سراييفو وعلم جمال المقاومة

صرب وكروات وبوشناق يكتبون معا ملحمة بلادهم

TT

لم يبق أحد أمينا للنادي القديم، إلا صمد الدين محمدونوفيك، ليس لأنه رجل عنيد، إنما لأن الأمر بالنسبة إليه له علاقة بفلسفته للحياة، من الصعب عليه تخيل حياته دون المكان القديم، صحيح أن بقية زملائه انتقلوا إلى مكان آخر، إلى الجزء الشمالي من المدينة، الحي القديم، إلا أنه أكثرهم مواظبة على المجيء هنا، هذا هو ديدنه مع كل علاقاته القديمة، ليس فيما يتعلق بهذا المكان وحسب، بل بالمدينة كلها؛ فرغم المصائب التي حلت بالناس، وبزملائه من كل الطوائف، وعلى الرغم من التراجيديا الشخصية التي عاشها هو ذاته؛ سقوط زوجته قتيلة بنار أحد القناصين، وموت ابنته الوحيدة في حادث سيارة، وهجرة معظم أفراد عائلته، فإن القاص والروائي صمد الدين محمدونوفيك يشعر بأن جذوره في هذه المدينة، كلا، لا يريد الذهاب إلى مكان آخر. في الحقيقة، يصعب عليه الانفصال عن إنسان أو عن شيء ارتبط به أبدا، الانفصال يعني له الموت، وهنا، كلما عاد للمكان القديم، يشعر بأنه ليس الوحيد الذي لم يمت، إنما المدينة أيضا.

المكان الذي يعني لمحمدونوفيك الكثير، والذي زارته مجموعتنا (وفد اتحاد الإعلام الألمان)، هو «نادي الكتّاب في سراييفو»، المتكون من صالة شتوية كبيرة وحديقة خلفية جميلة (ذكرني شخصيا بمبنى اتحاد الأدباء في بغداد قبل إطباق الكوارث على البلاد العراقية هناك)، الذي يقع على بعد عشرين مترا من فندق «هوليداي إن» ومبنى البرلمان السابق في سراييفو. «هوليداي إن» الذي كان مكان الصحافيين والوفود الأجنبية إبان حرب البوسنة والهرسك، وعلى مدى سنوات حصار سراييفو الثلاث، أعيد ترميمه الآن، على عكس مبنى البرلمان، الذي ما زال من دون ترميم، يقف شاهقا مثل هيكل عظمي.

في تلك الأيام، وعلى الرغم من القصف الشديد، لم يتوقف أدباء البوسنة والهرسك المقيمون في سراييفو من اللقاء هنا في ناديهم.

وفي الصالة الشتوية، التي تجولنا فيها بصحبة أيريش راتفيلدير، الصحافي الألماني المشهور، مراسل صحيفة «التاتز» اليومية في دول البلقان، شاهدنا عشرات الصور التي تؤرخ جلساتهم تلك، أيام الحصار. نوع من العناد الإنساني، أو الجمالي كما أطلق عليه بيتر فايس في ملحمته المشهورة «أستيتيك المقاومة» (علم جمال المقاومة): الإصرار على العيش والصداقة واختراع الأفراح الصغيرة، والكتابة عن كل موضوع تريد الحرب قتله، تلك وسائل المقاومة التي يملكها الكتّاب في هذه الأزمان.

في المكان ذاك، جلس كتّاب ومثقفو سراييفو، يتقاسمون مائدة يأس واحدة، يكتبون ملحمة سراييفو ضد القوميين، الغزاة واللصوص والمجرمين؛ كانوا يمثلون كل القوميات والطوائف التي تشكل بلاد البوسنة والهرسك: صرب وكروات وبوسنياك (Bosniac كما يصر البوسنيون على تسمية أنفسهم، التي تعني ترجمتها حرفيا: بوشناق). سراييفو كانت بالنسبة لهم مشروع حياة، لأنها بالنسبة لهم خلاصة بلاد البوسنة والهرسك، بلد القوميات المتعددة، وسقوطها يعني سقوط ذلك المشروع، لذلك وقف هؤلاء الكتاب إلى جانب إخوانهم بالمواطنة من سكان المدينة، الذين أصروا هم الآخرون على مقاومة الغزاة والعنصريين..».

إنهم ذاتهم يشكلون اليوم الحركة الأدبية «سراييفو 99»، وانتقالهم للمكان الجديد لا يعني تخليهم عن مشروعهم الأصلي. إنه نوع من تغيير المكان»، يقول صمد الدين: «ربما لأن النادي كان مكانا رسميا لاتحاد الكتاب الرسميين في زمن يوغوسلافيا الشيوعية، وسابقا، كان من الصعب العثور على مكان بديل، كان عليهم الدفاع عن مشروعهم هناك، اليوم باستطاعتهم الذهاب إلى أي مكان. الشباب منهم، من فنانين ورجال مسرح وتشكيليين يزورون مقهى المتروبولس، أما هم فيجلسون عند (ملايكا)، من النادر أن يزوروا المكان السابق، وحده صمد الدين ظل أمينا لعاداته القديمة».

آلما لازاريفسكا، واحدة من جماعة «99»، التي قادتنا إلى المقهى الذي يلتقون فيه، والتي سبق أن قرأت لها أثناء سنوات الحرب: «صبر على طريقة سراييفو»، مادة ساخرة بشكل مدهش، ما زالت لها القدرة على التهكم، والكوميديا السوداء، تقول: «انسوا الحطام وكل الأموات، لقد صُفيت روح سراييفو»، ليس هناك العيش المشترك للأديان والقوميات المختلفة. الهدم حقق أهدافه. خليط سراييفو الجميل فُتت. في تلك المقالة تُذكِّر «آلما» ببداية صعود والت ديزني، وكيف أنه راح يكسب نقوده بعد الحرب العالمية الأولى، عن طريق بيعه قطع الذكرى من الحرب على الجنود الأميركان الذين لم تسنح لهم الفرصة بالمشاركة بالحرب العالمية الأولى، لوصولهم متأخرين إلى أوروبا، «كان يطلي خوذ الجنود غير المستعملة، النظيفة، بصبغة دم يابسة، ويبيعها عليهم، لكي يعرضوها في بيوتهم، ويمنحوا الانطباع بأنهم شاركوا في الحرب بصورة فعلية وجُرحوا هناك، «إننا الآن في مرحلة ما بعد والت ديزني. لم تعد هناك طلقة تسبب الصدأ لخوذة، إنها القنبلة اليدوية التي تعدم الرأس مع خوذته، آلة (تفليش) العالم الأكثر راديكالية. وعندما تضرب القنبلة، فلن يساعد حتى تكنيك أفلام والت ديزني المتحركة لجمع ما تناثر بشكل نهائي».

الروح التهكمية ورواية المفارقة السوداء، وقول الحقيقة مهما كان الثمن، أمور نسمعها أيضا من بقية جماعة «99» من كتّاب وفنانين, من المهندس المعماري المشهور إيفان شتراوس، مرورا بالمخرج السينمائي بجار زاليكا، والقاص المشهور ميركو ماريونيفيتش، والقائمة تطول: أوزرين كيبو، وماركو فيسوفيش، نيرمينا كورسباهيج، بريدراغ ماتيفيفيج، عاصم ميتلييفيش، نيناد فيليشكوفيج، كريم زايموفيج، أيفجين بافشار، فيليبور جوليش، عبدلله سيدران، بجير زاليكا، ماروشا كريسه، هرفويه باتينيك، دوبرافكو لوفرينوفيش، نيناند فيسير، ديزيفاد كاراحسان،...وغيرهم. كل القصص التي نسمعها منهم لا تسترجع مُثلا ماضية أو تدعي مُثلا جديدة. إنها ببساطة تحكي القصص فقط، عن المدينة وسكانها، بعيدا عن الانتساب لطائفة أو حزب، لدين أو جماعة، في سراييفو، «بيت الجثث»، كما سماها محمدينوفيك في قصته الكابوسية المدهشة «شيطان وزهرة»، لم يُقتل غير الإنسان، والقتلة من كل الطوائف ما زالوا طليقين يمرحون بحرية. إنها الحقيقة المرة، ثلاثة أيام من الإقامة في سراييفو، بعد رحلة عبر البوسنة والهرسك، رأينا روح سراييفو عبر عيون مثقفيها، رساميها، مسرحييها، معماريها، علمائها وأساتذة جامعاتها، وسواء جلسوا في نادي الكتاب القديم أو في مقهى المتروبولس الحديث، أو في «الفاسا مسكينا»، فإنهم يلتقون في مكان واحد، عند طاولة يأس مشتركة، لكي يعملوا من جديد على تشكيل «موديل سراييفو الأصيل»، «حيث لا ينتمي الإنسان إلى جماعة معينة، الإنسان هذا الذي أنهكته الحرب، وأتعبته الضغائن، ودمرته الأحقاد». أليس ذلك ما يفعله البعض من مثقفي بغداد؟! إذن إنه «أستتيك المقاومة» من جديد.