العقلانية الأميركية تعود إلى الواجهة

صنعت ركائز الحضارة الغربية الحديثة

TT

الفلسفة العقلانية بتفرعاتها صنعت ركائز الحضارة الغربية الحديثة. معرض صيفي في واشنطن غايته مساعدة الزائر على فهم الزمان والمكان من خلال هذه الفلسفة التي غيرت حياة الناس، وأثرت في الكوكب من أقصاه إلى أقصاه، ومع ذلك قلة يعرفون فلاسفتها، وأفكارهم التي غيرت العالم. العقلانية مرة جديدة إلى الواجهة في أميركا. وهنا تحقيق يلقي الضوء.

خلال شهور الصيف، قدم متحف «هيرشهوم»، وهو واحد من مجموعة متاحف «سمثونيان» في واشنطن، معرض «الزمان والمكان»، وهو عبارة عن صور وفيديوهات لتصوير أزمنة وأمكنة محددة، كأساس لنظرية إيمانويل كانت (فيلسوف من ألمانيا، عندما كانت بروسيا، توفي سنة 1804) عن «الزمان والمكان». والتي تعتبر من أهم نظريات عصر التنوير في أوروبا، الذي طور ودعم الفكر العقلاني.

وعرض المعرض صورا وفيديوهات منها الآتي:

أولا: ساعة ثابتة في الحادية عشرة وخمس دقائق.

ثانيا: لوحة عليها فقط تاريخ «24 - 10 - 1971».

ثالثا: فيديو يتكرر كل دقيقة، فيه فيل يقف، ثم يجلس، ثم يقف.

رابعا: فيديو شلالات نياغرا (في كندا، أكبر شلالات في العالم) لا تتوقف أبدا.

وقال كتيب وزعه المعرض: «الهدف من المعرض هو تشجيع الزوار على التأمل في صور وفيديوهات عن الأزمنة والأمكنة. الهدف هو أن يتأمل الشخص من اللحظة التي أمامه إلى اللانهاية».

وكتب فيليب كينيكوف، صحافي الشؤون الثقافية في صحيفة «واشنطن بوست»: «هذه ربما أول مرة تتحول فيها فلسفة إلى صور وفيديوهات. لمئات السنين، كتب الفلاسفة عن المكان والزمان. والآن جاءت الكاميرا لتصور الزمان قبل أن يغيره المكان، والمكان قبل أن يخفيه الزمان. ولنتمكن من أن نتأمل في ذلك». وأضاف: «صحيح أنه لا يمكنك أن تعلق نظرية على حائط. لكن، صار ذلك ممكنا في عصر الكاميرا والفيديو». وجاء في كتاب «فليسوفي فور دامز» (الفلسفة للأغبياء) للدكتور توم موريس، مدير مركز باسمه في ويلمنغتون (ولاية ديلاوير)، أن «كانت» كان من أكثر فلاسفة أوروبا اهتماما بالزمان والمكان. وأنه كتب، قبل مائتي سنة، كتابه «نقد المنطق»، وقال فيه إن المكان والزمان هما أساس التفكير. وإنهما يتشابكان مثل خيوط نسيج منبسط. وكانت هذه النظرية مخرجا له، ولغيره، من نظرية أن الحياة سجن مغلق (بلا مكان وزمان: لا يتغير المكان، ولا يؤثر عليه الزمان).

حسب نظرية كانت، يمكن للشخص أن يحدد مكانه وزمانه ويتأمل فيهما. لكن، كما قال صحافي «واشنطن بوست»، مشكلة المكانية والزمانية هي أنها:

أولا: علمية جدا.

ثانيا: تنتقدها الفلسفات الشرقية (الصينية والهندية والإسلامية).

واعترف الصحافي أنه هو، كغربي عقلاني، يفسر المعرض تفسيرات مختلفة عن تفسير أي شرقي له. وذلك لأن «العقول الشرقية لا تركز على الماديات».

لكن ما هي العقلانية؟

قال الكتاب إن كلمة «راشوناليزم» (عقلانية) فضفاضة جدا، لأن كل حيوان يفكر. وفي الحقيقة، ترجمة الكلمة تبدو غير صحيحة، لأن أصلها هو «ريزوننغ» (السببية، مثل في المنطق).

لهذا، ربما يفضل استعمال «عقلانية منطقية»: إذا حدث كذا، يحدث كذا. وهذه موجودة عند كل الحيوانات، بصورة محدودة. إذا أطاع الكلب أمر سيده، ينال قطعة لحم. لكن، طبعا، منطق الإنسان هو الأكبر والأعلى.

ولأن الإنسان خرج من مرحلة تفكير قطيع الحيوانات (مثل قطيع ذئاب أو كلاب)، وصار يفكر فرديا، يمكننا استعمال وصف «العقلانية المنطقية الفردية» له أو ما يسمى «كوقنيشنيزم» (التفكير المنطقي).

وينقسم هذا التفكير المنطقي إلى قسمين:

أولا: «ثيوريتيكال» (تفكير نظري، مثل نظرية كانت).

ثانيا: «براكتيكال» (تفكير تطبيقي وعملي).

وينقسم التفكير العملي هو أيضا إلى قسمين:

أولا: «امبريكاليزم» (خاضع للتجربة العملية، مثل الاكتشافات والاختراعات).

ثانيا: «سوشيال راشوناليزم» (المنطق الاجتماعي والسلوك البشري).

وينقسم التفكير الاجتماعي إلى عدة أقسام:

أولا: «تليولوجيزم» (الغاية، والوصول إليها منطقيا).

ثانيا: «ايموشناليزم» (العاطفة، مثل: الفرح والحزن، والخوف والشجاعة).

ثالثا: «انتويشنيزم» (الفطرة الطبيعية، مثل: حب الحياة، والتناسل).

رابعا: «مستسيزم» (الإيمان بالغيب، ومنه الإيمان بالله).

خامسا: «ميثولوجيزم» (الخرافات والأساطير).

لأن الحضارة الغربية هي التي تسيطر اليوم على الحضارة العالمية، ولأن هذه التقسيمات غربية، ولأنها تأثرت بالتقدم في العلوم والآداب في الغرب، وجدت انتقادات الذين قالوا إنها أهملت غير الغربيين (الآسيويين، والشرق أوسطيين، والأفارقة، واللاتينيين).

لا اختلاف في أن التفكير العلمي واحد في كل مكان (صناعة الطائرة لتطير تعتمد على نفس التفكير العلمي في أميركا وفي الصين). لكن، يوجد اختلاف كبير في التفكير الاجتماعي.

يميل الغربيون نحو «تليولوجيزم» (يحدث كذا وكذا للوصول إلى الغاية كذا)، ويميل غيرهم نحو التفكير العاطفي، والفطري، والغيبي، والخرافي.

لهذا فإن العاطفة، والفطرة، والغيب، والخرافات هي نوع من أنواع التفكير العقلاني المنطقي. مثلا: عندما يتأمل شخص فيما حوله، ويقوده عقله إلى أن للكون خالقا. ومثلا: عندما يؤمن شخص بشجرة أو بقرة أو صنم (رغم أن كثيرين يرون أن ذلك غير منطقي).

أما الفصل بين «العقول» و«القلوب» فهو غير صحيح، علميا ومنطقيا. وذلك لأن القلب، طبعا، لا يفكر. يفكر العقل، ويميل نحو تصرفات سببية، أو عاطفية، أو فطرية، أو غيبية، أو خرافية.

وبالتالي صار واضحا أن العقلانية الغربية لا تقدر على تقديم تفسيرات مقنعة للعواطف، مثل: الحزن والفرح. والطمأنينة والخوف والشجاعة والجبن. ومؤخرا، بدأ غربيون يتجهون نحو عقلانيات شرقية: غيبية (مثل التصوف)، وفطرية (مثل اليوغا).

لهذا، إذا كانت العقلانية مثل دائرة، وفي داخلها دوائر، حسب أهميتها، مثل: الاقتصاد، والسياسة، والقانون، والإيمان، والعمل، والترفيه، والقيم الأخلاقية:

أولا: في العقلانية الغربية الدائرة الأكبر هي الفرد نفسه. ويقدر كل فرد على أن يغير الدوائر حسب أهميتها بالنسبة له (بما في ذلك دائرة صلته بالله).

ثانيا: في العقلانية الشرقية (المسلمة) الدائرة الأكبر هي الإيمان بالله، وبداخلها بقية الدوائر، بما فيها الفرد نفسه، وذلك لأن كل شيء من الله وإلى الله.

لهذا، في العقلانية الغربية، يحدد الفرد صلته بالله، وفي العقلانية الشرقية (الإسلام) يحدد الله كل شيء.

إذا كان الفيلسوف الألماني كانت من قادة العقلانية النظرية، فإن زميله الألماني بعده بمائة سنة، ماكس ويبر (توفي سنة 1920) من قادة العقلانية العملية التي تعتمد على التفكير الفردي، والتصرف الفردي. واعتبرت هذه الفردية الغربية ثورة على سيطرة رجال الدين والأباطرة والملوك والإقطاعيين. بدل أن يفكر هؤلاء، ويتصرفوا بالنيابة عن الشخص، يفكر الشخص ويتصرف بنفسه.

قسم ويبر «العقلانية الحديثة» إلى أقسام:

أولا: العقلانية السياسية (وهدفها هو تحقيق الحرية والعدل لكل فرد).

ثانيا: العقلانية الاقتصادية (الرأسمالية، أي الحرية الاقتصادية، وهدفها هو زيادة الربح).

ثالثا: العقلانية الاجتماعية (يحدد كل فرد دوره في المجتمع، وليس العكس).

لكن، عكس الفيلسوف كانت، اعترف ويبر بالغيبيات (خاصة الدين السماوي). وقال: «يساعد الله من يساعد نفسه».

وهو قال ذلك اعتمادا على تأثير المسيحية الكالفانية. وتقول هذه: إن العمل أهم من التفلسف. وممارسة الخلاص أهم من البحث عنه. وعبادة الله بالعرق الذي يتصبب أهم من طقوس البخور والنواقيس. والهدف من العمل ليس فقط الربح المادي، ولكن التحرر من القلق والتوتر. ليس شراء رضاء الله بأن يصبح الإنسان غنيا، ولكن طاعة الله برفع الظلم عن النفس وعن الآخرين. والخلاص ليس ماديا وإنما هو روحي.

وهكذا، جمع ويبر بين العقلانية الرأسمالية والعقلانية الدينية. رغم أنه ركز على الأولى. وكان من رواد العقلانية كأساس للحضارة الحديثة، وعلى الأثر، تأسست وزارات ومؤسسات لكل جانب من جوانب الحياة، منظمة ومنسقة. وانتقل مركز العمل إلى المكاتب، بقوانين وتنظيمات ومسؤوليات. كما صار الوقت يحسب بالساعة والدقيقة، وليس بشروق الشمس وغروبها. وظهر الإنسان «الحديث» المتخصص الذي يعمل في إخلاص. كما ظهرت العائلة «الحديثة» التي تنظم أهدافها، ودخلها، وصرفها.

لكن، يقول نقاد العقلانية إنها غيرت الإنسان «الحديث»:

أولا: حولته إلى موظف بيروقراطي، ثم إلى «روبوت».

ثانيا: جعلته يكثر من رفاهيته (البضائع الاستهلاكية) على حساب رفاهية المجتمع.

ثالثا: هزت الارتباطات العائلية والاجتماعية.

ثالثا: أعادت الإنسان إلى «القفص الحديدي».

وهذا هو نفس «القفص الحديدي» الذي كان حذر منه الألماني كانت، قبل ويبر بمائة سنة.

من أهم الكتب التي صدرت مؤخرا عن العقلانية الأميركية كتاب «أميركان انريسون» (عدم العقلانية الأميركية). كتبته الجامعية سوزان جاكوبي. وسبب اسم الكتاب هو أنها تحسرت على انحسار عصر التفكير والمنطق، وعلى ظهور ثقافة المتعة، والترفيه، والأغاني الشعبية، واللامبالاة.

لكنها كتبت عن جذور العقلانية الأميركية، وقالت إنها تأثرت بالعقلانيين الأوروبيين (مثل كانت وويبر) وبقية فلاسفة عصر التنوير. وأن أساس العقلانية الأميركية هي مناقشات ووثائق «فاوندنغ فاثارز» (الآباء المؤسسين، الذين أسسوا الولايات المتحدة)، وخاصة الدستور ووثيقة حقوق الإنسان. ومن أهم خصائصها:

أولا: أنها عملية وليست نظرية (لأنها أسست دولة).

ثانيا: أنها تضع اعتبارا للدين (لا تفصل بين الدين والدولة، لكن بين الدين والحكومة).

معنى النقطة الأولى هي أن «الآباء المؤسسين» لم يكونوا فلاسفة، ولكن كانوا تجارا ومزارعين. لهذا، أسسوا دولة عقلانية منطقية فردية عملية. مثل بنجامين فرانكلين، الذي ساهم في اختراع الكهرباء، واخترع النظارة المزدوجة، وأجهزة قياس الطقس.

ومعنى النقطة الثانية هي أن العقلانية الأميركية اعتمدت على «الآباء المؤسسين». واعتمد هؤلاء على «الآباء المهاجرين» قبلهم. مثل القس جون وينثروب (توفي سنة 1650) الذي ركز على عبارة عيسى المسيح: «أنتم نور العالم. المدينة التي بنيت فوق تل لا يمكن أن تخفى». ووضع وينثروب شعار «كريستيان جاريتي» (عمل الخير المسيحي). وشعار «سيتي ابون هيل» (مدينة على الجبل، إشارة إلى أميركا).

لهذا، يمكن القول إن الدين جزء من العقلانية الأميركية (مثلما هو جزء من العلمانية الأميركية، وليس عكسها، كما يقول بعض الناس).

وأخيرا: معرض الصور والفيديوهات عن العقلانية في واشنطن يدعو الزائر لأن يتأمل في شلالات نياغرا، وفي فيل يجلس ثم ينهض، وفي تاريخ يوم معين. والهدف هو التأمل في الزمان والمكان. صحيح، أن هذه النظرية العقلانية أخرجت الإنسان من «القفص الحديدي». لكن، ربما يسأل الزائر لمعرض العقلانية: ماذا وراء الزمان والمكان؟ ماذا عن الخطأ والصواب؟ ماذا عن الحق والباطل؟