خالد المالك يتذكر: القصيبي شخصية مستقلة ومتمردة

في كتابه الجديد «للتاريخ ولغازي القصيبي»

غلاف الكتاب
TT

في كتابه «للتاريخ ولغازي القصيبي»، حاول الإعلامي السعودي المعروف خالد بن حمد المالك رئيس تحرير جريدة «الجزيرة»، أكثر من سيرة وأعمق من مجرد لمسة وفاء لشخصية تركت بصماتها على الحياة الفكرية والثقافية والإدارية في المملكة، فالكتاب يسرد بعضا مما يعرفه المؤلف عن الأديب والوزير والدبلوماسي السعودي الراحل الدكتور غازي القصيبي، الذي تقلب في المناصب الإدارية والدبلوماسية على مدى أربعين عاما.

كتب مقدمة الكتاب الوزير والأديب السعودي المعروف الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الخويطر، الذي يرى، هو الآخر، أن القصيبي سوف يكون مادة للدراسات الثرة بحكم طبيعة تميزه في حقلٍ حرثه وأنبته.

وكانت نواة هذا الكتاب محاضرة ألقاها المؤلف في النادي الأدبي بالرياض عن الفقيد القصيبي، متحدثا عن سنوات مثيرة من عمله وعطاءاته، التي خلفت إعجابا وانبهارا به من قبل الناس المتابعين لها. يقول المالك: «غازي القصيبي من خلال ما أنجزه في مواقع المسؤولية المتعددة وما قدمه من شعر ورواية وقصة وغيرها، كان يمثل ظاهرة غير عادية لأنه لا يوجد شخص يتمتع بمثل هذا التنوّع والمواهب كما هي لدى الفقيد».

ويضيف: «كان القصيبي صاحب رأي وموقف وحكمة وهو ما جعله شخصية مثيرة للجدل والاهتمام إن كان ذلك على مستوى العمل الوظيفي أو إن كان ناتجا عن مفاجآته الأدبية والفكرية التي أغنى بها المكتبات وأثار من خلالها اهتمام المثقفين والباحثين والدارسين.

إن أي كلام قصر أو طال عن غازي القصيبي الإداري والدبلوماسي والأكاديمي والشاعر والقاص والروائي والناقد وغير ذلك من التوصيف والأوصاف لهذه الشخصية التي تستحقها، فهو لا يمثل شيئا أمام ما قدمه في حياته، في مراحل مختلفة من نبوغه المبكر وإصراره على ألا يكون مسؤولا أو مثقفا تقليديا وصورة مكررة لآخرين سبقوه أو جاءوا بعده، مبينا أنه ظلّ مجددا ومبتكرا في أسلوب عمله وتوظيف مواهبه بالشكل الذي ظلّ طيلة حياته شخصية جدلية وواحدا من أبرز النجوم.

أكثر من 70 كتابا

ويرى المالك «أن الأديب الراحل لمع اسمه عالميا بفضل أكثر من سبعين كتابا مطبوعا له، تنوّعت بين الرواية والقصة والشعر والمقالة النقدية، فهو شاعر عملاق وروائي متفوّق وقاص مثير، وظل في حياته حاضرا ومشاركا ومؤثرا في الدفاع عن حقوق أمته بصوته وقلمه ولم تشغله مهمات الوظيفة أن يكتب عن السياسة والاقتصاد والقضايا الاجتماعية، وأن يقول رأيه المدوّي كلما كانت هناك مناسبة أو قضية أو موضوع أثار فيه الحماس، وهكذا أمضى سبعين عاما هي كل حياته لا يشغله شاغل فيها عن أن يعبّر بشجاعة وإقدام عن هموم أمته.

وقيل عن غازي القصيبي إنه حينما دخل أول تشكيل وزاري بعد وفاة الملك فيصل (رحمه الله) كان أول ما فكّر فيه اهتمامه بالشعراء والأدباء والكتاب ممن يمرون بأحوال مادية صعبة، فكانت شفاعته لهم لدى الحكومة سببا في إغلاق باب الضائقة المالية التي كانوا يعانون منها».

«أبيات غزل» نفست عن شاعرها

تحدث المؤلف عن بعض المعارك التي حدثت بين غازي وآخرين وتحديدا حديثه عن أول «معركة» بين وزيرين، كما يذكر، وكانت بين غازي وبين وزير الدولة السابق زميله الدكتور محمد الملحم حول ديوان القصيبي «أبيات غزل»، إذ تساءل الدكتور الملحم: ماذا لو أن أمير الغزل وشاعره ورائده عمر بن أبي ربيعة كان حيّا بيننا! ماذا سيكون حكمه على ديوان يحتوي على أبيات ليس فيها من الغزل شيء؟ ليجيب الدكتور الملحم بأنه سيصدر حكم براءة على الأبيات وحكم إدانة على الكلمات، ويتساءل موجها سؤاله للقصيبي: لماذا تبني باليد اليمنى وتهدم باليد اليسرى، ولماذا تجمع بين النقيضين، بين السمين والغث، بين الجيد والرديء؟

وتمنى الملحم على القصيبي بأن يقوم بتفريغ ما يزخر به خياله الواسع في أبيات عمودية تستطيع ابنته «يارا» أن تحفظها عن ظهر قلب فترددها حينما ترغب.

وقدّم الملحم في نهاية نقده للديوان نصيحة للقصيبي بأن يدع الفتاة الصغيرة «يارا» تضمّ شعره في قلبها، في ذاكرتها، أن تضمه بين يديها، إلى أن يقول: دع يارا وهي طفلة صغيرة وبعد أن تشبّ عن الطوق تروي شعرك من قلبها، من ذاكرتها كما تطلب منها في إهداء الديوان لها.

حينها أسرع القصيبي بالردّ على زميله الملحم، ووضح ما قاله: إن رأي الدكتور الملحم بالشعر الحرّ معروف لدي، أما رأيي فهو أن الشعر الحر والمقفى يستويان والعبرة بالنوعية، مع أن في تراثنا الشعري أطنانا من القصائد لا تستحق أن تطلق عليها كلمة شعر رغم استقامة أوزانها ووحدة قوافيها، وأن سهولة الحفظ لا يجب أن تكون معيارا وحيدا للشعر الجيد.

وأضاف القصيبي: حسب هذا الديوان (أبيات غزل)، أنه أمتع بعض القراء ببعض مقطوعاته، أما المقطوعات الأخرى فلعل عزاءها أن قارئا ما في مكان ما سيعجب من تعبير قائلها عن بعض ما يعتلج في صدره يوم قالها.

ويعتقد المالك أن أجمل ما يميّز القصيبي تسلحه بلغة التحدي التي يمارسها مع نفسه ومع غيره، وعدم الاستسلام لليأس أو لمقولة: ليس في الإمكان أبدع مما كان. فهو في حركة دائمة من أجل أن ينزع من طريقه كل المثبطات والمعوقات، وصولا إلى تحقيق هدفه – الحلم - الذي اعتاد أن يفاجئ به الناس، من دون أن يفكر بأصوات من هو معه أو ضده في خطواته المتسارعة.

ظاهرة شعرية

ويذكر المالك أن من يقرأ للدكتور غازي القصيبي شيئا من أشعاره متتبعا مراحل عمره ومناسباتها، وردود الفعل من الآخرين حولها وروح التفاعل من جانبه مع ما يدور حوله من تطورات، فسوف يغنيه ذلك عن أن يلتقي به ليتعرف عليه، فكل قصيدة برأيه تحكي بعضا من روحه وتجاربه وتفاصيل عن شخصيته، وكل بيت من قصيدة يتحدث بها عن أهدافه ومبادئه، ويقول من خلالها - وإن لم يكن بشكل مباشر، وإن لم يعترف شخصيا بذلك - ما خفي من محطات مرّ بها هنا أو هناك في مسيرة حياته، فإذا بشعره الذي راح بين الهدوء والعنف يعطي كل هذه التفاصيل عن شخصيته بكل جوانبها الإنسانية والوطنية والقومية في شعر جميل ومؤثر في قارئه ومتلقيه ممن هو معه أو ضده.

ويعتقد المالك أن أكثر ما يميز القصيبي بوصفه شاعرا كبيرا هذه الشخصية المستقلة والمتمردة في شعره وثقافته، في «الإنقلاب» حتى على الأسماء الشعرية الكبيرة، التي كانت في بداياته الشعرية المبكرة ذات تأثير كبير في صقل موهبته الشعرية المبكرة من خلال محاكاته لها وحفظ نصوص من أشعارها، مثلما كان عليه الحال حين بدّل موقفه من الإعجاب المتأثر بالشاعر الكبير أحمد شوقي الذي اعتبره شاعره المفضل والقريب إلى قلبه إلى الانصراف عنه، بل وإنكار استحقاقه لقب أمير الشعراء ومن وجود خليفة له يستحق هو الآخر إطلاق هذا اللقب عليه، مع اعترافه بأن شوقي شاعر عبقري حتى وهو في حمأة طرح مثل هذا الرأي الذي ووجه في حينه بالتصدي له والاعتراض عليه من قبل الكثير من النقاد وبخاصة من كان يرى أن في شعر شوقي من التميز ما يعطيه هذا الحق بأن يوصف أميرا للشعراء نسبة لمقارنته بغيره من شعراء عصره.

وقال المالك: «إن شاعرا يكتب ما هو قديم أو حديث من الشعر وهو لما يبلغ السادسة عشرة من عمره بعد، ويقرأ لكل أعلام الشعر ممن لعبوا دورا وتأثيرا في تجربته الشعرية، هو شاعر كبير بحق، وصاحب موهبة شعرية جديرة بالدراسة والتأمل واستخلاص النتائج منها، وهكذا هو غازي القصيبي، ظاهرة شعرية تحتاج إلى دراسة للتعرف على خصوصيتها وتميزها وبعدها الفكري والفني، ومدى ملامستها لهموم واهتمامات الأمة، بعيدا عن تواضعه وقراءته الشخصية لشعره وما عبّر به من آراء عن تجربته الشعرية بصورة قلما تكون منصفة له وقد لا يوافقه عليها الكثير من النقاد».