سيرة ذاتية.. بعيدا عن «الأنا»

بهنام عفاص يتذكر الطاهر وطاقة والصايغ والطعان وآخرين

غلاف «السيرة الذاتية»
TT

في كتابه الثالث الذي أصدره منذ حلوله في أستراليا عام 2006، والثامن الذي أصدره منذ بدئه التأليف في مدينة الموصل العراقية عام 1976، يطرق الباحث والأديب بهنام فضيل عفاص، أبواب السيرة الذاتية، ولكن بعيدا قدر الإمكان عن روح «الأنا».

وفي هذا المنحى، جاء الكتاب، الواقع في 186 صفحة من القطع الوسط، محملا بأهم ذكريات المؤلف خلال فترة طويلة من العمر، وقد كتبها على شكل أحداث عاصرها، وانطباعات خرج بها عن شخصيات مؤثرة التقى بها أو تعرف عليها، بأسلوب شائق وشفاف.

لقد وازن المؤلف بين جزالة الأدب ودقة البحث، فغطى عبر ذكرياته الكثير من الأحداث، وشكل الكتاب في مجمله، وعلى قدر كبير من الحيادية والتركيز، تاريخا وبحثا اجتماعيا وسياسيا للعراق من أربعينات القرن المنصرم وحتى هجرته من العراق عام 1997، وهي فترة عاشها المؤلف وشهد أحداثها وتأثر بها. ولكن ذكريات الكتاب وتجارب المؤلف لم تنحصر في العراق فحسب، بل امتدت كذلك إلى البلدان العربية والأجنبية التي زارها وتعرف عليها.

ولعل من الجميل، أن المؤلف، وهو في السابعة والسبعين من عمره الآن، قد أهدى الكتاب إلى زوجته، التي كان قد أهدى إليها كتابه الأول الصادر في بغداد عام 1985 بعنوان «تاريخ الطباعة والمطبوعات العراقية»، والذي تألف من جزأين في مجلد واحد.

في الصفحة العاشرة من الكتاب، يحدثنا المؤلف عن رفاق بداياته الأولى في الكتابة والإبداع، وهم الشعراء الراحلون شاذل طاقة وعبد الحليم لاوند ويوسف الصايغ وهاشم الطعان، والقاص والروائي الراحل غانم الدباغ، ويصور لنا صورة من صور معاناتهم في النشر بالعراق خلال خمسينات القرن المنصرم، يلخصها بأن الشعراء الأربعة كانوا يتحدثون ذات يوم «عن صعوبة النشر وإصدار الدواوين، فإذا بالشاعر شاذل طاقة تأتيه فكرة أن يصدروا ديوانا يضم أعمال الأربعة، وكل واحد منهم يكتب مقدمة للآخر، وأن يتقاسموا مصاريف الطبع، وكان أن نفذت الفكرة، وظهر ديوان - «قصائد غير صالحة للنشر» - عام 1956. وعند صدوره كانت له ضجة، وأحدث اهتماما لدى النقاد وفي الأوساط الأدبية. فقد كان الديوان بوجه عام، يمثل ويعبر عن طموحات الشباب وصرختهم، وحتى في بناء القصيدة، فقد كان في الكثير منها خروج عن العمود الشعري».

ومع اتصاف الكتاب بصفاء الذاكرة، والميل الشديد إلى التركيز القال والدال، بعيدا عن الحشو والاستطراد الزائد، يقدم لنا المؤلف لمحات جميلة عن شخصيات مهمة في تاريخ الكتابة والبحث والتدوين خلال القرن المنصرم. ومن هذه الشخصيات العلامة أنستاس الكرملي، حيث ينقلنا المؤلف إلى مجلسه الأسبوعي الذي كان يؤمه العلماء والأدباء والشعراء وأرباب الفكر من الملل والنحل كافة.

يقول المؤلف لكاتب هذه السطور إن ذلك كان وهو في العاشرة من العمر، لدى أول زيارة له إلى بغداد عام 1945، أي قبل وفاة الكرملي بعامين. وعلى صفحات الكتاب، نجده يتذكره بلحيته البيضاء الطويلة والمسترسلة على صدره وملابسه الرهبانية البسيطة، وأكثر من هذا كان حافي القدمين ينتعل نعالا خفيفا في عز الشتاء.

لم تكن سن المؤلف آنذاك تسمح له بالدخول إلى المجلس، الذي اصطحبهم إليه نسيبهم المرحوم العلامة يوسف يعقوب مسكوني، وكان من تلامذته ومريديه. لقد دخل أبوه مع مسكوني ليسلم على الكرملي، بينما بقي هو خارج القاعة يتطلع بفضول إلى جمهور من العلماء والأدباء يتكلمون ويناقشون، ومنهم من كان يلبس العمامة ومنهم «السدارة» التي كانوا يسمونها «الفيصلية» نسبة إلى الملك فيصل الأول، والكرملي كان جالسا في صدر المكان تحف به الكتب والمخطوطات.

ومن الشخصيات الأخرى التي يتوقف عندها الناقد الكبير الراحل الدكتور علي جواد الطاهر، وهو يتذكر بهذا الصدد كيف أنه وزملاءه سمعوا وهم في السنة الثالثة من دراستهم الجامعية أن أستاذا جديدا قادما من السوربون سيدرسهم مادة «النقد الأدبي»، تلك المادة التي كانت تصعب على الطلبة، وكانت تدرس على كتاب واحد في النقد الأدبي لسيد قطب، أحد كبار النقاد المصريين يومذاك.

يقول المؤلف: «دخل الأستاذ الجديد علينا فإذا نحن أمام البساطة بكل معانيها، والابتسامة تعلو محياه، وشيء من الخجل ربما لأنه يمارس التدريس الجامعي لأول مرة وفي نفس الكلية التي تخرج فيها قبل ما يقرب من عشر سنين، وأول كلمة قالها لنا: النقد الأدبي لا يدرس في كتاب واحد، فالنقد معناه أن يكون الطالب ملما بكتب الأدب والتراث، وأن يقرأ كثيرا ويعرف الكثير من النقاد كي يستطيع أن يلم بالموضوع، ومن ثم قد يستطيع أن يكون ناقدا ناجحا. وأخذ يكتب على السبورة أسماء مراجع بارزة منها (فنون الأدب) لشارلتون، و(الأدب المقارن) لفان تيجيم، وكلا الكتابين مترجم إلى العربية، ثم كتب اسما آخر لم نسمع به سابقا، هو الدكتور محمد مندور قائلا لنا إن مندور في مؤلفاته النقدية يعد من أوائل النقاد وأبرزهم، غير أني لا أقول أحسنهم، أنتم تقررون ذلك».

وقبل أن نختتم هذا العرض ننتقل مع المؤلف إلى أيام عمله في خمسينات القرن المنصرم بمدينة الناصرية العراقية، فنتوقف معه عند علاقته بأحد طلابه في دار المعلمين الابتدائية هناك الكاتب والمفكر الراحل عزيز السيد جاسم، الذي ربطته به ثلاث سنوات قضاها في الدار إلى أن تخرج فيها سنة 1959. ويقول المؤلف إن عزيز كان يتمتع بعقلية نيرة، يناقش ونقاشه حاد، وعندما يسأل ويستفسر تستطيع أن تتخيله أكبر من عمره وأنضج. ويقول المؤلف إن عزيز كان يقرأ أكثر مما يستطيع الطالب في عمره آنذاك استيعابه، وكان محبوبا من قبل الطلبة.