هلال الحجري: الجوائز العربية «مشبوهة».. والترشيح لـ«البوكر» لا يعني التميز

الناقد العماني: بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة لم يعد هناك معنى لاستقلالية المثقفين

هلال الحجري
TT

على مدى أكثر من عشر سنوات، يعكف الناقد والشاعر هلال بن سعيد الحجري، أستاذ الأدب المقارن بجامعة السلطان قابوس، على سبر أغوار الثقافة العمانية وعلاقتها بمحيطها العربي، والجذور التي تتصل بها في العالم، وقد أعد العشرات من الدراسات والأبحاث عن الوثائق العمانية، ورحلات المستشرقين، بالإضافة لما أنتجته الثقافة العمانية عبر اتصالها القديم بالحضارات الإنسانية.

من موقعه كذلك، يطل هلال الحجري على التجربة الثقافية بمختلف أبعادها التي يراها، خلافا لزملاء له في عمان، تجربة عميقة ومتحفزة وثرية وتبعث على الأمل، في حين أنه ينظر لجيل تكونت بذرته منذ أربعين عاما على أن لديه طموحا لا حد له في التميز الثقافي.

وهنا حوار معه..

* كيف ترى صورة المشهد الثقافي في عُمان؟

- المشهد الثقافي في عمان حاليا زاخر ومتنوع. هناك منظومة من الأنشطة الأدبية، والفنية، والفكرية تضطلع بها وزارة التراث والثقافة، والنادي الثقافي، وجمعية الكتّاب، وجمعية الفنون التشكيلية، وجامعة السلطان قابوس، وبعض الجامعات الخاصة، وغيرها من المؤسسات. من الفعاليات، معرض مسقط الدولي للكتاب، ومهرجان مسقط السنوي، الذي يتضمن محاضرات وأمسيات يدعى لها كبار المثقفين والمبدعين العرب، كما يتضمن عروضا فنية عالمية. ومهرجان مسقط للعود العربي الذي يمثل بحق نقلة نوعية في المشهد الثقافي العماني لما يتضمنه من أمسيات يحييها أبرز الفنانين العرب، مثل عمار الشريعي، ونصير شمة. والموسم الثقافي الذي تنظمه وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وهو حراك نوعي حرص على استضافة أهم المستشرقين في العالم من أمثال برنارد لويس.

صورة المشهد إذن، كما أسلفت، غنية ومتعددة الأبعاد، لكن المشكلة تكمن أحيانا في قلة الحضور لهذه الفعاليات خاصة ما يتعلق منها بالأدب والفكر.

* لماذا انكفأت التجربة الثقافية في حدود السلطنة؟

- لعلها لم تحظ بالدعم الكافي من قبل الدولة أو القطاع الخاص. نعم هناك محاولات تقودها وزارة التراث والثقافة تتمثل في إقامة أسابيع ثقافية في بعض الدول العربية والأجنبية، لكنها تظل قاصرة لأنها غير منتظمة. وحري بالمؤسسات الثقافية الأخرى، بما فيها مؤسسات القطاع الخاص، أن تقوم بدور أكبر في دعم المثقف العماني وتعزيز انتشاره خارج حدود الوطن. هذه من المهام الوطنية الكبرى ولا يجوز التقاعس عنها؛ لأنها ستؤدي إلى عزلة عمان - وهي بلد ضارب بجذوره في أعماق التاريخ والحضارة - وإفساح المجال للتصورات النمطية الضيقة لدى بعض المثقفين العرب الذين يسخرون من دول الخليج العربي ويختزلونها في كانتونات نفطية هامشية.

* من خلال قراءتك للعديد من التجارب الشابة في عمان، أين تصنف هذه التجارب بالمقارنة مع نظيراتها في الدول الخليجية.. أين تلتقي أو تفترق التجربة الثقافية في عمان مع التجارب الخليجية؟

- التجربة الكتابية العمانية لا تختلف كثيرا عن مثيلاتها في دول الخليج العربي. على الصعيد الشعري، توجد في عمان أصوات شابة من الذكور والإناث، متأثرة في غالبها برموز قصيدة التفعيلة في العالم العربي، خاصة محمود درويش، وبعضها متأثر بغنائية نزار قباني. وهذا التأثر طبيعي في سياق عمر هذه التجارب، وهي فوق ذلك تشق طريقها نحو الخصوصية. تمثل المدرسة الدرويشية أسماء مثل عائشة السيفي، ومعاوية الرواحي، وشميسة النعماني، وإسحاق الخنجري وغيرهم من الشعراء الشباب الذين تخرجوا في جامعة السلطان قابوس واحتوتهم «جماعة الخليل بن أحمد» الأدبية بالجامعة. أما نزار قباني فنلمس غنائيته في بعض قصائد الأسماء السابقة، لكن شاعرا مثل عبد الله العريمي يكاد يكون أوفى هؤلاء الشباب للمدرسة النزارية. وهناك أصوات شعرية أخرى انحازت ربما لرمز شعري عماني هو الشاعر الكبير أبو مسلم البهلاني، وأذكر منها على سبيل المثال يونس البوسعيدي، وماجد الندابي، وأشرف العاصمي، وخليل الجابري.

* ماذا عن قصيدة النثر؟

- الملاحظ على هذا الجيل من الشعراء عدم انجذابهم لقصيدة النثر، وهو أمر محير حقا؛ لأن الرواد وجيل التسعينات من الشعراء في عمان وسائر دول الخليج العربي انحازوا بشكل واضح وعميق لهذا المسار الشعري. ومن البديهي هنا أنني أسوق خطوطا عامة لملامح هذه التجارب استجابة للسؤال، وإلا فإن الدراسة المعمقة لتجارب هذا الجيل وحدها ستكشف عن مسارب هذه التأثيرات.

* كيف انعكست التطورات الاجتماعية والاقتصادية، وحتى السياسية، التي مرت بها السلطنة على الأداء الثقافي؟

- منذ انهيار الإمبراطورية العمانية في أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر حتى سنة 1970 لم يكن لعمان حضور ثقافي يذكر بسبب التقلبات السياسية والحروب الأهلية التي هيمنت على تلك المرحلة. لكن العهد الجديد الذي شهدته عمان خلال السنوات الأربعين الماضية، وما صحبه من تنمية شاملة وانفتاح على العالم الخارجي، كان له دون شك تأثير واسع على الأداء الثقافي. والمثقفون العمانيون اليوم يدركون حجم تطور العمل الثقافي الذي تحقق خلال العقود الأربعة الماضية. ولا أريد هنا أن أعدد الإنجازات الثقافية في عمان، وإنما سأشير إلى أهمها بما يتصل بفحوى السؤال. ولعل المتابعين للمشهد الثقافي العماني يعرفون أن مجلة «نزوى» تشكل هرم الإنجازات الثقافية العمانية.

* ماذا تمثل مجلة «نزوى» حتى تقول إنها تشكل هرم الإنجازات الثقافية العمانية؟

- مجلة «نزوى» رافد عماني يصب في نهر الثقافة العربية بعنفوان لم يستسلم لملمات القحط، ومكائد التدمير المحدقة به. فمنذ العدد الأول في سنة 1994، والمجلة اختطت لنفسها خطابا مثيرا للجدل، شأنها شأن التجارب العالمية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، خطابا يسعى إلى التواصل لا الانقطاع، وإلى البناء لا الهدم، لكنه يقوم على المساءلة لا المهادنة، ويفضي إلى الجديد لا السائد.

ولا شك أن خطابا كهذا ينطلق من الجزيرة العربية، لن يمر من دون محن، فالذهنية التقليدية المتعصبة للقديم لا لشيء إلا أنه قديم، ما زالت تقض مضاجعها مشاريع تطوير الثقافة العربية واجتراح الحداثة.

وطالما سمعنا بعض التقليديين يتفوهون بكلمات السخرية مما نشرته «نزوى» في أعدادها المختلفة بحجة أنها دراسات وقصائد حداثية لم تستطع عقولهم التي استمرأت الخطابة والضجيج فهمها واكتناهها. ومع أن مشروعا نهضويا طموحا كـ«نزوى» كان ينبغي أن يلقى مساندة ودعما من المثقفين والكتاب العمانيين، فإن كثيرا منهم للأسف انفضوا عنه وصعّروا خدودهم له لأسباب لا أحد يعرف أغوارها إن لم تكن أهواء شخصية وحسابات فئوية.

* وكيف واجهت «نزوى» هذا التحدي؟

- رغم الصعوبات استطاعت «نزوى» عبر ستة وستين عددا، حتى الآن، من المحاور الثقافية المختلفة أن تكوّن لعمان سمعة تليق ببلد أسهم أسلافه المبدعون في رفد الثقافة العربية بمعارف أصيلة ونوعية. حاولت «نزوى» في أعدادها أن تفسح مجالا واسعا للثقافة العمانية شعرا، وسردا، ومسرحا، وتشكيلا، ونقدا، ودراسات متنوعة. وهي في ذلك كله تتوخى منهجا متزنا يستند إلى أصالة التراث، ويفيء إلى الحداثة. يلتقي في «نزوى» سليمان النبهاني بنرجسيته، وأبو مسلم البهلاني بصوفيته وألقه، ونور الدين السالمي بغيرته ونهضته، والشيخ عبد الله الخليلي بتأملاته وزهده، وسيف الرحبي باغترابه وقلقه، وأحمد الفلاحي بتفاؤله وأبويته.. كل هذه الأطياف العمانية المختلفة اتسعت لها «نزوى» وعبرت بها إلى المثقف العربي في أصقاع الدنيا، في مصر، والمغرب، ولبنان، وبريطانيا، وفرنسا، وأميركا.. وبهذا ولأول مرة يتاح للمثقف العماني أن يخرج عن عزلة طوقته بها صحراء الربع الخالي، وقمم الجبال، وأعماق المحيط الهندي.

* هل يشعر المثقفون العمانيون بأنهم يمارسون دورا مستقلا في الأداء الثقافي؟

- بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة وفي ظل التطور الهائل لوسائل الاتصال الإلكترونية، لم يعد هناك معنى للاستقلالية في الدور الثقافي. العمانيون وغيرهم من الشعوب العربية والعالمية الآن عبر الإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال تنتظمهم في الأداء الثقافي جوقة موسيقية إنسانية يصدرون لحنا واحدا رغم اختلاف الآلات التي يعزفون عليها. هكذا أرى العمل الثقافي الآن، أو على الأقل هكذا سيكون في ضوء المتغيرات السياسية والمجتمعية الراهنة في العالم العربي.

* لماذا لم تبرز أسماء جديدة في عالم السرد والنقد والشعر؟

- في عمان أسماء متحققة شعريا وسرديا، بل إن بعضها يتمتع بسمعة واسعة في العالم العربي. لعل أول الأسماء التي لا تخطئها العين هنا الشاعر سيف الرحبي الذي يمثل من وجهة نظري تجربة شعرية خاصة في الشعر العربي المعاصر. وينضم إليه في هذا التحقق الشاعر زاهر الغافري، وعلى المستوى السردي يمكنني أن أشير إلى علي المعمري الذي استطاع في أعماله الروائية الأخيرة أن يفتح نافذة جديدة في تجربة السرد في عمان. أما على المستوى النقدي، فأتفق معك في عدم بروز أي ناقد لدينا، لكن ربما يكمن السبب في عدم تمكن النقاد العمانيين من التفرغ للدراسة والبحث، فما زالوا يرزحون تحت أعباء الوظيفة ومتطلباتها القاسية.

* كيف تفسر أن الرواية تسير ببطء في عمان، بعكس القصة التي تبدو منتعشة هناك؟

- طبيعة العمل الروائي وما يتطلبه من ثقافة، ومشاهدات في الحياة، وقدرة على التخيل، تجعل الرواية أقل حضورا من القصة. إضافة إلى أن معظم الكتاب لدينا من أعمار متوسطة، وتجربتهم الحياتية غير كافية من وجهة نظري لتحقيق إنجازات روائية متراكمة. عمان ربما تختلف قليلا عن بعض دول الخليج العربي في سياقها التاريخي؛ فقد مرت عمان بمرحلة عصيبة قبل سنة 1970، فلم تكن هناك مدارس أو جامعات، كما أنها كانت مقطوعة عن العالم الخارجي. وبعد السبعين توافر المناخ الحقيقي للثقافة والإبداع، لكنه كان متدرجا، كما أن أربعة عقود فقط، في عمر الشعوب، لا تكفي على الإطلاق لخلق تجربة متراكمة في الرواية، وهو فن كما تعلم يتطلب مختبرا حياتيا كبيرا كي يتحقق كما ينبغي. لدينا الآن جيل رائع من كتاب القصة، ونعول عليه كثيرا في المستقبل لأن يؤسس إنجازا روائيا متميزا. لكن المسألة تتطلب وقتا وليس عجلة في المشاريع الأدبية الكبرى.

* رواية عبد العزيز الفارسي الوحيدة «تبكي الأرض يضحك زحل» تمكنت أن تطرق باب جائزة «البوكر»، مما يدل على نضج تلك التجربة، لكننا لم نشهد تجارب مماثلة!

- بداية، دعني أقر بأن الجوائز العربية مشبوهة ولا تسير على نهج حيادي كالجوائز الأجنبية. معظم الجوائز العربية ملوثة بالتحزبات الضيقة والشللية العفنة التي تهيمن على ثقافتنا العربية للأسف. وعليه، لا أرى أن عملا رشح أو فاز بـ«البوكر» العربية هو بالضرورة عمل فني خلاق ومتميز، والعكس صحيح أيضا، فالأعمال التي لم ترشح لهذه الجائزة قد تكون الأروع والأجمل. أما رواية عبد العزيز الفارسي، فهي عمل جيد لكنه ليس الأهم مما صدر من روايات في عمان حتى الآن. هناك روايات تتوفر على نضج فني وخصوصية متميزة مثل رواية «الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي، و«همس الجسور» و«بن سولع» لعلي المعمري، و«الأبيض والأحمر» لحسين العبري، «والأشياء ليست في أماكنها» لهدى الجهوري. ما ينقص هذه الروايات هو الدراسات النقدية الجادة التي تسبر أغوارها وتكشف عن جمالها، وتعرف بها خارج عمان.

* ماذا عن المرأة في عمان، من خلال قراءتك للمشهد الثقافي ما هي أبرز الأسماء النسائية؟

- أعود مرة أخرى لمسألة الحقبة الزمنية التي نشأت وترعرعت فيها التجربة الكتابية في عمان، وهي السنوات الأربعون الماضية، بل ربما تكون حالة المرأة الكاتبة أكثر حرجا من حالة شقيقها الرجل. ورغم أن المجتمع العماني، مقارنة ببعض المجتمعات الخليجية، يمكن أن يعد مجتمعا متفتحا في مسألة تعليم المرأة ومشاركتها للرجل في العمل الثقافي، فإنه في بداية السبعينات وحتى أواخر الثمانينات، شهد بطأ شديدا في حضور المرأة كمثقفة وكاتبة. ولعل هذا السبب هو وراء عدم بروز أسماء نسائية كثيرة في مجال الإبداع والثقافة مقارنة بالرجل.

ومع ذلك أستطيع أن أقول باطمئنان كبير إن العقدين الأخيرين من عمر النهضة العمانية قد أفسحا الطريق لأصوات نسائية واعدة ويمكنها أن تشكل مستقبلا خطابا نسائيا متميزا في المنطقة. إن أسماء مثل فاطمة الشيدي، وهدى الجهوري، وجوخة الحارثي، وحصة البادي، وخولة الظاهري، وبدرية الشحي، وبشرى خلفان، وآمنة ربيع، وأخريات.. قدمت حتى الآن أعمالا إبداعية في الشعر والسرد والنقد تتسم بالجرأة وملامسة الواقع ملامسة عميقة، وبتفاصيل لا تستطيع عين الرجل أن تلتقطها.

* سيرة أدبية

* أستاذ مساعد في الأدب المقارن، قسم اللغة العربية، جامعة السلطان قابوس.. (مواليد عام 1968 في بدية، بالمنطقة الشرقية بعمان)، قدم عددا من الدراسات باللغتين العربية والإنجليزية، منها:

- «أخطاء المحققين لدواوين الشعر العماني: دراسة عروضية»، «إضاءات من الشعر العماني»، «الربع الخالي في الأدب الإنجليزي: نصوص شعرية»، «مدخل إلى أدب الرحلات في عمان: دراسة وصفية للرحالة البريطانيين 1627 – 1970»، «عمان، الواحة الذاهبة: رواية من الأدب الإنجليزي»، «عمان في الشعر الإنجليزي»، «أدب الرحلات والاستشراق: البحث عن منهج»، «الواقعية النقدية في القصة الحديثة في عمان»، «ولفريد ثيسيجر، والبحث عن المدينة الفاضلة في الربع الخالي».

* أصدر عددا من الكتب من بينها:

- «هذا الليل لي»، ديوان شعر (مسقط، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، 2006).

- «العَروض المُغنَّى»، مشروع جديد لتدريس أوزان الشعر العربي (مسقط، وزارة التراث والثقافة، 2006).

- «غواية المجهول: عُمان في الأدب الإنجليزي»، (عمّان: دار الانتشار، 2010)