانت لديك دراسة نقدية متميزة، في مسرح الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل، وخاصة مسرحيته «للحدث بقية»، حيث قدمت دراسة للبنية الفنية للجوقة في «للحدث بقية»، كيف ترى أهمية هذا الروائي الكويتي؟ ولماذا أغفله النقاد طويلا؟

- إسماعيل فهد إسماعيل رائد من رواد الحركة الأدبية الحديثة في الكويت، ولا يمكن أن تقرأ المشهد الثقافي دون المرور على هذه القامة المتميزة الرفيعة، فهو يمثل حراكا ثقافيا عربيا قائما بذاته في مجال القصة، الرواية، المسرح، النقد، الدراما التلفزيونية والسينما. ولا أعتقد أن هناك ناقدا واعيا بالحراك الثقافي والإبداعي الكويتي والعربي إلا ويلتقي هذه الشخصية الأدبية في أحد أعمالها الحاضرة والحية في الذاكرة أو الجديدة على الساحة، وهو ما يحسب لإسماعيل حضوره الدائم عبر إصداراته ومشاركاته الثقافية ورعايته للكتّاب، خاصة الشباب.

* بعد تجاوزه السبعين من العمر، ما الأثر الذي تركه إسماعيل فهد إسماعيل في الحياة الثقافية الكويتية، خاصة أنه يعتبر المؤسس الحقيقي لفن الرواية في الكويت؟

- من خلال علاقة التلميذ بأستاذه، أرى أن إسماعيل يفكر دائما إلى أين سيصل في مشروع حياته الأهم وهو الكتابة، لهذا تجده قلقا تجاه أسئلة الزمن العابرة بمختلف عقودها وظروفها، وأعتقد أن منجزه الثقافي في الكتابة هو الدائم والحافز لمن يعاصره اليوم ومن سيأتي لاحقا. فعندما تمر علينا العناوين المرتبطة بهذا المنجز، التي تجاوزت خمسة وثلاثين عنوانا ما بين رواية ومجموعة قصصية ودراسات نقدية ومسرحيات، إضافة لما هو لا يزال مخطوطا وينتظر دوره في النشر والكثير من الأعمال المجهولة، لا يمكن أن يختلف اثنان على ريادة هذا الإنسان الفنان ومنجزه الثقافي المشكّل لأهم معالم لوحة الحياة الثقافية الكويتية.

* لديك دار نشر، وأنت على تماس مع التجربة الأدبية في الكويت، هل ترى أن هناك تواصلا بين الأجيال؟

- دار «الفراشة» هي نتاج حلم مشترك جمعني مع إستبرق أحمد والدكتورة هالة رسلان، وطموحنا كبير بأن يكون للدار دور في الحراك الثقافي في الكويت وخارجها. والتجربة الأدبية في الكويت ثرية جدا بأقلام شابة تبحث عن من يوجهها قبل النشر، ولعل من أهم خطواتنا قبل النشر تقييم العمل عبر لجنة قراءة لإعطاء وجهة نظرنا حوله، سواء كنا الناشرين له لاحقا أم غيرنا، فدورنا ثقافي قبل أن يكون تجاريا، نحتذي في ذلك بدور النشر العربية العريقة التي تقدم الكتابة النوعية قبل الكمية. وفي الكويت هناك أجيال متعددة من الكتاب يتواصل الكثير منهم فيما بينهم، ويتبادلون وجهات النظر، وهي تعتمد أساسا على طرفي المعادلة؛ جيل الكبار وجيل الشباب إذا ما تخلى الطرفان عن أسطورة البرج العاجي وغرور الكبرياء.

* مَن مِن الأسماء الشابة تجد أنها تشق طريقا متميزا في الرواية والشعر؟

- هناك أسماء كثيرة وحاضرة على الساحة الإبداعية، نستبشر بكل من يرى في الكتابة مشروعا إنسانيا عاما، ينأى فيه عن الشخصانية وتعرية مثالب المجتمع دون معالجتها. وأعتقد أن الكاتب الشاب الذي لا يستعجل النشر والشهرة وسرعة الانتشار هو الأعمق والأكثر ثباتا في الذاكرة متى ما تحققت لديه شروط الكتابة الإبداعية ولوازم اللغة الأدبية وتوسعت مدارك الفكر الإنساني البعيدة عن الكتابة المخملية والحالمة. الكاتب مشروع خطير جدا، لهذا فالخسارة الإبداعية والفكرية فيه الأسوأ والأسرع هبوطا وإن تصاعدت في نفس الوقت الأسهم الإعلامية والتجارية.

* كتبتَ في مقال إن الأديبة ليلى العثمان «انعطفت بالسرد النسوي في الكويت، نحو فضاءات أوسع من جغرافية الواقع»، ومع ما تتميز به العثمان، أليس من البديهي أن كل عمل سردي يحلق في فضاء أوسع من جغرافيته، أليس في ذلك محاباة للأديبة ليلى العثمان؟

- هذه وجهة نظري كناقد وقارئ لأعمال الأديبة ليلى العثمان سواء الروائية منها أو القصصية، قد تتفق أو تختلف مع وجهات نظر أخرى، وهذا جزء من التعددية الثقافية التي ندعو إليها، ولكن لكل ناقد أدواته النقدية ووجهة نظره والزوايا التي يرصد بها العمل الأدبي. ولأذكر هنا حقيقة قد تكون غائبة عن الكثيرين، أن رسالتي للماجستير في السرد العربي، التي أنجزت ونوقشت في جامعة الكويت كانت عن الروائي السوداني الطيب صالح، فلك أن تتصور النقد الذي وصلني لعدم تخصيصها عن روائي كويتي. فهل هذا يعني أنني أحابي الطيب صالح وهناك الكثير من كتب عن أعماله الروائية الثلاثة ومجموعته القصصية اليتيمة من النقاد العرب والأجانب وترجمت أعماله للغات مختلفة؟

إذن، النقد كمشروع إبداعي آخر لا يقل حاجة لحرية التعبير والتعدد بوجهات النظر.

* تقدم برنامجا ثقافيا جيدا عبر الإذاعة الكويتية بعنوان «قلم وخطاب»، في حين يمكنك أن تختار وسيلة أكثر شعبية، ألا تشعر أنك تبدو كمن يغني في طاحونة؟

- استمرار البرنامج لأكثر من خمس دورات إذاعية تغطي مساحة زمنية تمتد لثلاثة أعوام، وسبقه برنامج أدبي كان بعنوان «ساعة مع أديب» استمر لنفس المدة تقريبا، إضافة لبرامج ثقافية أخرى، سواء كانت حوارية أو على هيئة مجلات ثقافية على امتداد تجربة إذاعية لأكثر من 15 عاما، أجد أنها قدّمت لي شخصيا خبرة إعلامية وثقافية اجتهدت لأن تكون جزءا من الحراك الثقافي المحلي والعربي، والحمد لله تأتيني أصداء جميلة من مستمعين ومتابعين من داخل وخارج الكويت، لهذا اتجهت فعليا وبمجهود شخصي إلى استثمار التطور التكنولوجي والفضاء المعلوماتي لأن تكون هذه البرامج في متناول أكبر عدد من المتلقين، على الرغم من تواضع جهودي في ذلك، ولكن أن تغني داخل طاحونة صغيرة بمحاذاة نبع أو شلال نهر جار خير من أن تكون دون كيشوت خارجها!

فهد توفيق الهندال: سيرة أدبية

* ماجستير أدب ونقد في اللغة العربية وآدابها - جامعة الكويت 2003

* صدر له:

- «العالم الروائي للطيب صالح: من سارد القص إلى كاتب النص» 2004

- «الفكر والحجر: تأملات ذاتية في مدارات الهوية» 2008

- «النبوءة والسحر: قضايا شعرية في التراث النقدي» 2009

* عضو رابطة الأدباء في الكويت وجمعية الصحافيين الكويتية.

* كاتب مقال صحافي في جريدة «الرأي» تحت زاوية أسبوعية «فاصلة»

* له الكثير من الدراسات والمقالات النقدية المنشورة في الكويت وخارجها

* أسهم في تحكيم عدد من المسابقات الأدبية

* أسس دار «الفراشة» للنشر والتوزيع 2009 - الكويت

* شارك في عدد من الندوات النقدية داخل الكويت وخارجها.