ناشر لبناني جمع 20 ألف ملصق سينمائي للتعريف بالفن السابع

أبو جودة قضى عمره متنقلا بين العواصم ليؤرخ لقرن كامل

أبو جودة بين ملصقاته
TT

وجه آخر للناشر اللبناني المعروف عبودي أبو جودة، ربما كان أقل شهرة لكنه ليس أقل أهمية من الأول، وهو عشقه لجمع الملصقات السينمائية، حتى بات يمتلك ما يزيد على عشرين ألف ملصق، تعود لأفلام عربية وأجنبية ومسرحيات.

ويقول أبو جودة، صاحب «دار الفرات للنشر» في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «كان هدفي وما يزال، أن تعكس هذه الملصقات التحول الاجتماعي والفني والسياسي في البلدان العربية خلال قرن من الزمن، خاصة أن تاريخ صناعتها شهد تحولات كثيرة في الشكل والمضمون». ويضيف: «ما زلت أحاول توثيق تاريخ السينما العربية من خلال الملصق، واضعا مجموعتي في خدمة جيل الشباب وطلاب الجامعات، خاصة قسمي السينما والمسرح ومن يهواهما».

أفيش فيلم «الوردة البيضاء» للفنان الراحل محمد عبد الوهاب، الأقدم بين المجموعة، يعيدك أثناء تجولك بين رفوف مكتبة أبو جودة الكائنة في منطقة الحمرا، إلى عام 1933، يومها كان عبد الوهاب بطلا من دون منازع، تكمل طريقك لتلاحظ أفيشات لأفلام قديمة بالحجم الكبير داخل خزائن الذاكرة، ومنها «أول نظرة» الفيلم الأول للفنانة صباح، و«بياع الخواتم» الفيلم الأول لفيروز (عام 1965)، وفيلم «عايدة» لكوكب الشرق أم كلثوم، و«ليلة ممطرة» لليلى مراد، و«أبو حلموس» ليوسف وهبة، أما آخر أفيش حصل عليه فيعود لفيلم «قلبي يهواك» لصباح (1955).

هواية أبو جودة بدأت منذ كان مراهقا أوائل السبعينات، حيث كان مدمنا على مشاهدة الأفلام السينمائية، يجمع ملصقات هذه الأفلام في غرفته كنوع من التسلية والترفيه، وراح عددها يزداد يوما بعد يوم، مكونا بشكل تراكمي ذاكرة أفلام تلك الحقبة.

وفي استعادة لذكريات الشباب التي يصفها أبو جودة بالإحساس الجميل، والكفيل بتزويدنا بالراحة خلال ضغوطات العمل، يوضح: «روح الاندفاع والشغف، وحب البحث والاطلاع والامتلاك، قادتني إلى أغلب دور السينما آنذاك، طالبا منها نسخا عن ملصقات الأفلام القديمة والجديدة. جولات شملت أبرز العواصم العربية، منها دمشق، القاهرة، تونس، الجزائر والأردن».

شركات الإنتاج، مؤسسات معنية، أشخاص تجمعهم الهواية نفسها، شكلوا أيضا مصادر ملصقات أبو جودة داخل لبنان وخارجه، التي تذكره أيضا بفنانين كبار شاركوا في صناعتها، كالفنان التشكيلي المصري حلمي التوني، وغيره، قبل أن تبدأ هذه الصناعة في التلاشي في السبعينات.

اهتمامات أبو جودة لم تنحصر في جمع الملصقات، بل تعدتها إلى جمع الكتب السينمائية ذات الطباعة المميزة، ومنها «تاريخ السينما العربية» لجورج سادول، ومذكرات أسمهان وبديعة مصابني، وكتاب يلخص جميع أفلام الروائي نجيب محفوظ.

إرث فني وثقافي يتمتع داخل مكتبة أبو جودة بحرارة تنخفض إلى 17 درجة، كفيلة بالمحافظة عليه من الرطوبة، فيما تقف أغلفة النايلون، سدا منيعا في وجه الغبار الذي يمكن أن ينهش ملصقاته.

وردا على سؤال، يجيب هاوي الملصقات: «غالبا ما كنت أدفع ثمن الملصق من جيبي الخاص، كنت أخصص ميزانية معينة لمجموعتي، معتمدا أحيانا على مبدأ المقايضة بين ما ينقصني وينقص الآخرين، كما فعلت عدة مرات مع القاهرة».

ولا يتردد أبو جودة في إضفاء صفة الندرة على جميع ملصقاته دون استثناء، مؤكدا أنها جميعها على القدر نفسه من الأهمية، غير آبه للأصوات التي تنتقده ماضيا وحاضرا حول هذه الملصقات.

عروض كثيرة قدمت لأبو جودة لشراء مجموعته فكان الرفض جوابه الدائم، لأنه ببساطة لم يفكر يوما ببيع هوايته وإرثه، ويستوقفك في بعض محطاته ملصق غير مصور، وهو عبارة عن لافتة تعود إلى عام 1928.

قناعات راسخة تقف وراء تعلق أبو جودة المزمن بالسينما، تتجسد في قضاء أوقات ممتعة من الإجازة فيها، حيث النقاهة والترفيه للعائلة مجتمعة، ما لا يستطيع توفيره جهاز الـ«دي في دي» في المنزل.

«الإبداع البشري بات غائبا في ظل صناعة الكومبيوتر، الذي راح يقوم بوظائف بشرية عدة، مما جعل التفكير الإنساني اعتماديا، والفن يتبخر، ومستوى الترفيه ينخفض عن ذي قبل»، هكذا يرى من يمتلك 2500 ملصق لفيلم مصري من أصل 5000، لافتا إلى احتمال ضئيل ووقت طويل لاستكمالهم، في حين أنه تمكن من جمع ما يقارب الـ75 في المائة من ملصقات الأفلام اللبنانية، منذ بداية مشواره.

واليوم، يبدو أبو جودة حريصا على الحفاظ على إرثه السينمائي والفني، من خلال عدة مشاريع مستقبلية، منها العمل على إنجاز كتاب يختصر مجموعته بأسلوب عصري ودقيق، فضلا عن التحضير لعرضها على عامة الناس، عبر مؤسسة تشرف عليها الدوائر والوزارات الرسمية لبنانيا، والمؤسسات المعنية خارجيا، كاشفا عن تعاون يسير بشكل جيد، سيعطي ثماره خلال سنة واحدة.

يذكر أن هذه الملصقات كانت مخزنة في المستودعات السينمائية وشركات الإنتاج، لأن الأفلام كانت تعرض تكرارا كل ثلاث سنوات، بسبب غياب التلفزيون الذي يعرض الفيلم بشكل متكرر، فتحتفظ دور السينما بالصور بغية عرضها إعلانا عن الفيلم الذي سيعاد عرضه، مثل أفلام عبد الوهاب وعبد الحليم وأم كلثوم وسعاد حسني. وبقي هذا الأسلوب معتمدا حتى أوائل الثمانينات، وهي فترة انتشار جهاز الفيديو بين أوساط العامة.

ويشار إلى أن أبو جودة من محبي المطربة فيروز، لكنه لا يمتلك ملصقات جميع أفلامها، وهو يعتبر أن صباح من أهم ممثلات العالم العربي، إلا أنها لم تأخذ حقها على الرغم من أنها مثلت في أكثر من مائة فيلم. وبفضل مجموعة أبو جودة الغنية عن صباح استطاع «مهرجان بيت الدين» هذا العام أن يعرض على جمهوره 40 ملصقا لأهم أفلام هذه الفنانة، ضمن معرض أقيم للتعريف بمراحل حياتها. وهو مجرد غيض من فيض كنوز أبو جودة.