صراع بين المرشحين للرئاسة الفرنسية على السياسة الثقافية

مارتين أوبري تعد مواطنيها بربيع ثقافي بتكلفة مليار يورو سنويا

TT

رغم الأزمة المالية التي تمر بها فرنسا، فإن المرشحين للرئاسة الفرنسية لعام 2012، لا ينسون المشاريع الثقافية لما تدره من خيرات على البلاد. لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فالميزانية التي يجب أن تخصص للثقافة كما نوعية المشاريع تحتل حيزا مهما من النقاشات التي ستقرر من سيدخل إلى الإليزيه. وهنا تحقيق حول مواطن الخلاف وأسبابه.

لم تنتظر أحزاب المعارضة الفرنسية الانطلاقة الرسمية للحملة الانتخابية حتى تبدأ في تعبئة صفوفها لجولة رئاسية جديدة. فقد شهد موسم الصيف حراكا سياسيا غير معهود، تزاحم فيه أهم المرشحين من أجل التعريف ببرامجهم ومقترحاتهم، والأغرب في الأمر هو أن المواضيع الاقتصادية كأزمة الديون أو البطالة لم تكن وحدها الغالبة على نقاشات مختلف المرشحين، بل إن مستقبل الثقافة وكيفية تمويلها كان أيضا من المواضيع المثيرة للجدل والانتباه. البرنامج الأول للحزب الاشتراكي (المقدم في شهر أبريل «نيسان») اقتصر فيما يخص الثقافة على سطر واحد، سرعان ما تطور بعدها إلى اقتراحات مطولة عبر فيها كل مرشح عن مشاريعه: سيغولين رويال، ممثلة الحزب الاشتراكي في الانتخابات الرئاسية السابقة، اقترحت وسيطا ثقافيا في كل الثانويات لتشجيع النشاطات الثقافية عند المراهقين، أما زوجها السابق فرانسوا هولند الذي يترشح هو الآخر هذه السنة، فهو يوصي بتعميم النشاطات الثقافية على التلاميذ في المرحلة الابتدائية. مانويل فالس وأرنو منتبور المنتميان لجيل «الذئاب اليافعة»، كما تُسمى القيادات الشابة في الحزب الاشتراكي، فهما يوصيان بالاهتمام بالتراث الفرنسي القديم والدور الاجتماعي للثقافة. لكن مارتين أوبري رئيسة الحزب الاشتراكي وابنة رئيس الوزراء السابق، جاك دولور والمرشحة الأوفر حظا للوقوف في وجه الرئيس نيكولا ساركوزي، كانت أكثرهم شرحا وتفصيلا حيث خصصت لمقترحاتها كتيبا صغيرا من 10 صفحات. أهم ما جاء في الكتيب: رفع ميزانية وزارة الثقافة بنسبة 30 إلى 50 في المائة تدريجيا وعلى مدى خمس سنوات، أي رفع الميزانية إلى نحو مليار يورو بدل 700 مليون المقترحة حاليا من طرف حكومة ساركوزي، وهي تريدها أساسا لدعم النشاط الفني والشباب المبدع. التمويل، كما تشرح أوبري، سيأتيها من «ضرائب الثروة» التي تنوي استعادتها بعد أن ألغاها ساركوزي. أما الزيادة فهي ستخصص لتوظيف 10 آلاف شاب في المجال الفني والثقافي ومثله في ميدان الوساطة الثقافية.

وكانت زعيمة الحزب الاشتراكي ومرشحته للانتخابات الرئاسية المقبلة قد شرحت تفاصيل هذه الخطة بقولها: «الاهتمام بالمجال الثقافي ليس من الكماليات فهو بنفس أهمية القطاع الاقتصادي، بل ومكمل أساسي له، لا ننسى أنه يمثل 3 في المائة من الدخل الوطني الخام، وأنه قطاع مهم يوظف نحو 12 في المائة من الفرنسيين، وأن بلادنا تعتمد كثيرا على المؤسسات المتحفية والمعارض والمهرجانات لجلب السيّاح الذين يعتبر عددهم الأعلى في العالم اليوم (80 مليون سنويا) وعلى صورتها كسوق فنية مهمة وقبلة المبدعين والمجمعين في العالم.

الثقافة الفرنسية هي أيضا 400 مليون شخص ناطق باللغة الفرنسية مع مطلع عام 2050، ولذا فقد بات من واجبنا ضمان استمرار هذا التألق الذي لا يقدر بثمن».

«السيدة الحديدية»، كما تلقبها الصحافة الفرنسية، واجهت حملة انتقادات شديدة بسبب هذا الاقتراح، لا سيما بين صفوف الساسة من اليمين واليسار، خاصة أن النزعة الآن هي لسياسات تقشفية صارمة، حسب توصيات الخبراء، الذين حذروا من مغبة أزمة الديون التي تهدد اقتصاد الدول الأوروبية بالانهيار، بما في ذلك فرنسا التي بلغت قيمة ديونها الخارجية 1500 مليار. وعلى عكس ذالك رحب رجال الفن والثقافة بفكرة رفع الميزانية بشّدة على غرار أوليفيه بوافر دارفور، الكاتب ومدير إذاعة «فرانس كولتور»، الذي كتب عمودا في صحيفة «لوموند» جاء فيه ما يلي: « ماذا يمثل مليار يورو..؟ إنها مصاريف تصنيع 60 دبابة من نوع (لوكلير). فهل يصح أن نقارن أسلحة الدمار هذه بمنافع الثقافة على بلادنا، قطعا لا! فبلدنا الصغير الذي يمثل 1 في المائة من سكان العالم لم يكن ليصبح كبيرا بين دول العالم، لولا واجهته الثقافية الرائعة!».

مارتين أوبري شرحت في مداخلات كثيرة أن قسطا مهما من اهتماماتها في حالة فوزها سيذهب للشباب المبدع باعتباره مستقبل الغد، علما بأن الإحصائيات الأخيرة لوزارة العمل قد أثبتت أن 80 في المائة من الشباب العامل في المجالين الفني والثقافي يعيش بأقل من الأجر الأدنى في فرنسا، أي بأقل من 1000 يورو شهريا.

وقد كانت مسألة إصلاح الضمان الاجتماعي التي قررتها حكومة ساركوزي منذ أشهر قد أثارت استياء العاملين في الحقل الفني من تقنيين ومصورين وفنانين. وهي التي تقتصر على الرفع من ساعات العمل والخفض من قيمة التعويضات التي تمنح للفنانين في حالة بطالة، بعد أن كانوا يتقاضون تعويضات مالية كاملة طول السنة مقابل 500 ساعة عمل فقط. علما بأن حكومة فيون كانت قد أعلنت أن صندوق الضمان الاجتماعي قد تكبد هذه السنة خسائر مالية بلغت المليار يورو، بسبب تعويضات العاملين في الميدانين الفني والثقافي.

مارتين أوبري تنوي أيضا مضاعفة الفضاءات التي تجمع الشباب المبدع بالجمهور والجمعيات الأهلية، على اعتبار أن نقص المرافق الحيوية يمثل عائقا أمام نشاطهم. وتحبذ أوبري أن تكون هذه الأماكن على شكل مجمعات ثقافية كبيرة أو تعاونيات فنية تقع في محيط المدن، وتسمح باستقبال وإيواء عدد كبير منهم إثر تنقلاتهم، وكانت قد استوحت هذه الفكرة من تجربتها الخاصة في مدينة ليل التي تشغل فيها منصب عمدة منذ 2004، والتي تصرف فيها على الثقافة ما يقارب الـ60 مليون يورو، وكان لها فيها عدة مشاريع ضخمة، حيث تم إنشاء ثقافيين مهمين في منطقتي ليل ولوم أطلق عليهما «ميزون فولي». وهما عبارة عن مكان إقامة للفنانين تنظم فيها مختلف النشاطات الثقافية، إضافة لكونها فضاء حميميا يلاقي إقبالا كبيرا، كونه يجمع المبدعين بالجمهور من سكان البلدة. «ميزون فولي» على سبيل المثال، الواقعة في قلب حي وازام، استقبلت سنة 2010 أكثر من 90 ألف زائر.

مارتين أوبري تنوي في حالة فوزها، إقحام المجموعة الأوروبية بصورة أكبر في عملية تمويل ودعم المشاريع الثقافية، وحث جميع أجهزة الدولة على فتح أبوابها للفنانين الصغار للاستفادة بوسائل النشر والاتصال الخاصة بها بنسبة 10 إلى 15 في المائة على الأقل مرة في السنة، مما يسمح لهم بالتعريف بإنتاجاتهم عبر التراب الفرنسي، وفي كل المجموعة الأوروبية. زعيمة الحزب الاشتراكي أعلنت أنها ستشن حربا على الفوارق الاجتماعية التي تجعل ذوي الدخل المحدود بعيدين عن عالم الثقافة، وأضافت أنها ستحرص على أن تحافظ كل المؤسسات التربوية والعلمية، كالمكتبات والمتاحف، بقدر المستطاع، على طابعها المجاني، وخصت بالذكر المدرسة، التي قالت إنها تحضر لها ملفا خاصا لإدخالها ضمن «المشاريع الكبيرة»، التي تنوي تطبيقها فور وصولها للحكم.

واقترحت أوبري أن تصبح دروس «التربية الفنية» إجبارية من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية، بل وأن يصبح تعليمها أساسيا بحيث تفتح المدارس أبوابها للمبدعين وللمؤسسات الثقافية طول السنة بصفة مستمرة، وذلك بمساندة الهيئات المحلية التي تتولى إجراءات التنسيق والتنظيم. مرشحة الحزب الاشتراكي تريد من كل تلميذ فرنسي زيارة مختلف المظاهرات الفنية والثقافية مرتين في السنة، ابتداء من سنة 2012.

لذلك وعدت أوبري الفرنسيين بربيع ثقافي جديد، مثل الذي عرفوه سنة 1981 إبان رئاسة فرانسوا ميتران الذي لُقب بـ«مشّيد الجمهورية»، بسبب المشاريع الضخمة التي أطلقها في فترته الرئاسية الأولى، كمتحف اللوفر، وكذلك أوبرا باستييه، ومعهد العالم العربي، ومدينة الموسيقى في لافيلات، ومشاريع أخرى كثيرة. وهي الفترة التي عرفت رواجا ثقافيا وفكريا كبيرا أيضا بفضل وزير ثقافته جاك لانغ، الذي أحاط نفسه بمجموعة من المثقفين ورجال الفن.

وكان لانغ هو صاحب فكرة «عيد الموسيقى» و«أيام التراث» و«الليالي البيضاء للثقافة». وهي أفكار تلاقي حتى الآن ترحيبا في الوسطين الفني والثقافي في فرنسا وبعض دول العالم. فهل تمكن مارتين أوبري أصوات الفرنسيين في شهر مايو (أيار) المقبل من تحقيق هذه الوعود؟