في العيد.. المتنبي يظهر بعد ألف عام.. والرصافي يلاحق اليتيم في بغداد

رسائل عيدية غير تقليدية تظهر في السعودية معبرة عن الأفراح والأحزان

رسائل غير تقليدية
TT

نهج بعض السعوديين هذا العام في تهاني العيد على بث رسائل غير تقليدية تحمل رسائل ودلالات

منذ أطلق أبو الطيب المتنبي قولته المشهورة: «عيد بأية حال عدت يا عيد»، باثا أحزانه ومعاناته بعد أن تبخرت كل آماله في أن يحظى بالحصول على إمارة أو ولاية يتربع على عرشها كما تربع على إمارة الشعر، يعود المشهد ذاته في عدد من الدول العربية. ففي تونس ومصر وليبيا حل العيد وشعوب هذه البلدان تحققت مطالبهم بإسقاط حكامهم، في حين تترقب الشعوب في بعض الدول إسقاط النظام الحاكم وفتح أبواب الحرية التي غابت عنهم طيلة عدة عقود وظلت مغلقة بقوة الحديد والنار والملاحقة والتصفية لكل من يجرؤ على الاقتراب من هذه الأبواب.

وحل عيد الفطر والمشهد العربي ظل هاجسا للكثيرين، بل إن الأحداث والتغييرات والثورات انعكست على نفسيات الناس الذين وجدوا في رسائل التهنئة بالعيد فرصة للتعبير عن مكنونات النفس والمشاعر انطلاقا من هذه الأحداث.

وأعادت هذه المشاعر الصادقة مواقف كان أبطالها حكاما وشعراء عبروا من خلالها عن مشاعرهم بالعيد أفراحا وأحزانا، فقد ظهر أبو الطيب المتنبي الشاعر العربي الكبير وأمير الحكمة وأعجوبة عصره وإحدى مفاخر الأدب العربي إلى الواجهة في عيد الفطر الحالي، وبعث بآلاف الرسائل إلى السكان في السعودية والدول العربية بعد رحيله من الدنيا بأكثر من 1070 عاما.

وتداول المهنئون بالعيد طوال الأيام الثلاث الأولى من العيد من خلال رسائل متبادلة بينهم حملت توقيع المتنبي عن العيد، سواء تلك التي بث فيها أحزانه ومعاناته عندما حل العيد وهو لم يحقق مطالبه بالحصول على ولاية أو ضيعة يتربع فيها على عرش الإمارة كما تربع على مملكة الشعر العربي دون منافس، أو تلك الأبيات التي مدح فيها سيف الدولة الحمداني أمير حلب وفي نفس شاعر العربية مطامع، لكن الشاعر لم يحقق مطلبه عند سيف الدولة الذي عاش معه أفضل أيام حياته وأكثرها عطاء، مفضلا الرحيل عن حلب ومتصلا بالملوك والحكام عله يجد ضالته عندهم.

وحرص باعثو رسائل المتنبي على أن تكون طبيعة كل رسالة تناسب واقع المرسل إليه، فإذا كان من أصحاب المعاناة أو يواجه كآبة أو ضائقة فإن الرسالة تأتي على هيئة صرخة معبرة عن واقع الحال كما أطلقها المتنبي، أما إذا كان المهنئون أو من بعثت إليهم التهنئة يعيشون بالفعل فرحة العيد فإن الرسالة تأتي مفعمة بالفرح والتفاؤل، بل يصل الأمر إلى وصف المرسل إليه الرسالة بأنه هو العيد.

* المتنبي: عيد بأية حال...

* وحملت رسائل المتنبي بالعيد أبياتا شهيرة له، أحدها في قصيدة يهجو فيها كافور الإخشيدي حاكم مصر الذي وضع شاعر العربية عصا ترحاله عنده وامتدحه بقصائد شهيرة، ثم ما لبث أن انقلب عليه وأمطره بقصائد هجائية تداولها الناس وشهرت كافورا، وذلك على مر القرون الماضية، بعد أن وجد الشاعر أن أبا المسك لم يمنحه فضلا من كأسه التي كان كافور يشرب منها:

عيد بأية حال عدت يا عيد

بما مضى أم لأمر فيك تجديد

أما الأحبة فالبيداء دونهم

فليت دونك بيدا دونها بيد

لولا العلى لم تجب بي ما أجوب بها

وجناء حرف ولا جرداء قيدود

وكان أطيب من سيفي معانقة

أشباه رونقه الغيد الأماليد

لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي

شيئا تتيمه عين ولا جيد

يا ساقييّ أخمر في كؤوسكما

أم في كؤوسكما هَمّ وتسهيد؟

أصخرة أنا، ما لي لا تحركني

هذي المُدام ولا هذي الأغاريد؟!

إذا أردت كميت اللون صافية

وجدتها وحبيب النفس مفقود

ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه

أني بما أنا شاك منه محسود

أمسيت أروح مثر خازنا ويدا

أنا الغني وأموالي المواعيد

وجاءت غالبية الرسائل التي تحمل الآبيات السابقة لأبي الطيب المتنبي موجهة من وإلى أصحاب المعاناة أو المغتربين خارج الوطن، معبرين فيها عن اشتياقهم للعيد داخل بلادهم ومع أهلهم وأحبتهم، لكن بُعد المسافة والارتباط العملي أو الدراسي حال دون تحقيق ذلك، أو أولئك الذين يمرون بظروف مرضية أو ضائقة مالية ويرون في العيد تجديدا لأحزانهم ومعاناتهم.

أما الرسالة التي تحمل تهنئة لا تضاهى وجعلها المتنبي صالحة لمخاطبة أي شخص في تلك القصيدة التي حملت بيتا له يهنئ فيها سيف الدولة بالعيد (وكان العيد عيد الأضحى) ويقول:

هنيئا لك العيد الذي أنت عيده

وعيد لمن سمى وضحى وكبرا

وعكست تلك الرسائل عن حس فني راقٍ في اختيار لغة الرسائل بعيدا عن الرسائل التقليدية المعتادة.

* معروف الرصافي

* وفي ذات السياق بعث بعض المهتمين بشؤون الأيتام برسائل إلى الأصدقاء والموسرين يذكرونهم بفئة الأيتام في مناسبة العيد من خلال اختيار أبيات للشاعر العراقي المعروف الراحل معروف الرصافي من قصيدة طويلة عن «اليتيم في العيد»، جاءت في سياق قصة شعرية مليئة بصور تحكي معاناة ومآسي الأيتام، ووجد الشاعر العيد فرصة ليبثها، ومنها:

خرجت بعيد النحر صبحا فلاح لي

مسارح للأضداد فيهن مرتع

خرجت وقرص الشمس قد ذر شارقا

ترى النور سيالا به يتدفع

بحيث تسير الناس كل لوجهة

فهذا على رسل وذلك مسرع

وبعض له أنف أشم من الغنى

وبعض له أنف من الفقر أجدع

وفي الحي مزمار لمشجي نعيره

غدا الطبل في دردابه يتقعقع

فجئت وجوف الطبل يرغو وحوله

شباب وولدان عليه تجمعوا

لقد وقفوا والطبل يهتز صوته

فتهتز بالأبدان سوق وأكرع

ترى ميعة الأطراب والطبل هـادر

تفيض وفي أعصابهم تتميع

فقد كانت الأفراح تفتح بابهـا

لمن كان حول الطبل والطبل يقرع

وقفت أجيل الطرف فيهم فراعني

هناك صبي بينهم مترعرع

صبي صبيح الوجه أسمر شاحب

نحيف المباني أدعج العين أنزع

يزين حجاجيه اتساع جبينه

وفي عينه برق الفطانة يلمع

عليه دريس يعصر اليتم ردنه

فيقطر فقر من حواشيه مدقع

يليح بوجه للكآبة فوقه

غبار به هبت من اليتم زعزع

على كثر قرع الطبل تلقاه واجما

كأن لم يكن للطبل ثمة مقرع

كأن هدير الطبل يقرع سمعه

فلم يلف رجعا للجواب فيرجع

يرد ابتسام الواقفين بحسرة

تكاد لها أحشاؤه تتقطع

ويرسل من عينيه نظرة مجهش

وما هو بالباكي ولا العين تدمع

له رجفة تنتابه وهو واقف

على جانب والجو بالبرد يلسع

يرى حوله الكاسين من حيث لم يجد

على البرد من برد به يتلفع

* المعتمد بن عباد

* وغير بعيد عن ذلك فإن بعض الرسائل التي تم تداولها أيام العيد حملت أبياتا للمعتمد بن عباد حاكم قرطبة، قالها يوم العيد وهو في سجن «أغامات» في المغرب بعد أن اكتوى بنار نزاعات حكام الطوائف والصراع بين حكامها، ليلقي زعيم الموحدين يوسف بن تاشفين القبض على ابن عباد ويودعه السجن، وفي أحد أعياد الفطر أوحى إليه (سجانه) بأن اليوم يوم عيد وعليه أن يفطر، وبشروه بزيارة بناته له اللاتي حضرن إلى أبيهم في زنزانته حافيات الأقدام وبلباس ممزق بعد أن كُنّ ذات يوم يخضن في خليط من الكافور والزعفران والمسك على هيئة طين اقترحه والِدُهُنّ الملك، محققا رغبتهن في أن يخضن في الطين بعد أن شاهدن بعض الجواري في القصر يخضن في طين طبيعي ويحملن القِرَب.

في ما مضى كنت بالأعياد مسرورا

وكان عيدك باللذات معمورا

وكنت تحسب أن العيد مسعدة

فساءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعة

في لبسهن رأيت الفقر مسطورا

معاشهن بعيد العز ممتهن

يغزلن للناس لا يملكن قطميرا

برزن نحوك للتسليم خاشعة

عيونهن فعاد القلب موتورا

قد أغمضت بعد أن كانت مفترة

أبصارهن حسيرات مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدام حافية

تشكو فراق حذاء كان موفورا

قد لوثت بيد الأقذاء واتسخت

كأنها لم تطأ مسكا وكافورا

لا خد إلا ويشكو الجدب ظاهره

وقبل كان بماء الورد مغمورا

لكنه بسيول الحزن مخترق

وليس إلا مع الأنفاس ممطورا

أفطرت في العيد لا عادت إساءته

ولست يا عيد مني اليوم معذورا

وكنت تحسب أن الفطر مبتهج

فعاد فطرك للأكباد تفطيرا

قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا

لما أمرت وكان الفعل مبرورا

وكم حكمت على الأقوام في صلف

فردك الدهر منهيا ومأمورا

من بات بعدك في ملك يسر به

أو بات يهنأ باللذات مسرورا

ولم تعظه عوادي الدهر إذ وقعت

فإنما بات في الأحلام مغرورا