جاكرتا تحتفي بالموسيقى الصوفية

TT

الموسيقى الصوفية لا تزال فئوية والاهتمام بها من عامة الناس محدود. ومع ذلك قامت إندونيسيا بمبادرة من وزارة الشؤون الدينية مؤخرا، بتنظيم مهرجان لهذا النوع الموسيقي، يعتبر تجريبيا. المشاركون من دول إسلامية عدة، جاءوا ولكل منهم رؤيته وطريقته في اللباس والأداء، وفي النظر إلى ما يقوم به. أجواء هذا المهرجان الذي شهدته جاكرتا في هذا التحقيق.

في أرجاء المدينة المزدحمة، لم تكن حركة السيارات والدراجات النارية الصاخبة تشي بأن هناك مناسبة فنية فريدة تجمع بين ست جنسيات مختلفة. خطوات قليلة كانت تفصل بين العالمين اللذين اجتمعا تحت سماء العاصمة الإندونيسية جاكرتا عبر مهرجانها الأول للموسيقى الصوفية. وعلى مدار ثلاثة أيام تفاعل الجمهور (الفئوي) مع الفرق المشاركة رغم مأزق اختلاف اللغات، فخرج المهرجان بمستوى جيد وإن لم يخل من أخطاء السنة الأولى!

بدا حفل الافتتاح مزدحما إذ امتدت الكلمات الرسمية لتلتهم نصيبا لا بأس به من الوقت المخصص له، ثم تتوالى عروض الفرق المشاركة من إندونيسيا، ومصر، والمغرب، وتركيا، وباكستان، وإيران، ومع الوقت كان الجمهور ينسحب تدريجيا تحت وطأة الإرهاق وتأخر الوقت.

في اليوم التالي كان الإيقاع أسرع، فعلى خشبة مسرح جامعة شريف هداية الله - التي شاركت في تنظيم المهرجان مع وزارة الشؤون الدينية - تم إلقاء كلمتين سريعتين من نائب رئيس الجامعة ووكيلة الوزارة، بعدها تولى طالب وطالبة مهمة تقديم الفرق وإجراء حوار سريع مع متحدث من كل فرقة. الحوار كان حلا تقنيا يتيح للفرقة التالية أن تستعد في الخلف بينما تتصدر الفرقة التي أنهت عرضها مقدمة المسرح وتقوم بدور الستار الذي يمنع الجمهور من مشاهدة ما يجري في الكواليس! ولأن الحوار يقوم بدور وظيفي على خشبة المسرح فإن مدته لم تكن ثابتة بل اختلفت من فرقة لأخرى. الطريف أن اختلاف المساحة الزمنية المعطاة للكلام في هذه الحالة لا يخضع لأسباب تتعلق بأهمية ما يقال، لكنه يعتمد في الأساس على الوقت الذي تنتهي فيه الفرقة الجديدة من استعداداتها. وهكذا كانت الأسئلة تتزايد أو تتناقص تبعا لهذا المتغير وحده. غير أن سؤال الفلسفة احتفظ بحضوره كعامل مشترك بين الفرق كلها. تنوعت الإجابات لتعبر في معظمها عن أن هناك فرقا لم تحدد لنفسها منهجا أو رؤية حتى الآن رغم ما تقدمه من إبداع حقيقي. غير أن فرقة مدينة شفشاون المغربية كانت تمتلك فلسفة واضحة، حيث قالت مؤسستها ورئيستها أرحوم البقالي: «فكرنا أن نؤطر للمرأة العربية المسلمة في الغناء الصوفي، بحيث لا يظل حكرا على الرجال فقط». خلال ثلاثة عروض كانت الفرقة بالفعل تبدو مختلفة، فكل أعضائها من الفتيات اللاتي يرتدين زيا مغربيا تقليديا تم اختيار مفرداته بعناية. توضح البقالي: «اخترت القفطان الذي يعتبر زيا للمرأة الشمالية، ويزيد عمره على قرن كامل». ما ينطبق على القفطان يمتد إلى غطاء الشعر والحزام. اختيار الزي مضى متزامنا مع اختيار المضمون الذي تقدمه الفرقة.. «توجد في المغرب عدة طرق للغناء الصوفي، اخترنا منها الحضرة الشفشاوية ونقدم من خلالها وصلات من المدح والسماع». رؤية واضحة على مستويي الشكل والمضمون قابلها غياب على المستويين أو أحدهما لدى بقية الفرق. على مستوى الشكل اختارت بعض الفرق زيا تقليديا مثل الفرقة المغربية التي أشرنا إليها والفرق الإندونيسية وفرقة «السباعية» من مصر. وقد اختارت الأخيرة الجلباب الأسواني والطاقية، بينما وحد الفريق الإيراني زيه ذا الطبيعة العصرية، ربما ليحاول إثبات أن الموسيقى الصوفية يمكن أن ترتبط بالحاضر ولا يشترط أن ترتبط بالماضي في كل الأحوال. لكن حتى هذه الرؤية لم تظهر عند الحديث عن الفرقة التي تعتمد على أشعار مولانا جلال الدين الرومي. مولانا كان حاضرا أيضا مع الفرقة التركية التي لم تكتف بالاستعانة بأشعاره بل اعتمدت على رقصة التنورة التي يظهر فيها الراقصون وهم يحيطون بمن يعبر عن شخصية الرومي. الطريف أن الرقصة استدعت الكثير من الكاميرات وأجهزة الموبايل التي اهتم أصحابها بتسجيل اللحظة ليطرح السؤال نفسه: هل يملك الجمهور الوعي المناسب لسماع الأغاني الصوفية، أم أنه يتعامل مع الموضوع بوصفه طقسا فلكلوريا يملك القدرة على جذب الانتباه؟ لو تم طرح هذا السؤال في مهرجان عربي لكانت الإجابة عنه أكثر سهولة، لأن اللغة ستصبح متغيرا يتم تحييده لصالح السؤال الأصلي. أما في إندونيسيا فمحاولة الحصول على إجابة تبدو أمرا غاية في الصعوبة، لأن الجمهور يواجه مأزق اللغة الذي يحد من قدرته على التواصل مع أي فن عادي، فما بالنا بالغناء الصوفي الذي تعتمد مفرداته في معظم الأحيان على المجاز الذي يجعل فهمه عسيرا حتى من جانب أبناء اللغة التي تنتمي إليها الفرقة؟ لهذا اعتمد تفاعل الجمهور الإندونيسي مع الفرق على عوامل تنفصل تماما عن مضمون المهرجان. ففي اليوم الأول تفاعل مع الفرق الإندونيسية بحكم اللغة المشتركة، وانفصل عن معظم العروض الباقية بعد أن أرهقته كلمات حفل الافتتاح التي استغرقت وقتا طويلا. وفي اليوم التالي كان جمهور الجامعة الإسلامية من الطلاب الذين أحضرهم الفضول أو تعليمات الأساتذة التي نعتادها في جامعاتنا في مثل هذه الأحوال، أي إن الجمهور ليس مهتما بالموسيقى الصوفية في الأساس. والأمر ليس استنتاجا متعجلا بل يقوم على قراءة للمشهد الذي استمر عدة ساعات. كان الجمهور خلالها يلجأ إلى الصمت عندما يفقد التواصل مع فرقة ما، وفجأة يعلو صوته بالغناء مرددا مع الفرقة كلماتها التي يعرفها بحكم انتمائه الديني. لهذا ردد الكثير من الحاضرين أغنية «طلع البدر علينا» مع فرقة «السباعية» المصرية كما تعايشوا مع معظم أناشيدها التي تركز على مدح الرسول - عليه الصلاة والسلام. وهي نصوص يمكن أن تصنف باعتبارها ذات طبيعة دينية أكثر من كونها تنتمي إلى التراث الصوفي. الجمهور نفسه انخرط في التصفيق مع الفريق الإيراني الذي تخلى عن الكلمة لصالح الموسيقى عبر وصلة استغرقت دقائق لم يتخللها أي غناء، مما ساهم في استعادة جمهور كان قد بدأ يفقد تركيزه نتيجة عدم استيعاب اللغة الفارسية، ليتكرر الأمر نفسه بعد قليل مع الفريق الباكستاني الذي اعتمد على الإيقاع أكثر من اعتماده على النص المغنى.

ما حدث في حفلي الافتتاح والجامعة الإسلامية تكرر في اليوم الثالث لكن بصورة أكثر تنظيما واختزالا. فقد اجتمعت الفرق في برنامج بثه التلفزيون الرسمي الإندونيسي لتقدم كل منها فقرة لا تتجاوز سبع دقائق، إضافة إلى لقاء سريع مع متحدث عن كل فرقة، في حضور جمهور تم انتقاؤه بطبيعة الحال وفق الأساليب المتعارف عليها إعلاميا. وهو الأمر الذي يثير التساؤل حول تفاعله الحار مع معظم الفرق، وهل كان تفاعلا حقيقيا أم مخططا له ليضفي على البرنامج حيوية مفتعلة. التركيز على الجمهور الأخير ليس حديثا سفسطائيا بل هو أمر يحتاج إلى تحليل جاد لتحديد ما إذا كان المهرجان الأول للموسيقى الصوفية قد نجح في إيجاد جسر بين الجمهور وهذا الفن الصعب أم لا، غير أن الإجابة لن تكون سهلة لأن الفرق واجهت عبر أيام المهرجان الثلاثة جمهورا فئويا. ففي الافتتاح كان معظم أفراده من الرسميين والمحيطين بهم، وفي اليوم التالي كان الطلبة هم الغالبية العظمى، وفي التلفزيون تم إعداد الجمهور وفق متطلبات الشاشة فقط. وهكذا غاب الجمهور الحقيقي، لكن تظل الفكرة تحمل عناصر جاذبيتها، وربما تنجح - في حال تكرارها - في الوصول إلى الجمهور الحقيقي وتحاول مد الجسور معه عبر تخطي عوائق اللغة ومجازاتها.