جان جينيه: سوف أسمح لنفسي بالثورة

عاش غريبا متشردا متسولا و«مشبوها» سياسيا

TT

كتبت السياسية الألمانية، اليهودية الأصل، ليلي برنغسهايم في مطلع أربعينات القرن العشرين، أنه من المؤسف تماما ألا يجري توريط جان جينيه بتهمة المشاركة في محاولة اغتيال أدولف هتلر سنة 1944: «لكان ذلك يناسب جينيه تماما كغريب ومتشرد ومتسول وأجنبي ومشبوه سياسيا».

أطلقت برنغسهايم هذا التقييم بعد أن جرى إعدام فيلهيم لويشنر، وزير الداخلية في برلين في زمن هتلر، بسبب الشبهات حول مشاركته في محاولة اغتيال «الفوهرر» يوم 20 يوليو (تموز) 1944. وكان «الصايع» جينيه قد استقر ببرلين لفترة في تلك الأثناء، وتعرف في ظروف لم يسبر غورها بعد، على الوزير لويشنر.

ربما يناسب هذا التقدير جينيه فعلا بسبب حياة التشرد التي عاشها، بعد هروبه من الخدمة العسكرية، وتنقله مسافة تزيد على 8 آلاف كم بين ألبانيا ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا وألمانيا وبلجيكا. ولكان عداء القومية الاشتراكية (النازية) لليهود والغجر والشيوعيين والمثليين عاملا إضافيا يضع جينيه، المعروف بشذوذه، في دائرة الشبهات التي قد تتهمه بمحاولة اغتيال رأس النظام الذي تبجح بإبادة آلاف المثليين.

على أي حال، هذه ليست أكثر من مقدمة مختصرة تكفي لعرض صعوبة تقديم وتناول مثل هذا الكاتب الإشكالي. فكل ما في هذا المبدع إشكالي، بدءا بمسلسل حياته الجرمية وانتهاء بفلسفته الرافضة لكل القيم (القيود) التي تكبل علاقات الناس ببعضهم. فكاتب مسرحي، وشاعر وناثر من عيار ثقيل مثل جينيه، يلعب على حبل الحياة كالبهلوان دون نازع خوف، يرقص رقصة الحياة اليومية، في السجن أو في الثلج (مسرحية تحت المراقبة)، كالطائر المذبوح ويصمت أحيانا كالحمل إذا ما تطلب الأمر ذلك. يكفي أن جان بول سارتر قال عنه «جينيه ليس أكثر من ميت، وإن كان يعيش في الظاهر، وكل أبطاله ماتوا مرة واحدة في الأقل».

حسن فعل المسرحي والمترجم العراقي علي شاكر العبادي حينما عرض جينيه لنا في كتابه «رحلة في عالم جان جينيه» بعيون عمله المسرحي الأول «تحت المراقبة»، ومن خلال القراءات التي قدمها لنصوصه المسرحية فيرنر كليس، وعبر الحوارات التفصيلية التي أجراها معه هوبرت فخته. فالكتاب الواقع في 220 صفحة يستعرض آراء الناقد فيرنر كليس في أهم أعمال جينيه المسرحية، في حين يتسلل فخته بكل ذكاء من النوافذ التي يفتحها له الكاتب على حياته أثناء المقابلة. والكتاب ككل، أي المسرحية والمقالات المترجمة، عبارة عن رحلة معرفية قصيرة تضيء لنا دروب الحياة التي سلكها جينيه وصولا إلى المنزلة التي تبوأها كأحد أهم الكتاب المسرحيين الذين تميزوا بتناول القضايا الحياتية التي لا يجرؤ الآخرون على تناولها؛ بدءا بـ«تحت المراقبة»، مرورا بـ«الخادمات»، وانتهاء «بالزنوج».

«تحت المراقبة»

تدرج جان جينيه في عالم الجريمة الصغيرة من لص إلى نشال وقواد، وسجن عدة مرات بسبب ذلك قبل أن يتحول إلى الكتابة. وليس غريبا عليه حينها أن يحكم بالسجن لسنتين عام 1944 بسبب سرقة كتب. إذ عاش جينيه حياة «عدمية» تقترب في رفضها للتقاليد والأعراف والقيود الاجتماعية من فلسفة الدادائية الرافضة لكل شيء.

وتحت المراقبة هو النص الأول الذي كتبه جان جينيه عن حياة السجون والمساجين كصورة واقعية مقلوبة للحياة خارج السجن. في الفيزياء يصنع الجسم الموضوع خارج بؤرة عدسة محدبة صورة خيالية مكبرة ومقلوبة لذلك الجسم، وهو ما ينطبق على موضوع هذا النص، فالسجن هنا ليس سوى انعكاس مقلوب للعزلة والقيود التي تفرضها الحياة على الناس. هي في الواقع حالة الحصار التي عاشها جان جينيه نفسه في رحلة العذابات الطويلة التي سبقت موته «الجسدي» وسعيه الدائب للخلاص من هذه «العزلة» وإن بالموت الروحي. فالخلاص الروحي الذي يحرك الكاتب، بالنسبة لسارتر، ليس أكثر من تشاؤم الموت أو السعي له.

تتحدث المسرحية عن ثلاثة سجناء يشتركون في زنزانة واحدة، هم القاتل عين خضراء، الذي يحظى باحترام نزلاء السجن والشرطة على حد سواء بسبب موقعه العلوي في عالم الجريمة، اللص ليفرانس الذي يسعى لتقمص عين خضراء وتسلق سلالم الجريمة وإن عن طريق القتل، واللص الشاب موريس (يسمي نفسه الجبان) الذي يعتقد أن وجهه الجميل سيكون بطاقة دخوله إلى عالم كبار المجرمين الذي ينتمي عين خضراء إليه.

وفي هذا المسرح الصغير، هذه الزنزانة الضيقة، تدور أحداث الحياة في «العالم الحر». فهناك مدير السجن والسجان اللذان يقرران كل شيء، وهناك القتلة «السادة» الذين يقررون كل شيء للسجناء، وهناك اللصوص العاديون الذي يحلمون ببلوغ «المواطنة في عالم بلا مواطنين» عن طريق ما بلغه القتلة في عالم الجريمة الذي هو عالم الحياة.

لا يفصل عين خضراء عن غرفة الإعدام سوى وقت قصير، ولذلك فهو «ميت روحيا»، مثله مثل المؤلف جينيه، ولا يهمه بعد أن خسر المزيد أم لا. وهو واش باعترافه، يشي بزملائه السجناء، كي يكسب الحظوة لدى السجانين، لكن زميليه في الزنزانة يتوددان إليه ويحاولان تقليده. ولأن عين خضراء أمي فقد تحول ليفرانس إلى مراسله الخاص، يكاتب زوجته باسمه، ويعد العدة لغزو قلب الزوجة بعد رحيل الرجل الذي يملي عليه.

يرقص عين خضراء في نهاية المسرحية رقصة الخلاص (الموت) قائلا إنه لم يختر التعاسة، وإنما التعاسة اختارته. ولأن ليفرانس يعتقد أن القتل، وهي تهمة عين خضراء، سيرفعه إلى مصاف السجين الراحل، «رقصة الثلج» الذي لا يقل شهرة جرمية عن عين خضراء، نراه يخنق الشاب موريس في نهاية المسرحية بيديه. لكنه يدرك مع ذلك أن ذلك لن يرفعه إلى مستوى «عين خضراء»: «لقد أدركت... أدركت أنني لن أكون واحدا منكم أبدا يا عين خضراء.. ويبادره عين خضراء بالقول: ولكن ضعوا هذا في حسبانكم جيدا، أنا أقوى منكم جميعا، أنا لا أحتاج لأن أرقص كي أتحرر من ذنبي، ذنبي الذي اخترته أنا».

فجريمة «رقصة الثلج»، من وجهة نظر «عين خضراء» كانت اضطرارية، وهدفها السلب، في حين أن عين خضراء قتل «كي يحيا». وضع زهرة الليلك بين أسنانه وصار يلوكها وهو يؤدي رقصة الموت التي انتهت بقتله لعاهرته، والزهرة هنا رمز الجنس عند الناقد فيرنر كليس، وهي استعارة لقهر الحبيبة، ورمز الانتقام عند المافيا وعنوان الخلاص من الحياة إلى الموت عند الإغريقيين القدماء.

يعتقد بعض النقاد، وبعض باحثي جينيه، أن «تحت المراقبة» هو النص الوحيد الذي يخلو من علامات مثلية، تعود الكاتب تبطين أعماله بها. لكن ذلك ليس صحيحا، إذ إننا نجد موريس نفسه مغرورا بجماله وباعتقاده أن سيكسب قلب عين خضراء، مهما حاول ليفرانس دق الإسفين بينهما، فجماله هو بطاقة دخوله إلى عالم المجرمين الكبار كما أسلفنا. والظاهر أن جينيه لم يختر السجن عبثا في مسرحيته، ليس بسبب تصويره (السجن) كعالم حر مقلوب فحسب، وإنما عن معرفة بما تنطوي عليه السجون من شذوذ.

يبقى أن نقول إن جينيه كرس في مسرحيته كل ما يعينه، ويعين المخرج، في تصوير فكرته، فاستخدم لغة المساجين التي يتقنها، كما استخدم لغة القرويين والعوام في الحوار. والمسرحية بأكملها كالحلم، حركة الممثلين ثقيلة قدر الإمكان (حسب طلب الكاتب) أو خاطفة وسريعة، أصواتهم خاوية وثقيلة، وكأنهم أشباح قادمة من عالم الأموات. ويلعب جينيه بالألوان في النص والحوار، كعادته في المسرحيات الأخرى وخصوصا الزنوج، فنرى الزنجي الأسود الذي يؤدي رقصة الثلج (الناصع) ونلاحظ «عين خضراء» وهي يتمنى الصعود إلى السماء الزرقاء.

الكتاب عموما، والمسرحية، تعبير مقتضب عن رفض جينيه لكل شيء وعن لاءاته التي يطلقها في وجه التقاليد والأعراف. وهو أساسا رفض المجتمع الذي يرفضه كمثلي ويرفض أفكاره المتحررة، ورفض الانتماء الذي رافقه طوال مراحل حياته، وكان منبع أفكاره وإبداعه، في مجتمع تصطرع في الأفكار وتشتعل الثورات، وهو يدعو إلى ثورات «يسمح لنفسه بها» ويريدها بلا ضحايا ولا صراع.