الثقافة المصرية على مائدة رمضان

تزهر منابرها في الشهر الفضيل وتذبل بقية العام

TT

> إذا كانت الثقافة المصرية تزهر غالبا في رمضان، كفعل خير أو صدقة جارية، فإن هذه الأنشطة تذبل وتجف بانتهاء الشهر، وهي ظاهرة تستحق الرصد. حلول رمضان هذه السنة في ظل الثورة أعطى دفعا جديدا وجعل الاهتمام ينصبّ على مواضيع. الثقافة في رمضان القاهرة ليست كما في الشهور الأخرى، ومع الثورة بات لها طعم آخر. تحقيق يلقي الضوء.

حالة من السيولة تعيشها الأوساط الثقافية في مصر، على نحو خاص بمناسبة شهر رمضان. فما إن يهلّ الشهر الفضيل حتى تسارع كل الهيئات والمؤسسات الثقافية في المجتمع إلى ارتكاب ما يمكن تسميته «فعل الخير الثقافي»، ويظل هذا الفعل ممتدا طيلة الشهر، في شكل ندوات وحلقات نقاش وأمسيات شعرية، وحفلات سمر، واستعراضات لفرق الفنون الشعبية، وحفلات طرب وغناء وإنشاد ديني، ومعارض للكتب والفنون التشكيلية. ولا تخلو كل هذه الأماكن من مقاهٍ ثقافية، توفر للمثقفين والمبدعين مناخا جيدا لممارسة فنون الدردشة والنميمة، واستعراض المهارات والقدرات الشخصية في التنكيت والتبكيت.

لكن هذه «الصدقة» الثقافية الجارية على مدار الشهر الكريم سرعان ما تتبخر وتنتهي أصداؤها بمجرد إسدال الستار على اليوم الأخير من رمضان، لتدخل الحياة الثقافية في حالة من الانكماش والبيات القسري انتظارا لرمضان آخر، وكأن مدار الفعل الثقافي وحيويته مرهونان بشهر واحد من أشهر السنة.

يفاجئك هذا الجو على نحو لافت حين تستطلع الأجندات الثقافية الرمضانية، فوزارة الثقافة المصرية - على سبيل المثال - تقدم وحدها برنامجا حافلا للاحتفال بشهر رمضان، يتضمن إقامة نحو 100 عرض فني ولقاء ثقافي في مراكز الإبداع المصرية طوال الشهر، يشارك فيه نخبة من نجوم الفن والثقافة بمصر والعالم العربي.

وتقدم مراكز الإبداع المختلفة معارض متنوعة للفن التشكيلي، حيث يقام أكثر من معرض للفنون التشكيلية للكثير من الفنانين، والخط العربي، إضافة إلى معارض وورش للحرف التقليدية، وبرامج للأطفال تتضمن الكثير من العروض الخاصة، من بينها عروض لمسرح العرائس والأراجوز وخيال الظل. بالإضافة إلى حزمة من النشاط الفكري والثقافي والفني المتنوع، تقام على هامش معرض الكتاب الذي تقيمه الهيئة المصرية العامة للكتاب هذا العام بمنطقة الطالبية بشارع فيصل بضاحية أهرامات الجيزة، في محاولة لتوصيل الكتاب إلى المناطق الشعبية.

ويضم محور اللقاءات الفكرية 10 ندوات تناقش واقع الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والإعلامية في مصر ما بعد الثورة، إضافة إلى عدد من الأمسيات الشعرية، يشارك فيها كوكبة من الشعراء المصريين والعرب. ويضم المعرض أحدث إصدارات الهيئة في مختلف المجالات بأسعار زهيدة وتخفيضات تصل من 20% إلى 50%، وعروض تتراوح ما بين 5 جنيهات لحزمة تضم 20 كتابا، وأخرى تضم 10 كتب بسعر 5 جنيهات، وبعض الكتب يصل سعرها إلى جنيه واحد.

وعلى محور الإيجاب والسلب يطرح هذا الزخم الثقافي الرمضاني الكثير من الأسئلة والمفارقات، بعضها يتعلق بطبيعة العمل الثقافي وخصوصيته، وبعضها الآخر يتعلق باستراتيجية الثقافة في مصر بشكل عام. إيجابيا يرى البعض أن فضاء شهر رمضان يشكل فرصة خاصة للعمل، كما أنه مناسبة، و«سبّوبة» للكثير من المؤسسات الثقافية لتنفض عن كاهلها الغبار، وتستفيق من حالة الركود التي تعاني منها طيلة العام، وكذلك تحريك مياه الحياة الثقافية الراكدة، وإعادة النظر في الكثير من القضايا.

وفي نظر البعض فإن هذا المشهد الرمضاني يكرس بجلاء لثقافة المناسبات والكرنفالات والمهرجانات، التي درجت على نهجها وزارة الثقافة، المؤسسة الثقافية الرسمية على مدار عقود كثيرة، على حد قول أحد الشعراء، العاملين بالمؤسسة، مضيفا: «إنهم يتمسحون في ظلال هذه المناسبة الدينية، مستغلين ما تصنعه من طقس إنساني حميم بين فئات المجتمع ويقدمون أنشطة ثقافية، أغلبها سد خانة، وذو طابع استهلاكي مكرور، يعيد استنساخ نفسه كل عام».

ومع ذلك يرى أستاذ الأدب العربي الناقد الأدبي الدكتور مدحت الجيّار أن النشاط الثقافي الذي يقدم خلال شهر رمضان، على اتساعه وتنوعه، على ما به من هشاشة وقوة يمكن أن يشكل حجر زاوية للبناء عليه طيلة العام.

ويلفت الجيار إلى بعض تلك الندوات النقدية والنقاشية الهامة التي شارك فيها، سواء ضمن أنشطة أتيلييه القاهرة، واتحاد الكتاب، ومعرض الهيئة المصرية للكتاب بشارع فيصل، خصوصا أن الحياة الثقافية في مصر، على حد قوله، «تعيش حالة من المخاض القوي في أعقاب ثورة 25 يناير، كما أنها تحتاج إلى الكثير من المراجعة والقراءة والتأمل على ضوء المكتسبات الجديدة التي فجرتها الثورة».

ويخلص الجيار إلى أن أجمل ما في الحالة الرمضانية هو لقاءات المثقفين والكتاب بعضهم ببعض، التي قلما تتوافر على مدار العام، من كثرة ضغوط وأعباء الحياة.

بينما يرى القاص سعيد الكفراوي أن هذا النشاط ضروري، لأنه يخلق متنفسا للكتاب والشعراء كي يعبروا عن أنفسهم، ويلتقوا بجمهورهم، ليس في العاصمة القاهرة فحسب، بل في شتى أقاليم مصر.

ويقول الكفراوي إنه «مع مناخ الثورة، ابتعد الكثير من هذه الأنشطة عن مفهوم ثقافة (التسلية)، وأصبحنا نرى ونسمع الكثير من الندوات واللقاءات الجادة المهمومة بقضايا الثقافة والوطن بشكل حقيقي». ويشدد الكفراوي على أنه لا بد من السعي إلى إيجاد خطاب أدبي يتناغم مع فعل الثورة، ويعيد قراءاتها في فضاء الإبداع بروح خلاقة».

ويتمنى صاحب «سدرة المنتهى» أن يكون هناك تنسيق بين هذه الأنشطة وتركيز على القضايا الجوهرية، حتى لا تقع في العشوائية، أو تكون مجرد رد فعل باهت لحركة التغيير التي بدأت تحدث في المجتمع، ولكي تستمر هذه النفحة الثقافية وتتراكم خبرات جديدة في شتى دروب الفن والإبداع.

ومن أنشطة رمضان الثقافية الدسمة برنامج الهيئة العامة لقصور الثقافة، فهو يحتوي على 14 أمسية شعرية، ومحاور للنقاش يقول عنها الكاتب الروائي فؤاد مرسي مدير إدارة الثقافة العامة بالهيئة إنها نتدرج تحت ثلاثة عناوين، الأول بعنوان: «كلام في السياسة»، ويناقش القضايا الراهنة التي تمر بها البلاد. ثم محور «كلام في المستقبل»، ويستضيف مجموعة من شباب ثورة 25 يناير، يطرحون من خلاله أفكارهم ورؤاهم لمستقبل مصر، كما يتحدثون عن تجربتهم في الثورة، ويدخلون في نقاش حي مع الجمهور. ويتضمن المحور الثالث استضافة عالِم دين وموسيقى، يتحدثان عن جماليات علم القراءة والتلاوة للقرآن الكريم، ويحاول هذا المحور سبر أبعاد العلاقة الملتبسة بين الدين والفن، كما يوضح المحور طبيعة المشترك الجمالي والإنساني بينهما.

يضيف مرسي: «أقمنا على هامش البرنامج ورشتين للقصة القصيرة والشعر، بهدف الكشف عن مبدعين جدد في هذين المجالين، من كل أنحاء الجمهورية، وإلقاء الضوء على تجاربهم، ووضع خطواتهم على الطريق الصحيح. إضافة إلى معرض للكتب بمشاركة هيئة الكتاب، والمركز القومي للترجمة والمركز القومي للطفل. كما يحتفي البرنامج بالحرف التقليدية، ويقدم للجمهور نموذجا حيا على كيفية تصنيعها».

ويطمح مرسي أن لا يقتصر هذه النشاط على شهر رمضان، ويقول: «نحن نحاول أن نخلق مناطق مشتركة، بحيث نتعايش ونتفاعل معا بحب وبشرف الخصومة الأدبية، خصوصا بعد تردي الأوضاع في عدد من قصور الثقافة بالأقاليم. وسوف نبذل قصارى جهدنا ليكون العمل الثقافي حيا على مدار العام، وذلك وفق برامج ورؤى محددة. ما يهمنا أن تدخل الثقافة والوعي بها على أجندة العامل البسيط في المصنع، والمواطن العادي في المناطق العشوائية، وأن تكون المدخل الحقيقي لعملية التثقيف السياسي، التي أصبحت ضرورة في ظل عملية التحول الثوري التي يمر بها المجتمع».

ويكشف الباحث في التراث الشعبي مدير «أطلس المأثورات الشعبية» هشام عبد العزيز عن زاوية أخرى في هذا المشهد، خصوصا بعد أن شهدت أمسيات السيرة الهلالية مساحة جذب واسعة من قبل الجمهور ضمن برنامج هيئة قصور الثقافة. يقول عبد العزيز: «إذا كان هناك في مصر ما يمكن أن نطلق عليه (فعل خير ثقافي) فعلا فليس غير محاولة توثيق الأدب الشعبي المصري، خصوصا السيرة الهلالية التي يتجدد الاحتفال بها كل عام في شهر رمضان، حيث تحرص وزارة الثقافة عن طريق (أطلس المأثورات الشعبية) على استقدام مجموعة من أهم شعراء السيرة الهلالية في مصر لإحياء مجموعة من الليالي الفنية لتسجيل وتوثيق روايات مختلفة من السيرة الهلالية من أماكن مختلفة في مصر. وهذا العام مثلا استقدم أطلس المأثورات الشعبية شاعرين للسيرة الهلالية، أحدهما من صعيد مصر وهو الشاعر عزت قرشي من محافظة سوهاج (600 كلم جنوب القاهرة)، والآخر هو الشاعر أحمد السيد حواس من وجه بحري من محافظة الغربية (110 كلم شمال القاهرة). وهي الروايات الأصلية التي يتجاهلها الإعلام ربما تحت ضغط البعض ممن يودون ترسيخ رواية واحدة للهلالية مثل الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، الذي يصر طوال عمره على أن رواية جابر أبو حسين وسيد الضوي، التي جمعها بتمويل من إذاعة الشعب في السبعينات، هي الرواية الوحيدة والأصلية للسيرة الهلالية، مع العلم أن رواية جابر أبو حسين وسيد الضوي ليست أكثر من رواية واحدة من روايات كثيرة جدا يعج بها المعمور المصري».

ويتابع عبد العزيز: «هكذا تصبح محاولة توثيق هذه الروايات الكثيرة للهلالية هي فعلا فعل خير ثقافي، حيث قامت وزارة الإعلام ممثلة في عبد اللطيف المناوي قبل ثورة 25 يناير بالتعاقد مع عبد الرحمن الأبنودي وسيد الضوي، وهو شاعر طاعن في السن، مع احترامنا الشديد له، لا يستطيع تذكّر أحداث السيرة ولا مربعاتها الآن. وتركت شعراء الهلالية الكبار الذين يملأون الأسماع في قرى مصر ونواحيها. وكانت نتيجة هذا التعاقد المريب في نظري إهدار مال عام بفائدة لا تكاد تذكر. وإن كنا لا نستطيع أن نصف ما حدث بالفساد فإننا نطمئن إلى وصف ما يحدث من توثيق روايات الهلالية وشعرائها بفعل خير للثقافة المصرية والشعب المصري، الذي كاد يكره الهلالية عند سماعها من سيد الضوي وعبد الرحمن الأبنودي».

ويخلص عبد العزيز إلى القول: «قبل أن أختم يمكنني أن أتساءل: هل يمكن أن نجد روايات جديدة للهلالية على شاشة التلفزيون المصري في ظل رئاسة المذيعة نهال كمال (زوجة عبد الرحمن الأبنودي) للتلفزيون، غير ما قدمه الشاعر سيد الضوي والأبنودي؟!».