الحداثة وما بعدها في البيت الأبيض

تهمة تطارد الرئيس الأميركي باراك أوباما.. «حداثي بتطرف»

TT

لا تزال فنون الحداثة وما بعدها تثير نقاشات في أميركا. لعل أحدثها هي تلك التي صاحبت معرضا فنيا في واشنطن، وأهمها تلك التي صاحبت إعادة تأثيث باراك أوباما وزوجته ميشيل لغرف البيت الأبيض، بحيث وصف ذوقهما الفني بأنه «حداثي متطرف». فهل يصح وصف الرئيس الأميركي وزوجته بأنهما حداثيان متطرفان فعلا، أم أن أعداءهما استفادوا من ضبابية المصطلحات؟ وما هي الحداثة؟ وكيف يمكن وصف ما بعدها؟ وهل هي مذمة لرئيس جمهورية؟

بعد أقل من شهر على دخول الرئيس باراك أوباما البيت الأبيض في بداية سنة 2009، أعلن البيت الأبيض أن مايكل سميث، من أشهر مصممي الغرف والأثاث الأميركيين، ومدير شركة «ديوك آند ديوك» في هوليوود، عاصمة السينما والتلفزيون، سيعيد تصميم غرف البيت الأبيض وأثاثه. هذه عادة تتكرر كلما دخل البيت الأبيض رئيس جديد، حيث يختار الرئيس، وزوجته، شركة تصميم، ويقدمان لها خطتهما، ويتناقشان معها، ويشرفان على العملية، مثلهما مثل أي عائلة تنتقل إلى بيت جديد، أو تعيد تصميم البيت الذي تعيش فيه.

وحسب كتاب «بيت الرؤساء: تاريخ» الذي كتبه المؤرخ ويليام سيل، كان الرئيس ترومان أول من اختار، مع زوجته، مصمما، واختار مصمما تقليديا. واختار الرئيس أيزنهاور، وزوجته ميمي، مصمما تقليديا أيضا. واختار الرئيس كيندي، وزوجته جاكلين (ذات الخلفية الفرنسية) مصمما فرنسي الأصل مشهورا بفن الحداثة. واختار الرئيس كلينتون، وزوجته هيلاري، مصمما ملأ البيت الأبيض بالألوان البراقة. ثم جاء الرئيس بوش الابن، وزوجته لورا، واختارا مصمما عاد إلى الألوان الهادئة والتقليدية.

وعندما دخل أوباما، وزوجته ميشيل، البيت الأبيض، قالت ميشيل إنها تريد مصمما «غارقا في الماضي، ويصمم بطريقة حديثة». وكان واضحا أن هذه رغبة غير محددة، إن لم تكن متناقضة.

عبر تاريخ البيت الأبيض، ظلت هناك مشكلتان حول هذه التصميمات:

أولا: هل الأثاث للاستعمال اليومي أو ليشاهده الزوار والسياح وليكون جزءا من تاريخ البيت الأبيض؟

ثانيا: هل يساير الأثاث التطورات الفنية، مثل: التقليدية، والحداثية، وما بعد الحداثية؟

قالت صحيفة «واشنطن بوست» إن أوباما وميشيل، في البداية، فضلا الطراز التقليدي (أواخر القرن التاسع عشر) لأن منزلهما في شيكاغو مصمم هكذا، وأن المصمم سميث «تقليدي متطور».

لكن، بعد نهاية التصميمات، صار واضحا أنها «متطورة جدا»، ليس فقط من فن الحداثة (النصف الأول من القرن العشرين)، بل من فن ما بعد الحداثة (النصف الثاني من القرن العشرين). وامتلأ البيت الأبيض بأثاث ولوحات وتحف من أفريقيا، ومن تراث الهنود الحمر، ومن أميركا اللاتينية، ومن الفن الحديث، وما بعد الحديث.

ووصفت صحيفة «نيويورك تايمز» التصميمات الجديدة بأنها «حديثة بتطرف شديد». وقالت: «هناك جدل حول ما إذا كانت التصميمات الجديدة حداثية أو ما بعد حداثية. لكن يبدو أن أوباما وميشيل جعلاها حداثية متطرفة».

وقالت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» عن المصمم سميث: «إنه أبعد ما يكون عن الفن التقليدي. إنه يستعمل طلاء سيارات، وزجاج طائرات، ومعادن. وبعض المقاعد والطاولات التي لها أشكال فكاهية. وهذا كله ينتمي إلى فن ما بعد الحداثة».

ما هو فن الحداثة؟ وما هو فن ما بعد الحداثة؟

يقول كتاب «من الحداثة إلى ما بعد الحداثة» الذي كتبه لورنس كالهون، أستاذ في جامعة «هولي كروس» (الصليب المقدس) في ولاية ماساتشوستس، إن الموضوع لا يقتصر على الفنون، بل يمتد إلى الآداب، وطريقة التفكير. وإن الحداثة بدأت في أوروبا، مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بسبب التطور الحضاري الذي تمثل في النهضة الصناعية، والتوسع في بقية العالم، والثورات التي أسست حكومات ديمقراطية.

وقال: «الحداثة تمردت على التقليد، وعلى الواقعية، وعلى الأعمدة الثقافية التي وضعها عصر التنوير (بعد عصري الإصلاح الديني والنهضة). وتمردت على وجود الله القوي الرحيم». وأشار إلى تساؤلات المثقفين عن دمار الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وكانت تسمى «الحرب الأوروبية الكبرى»، وهي حرب قتلت 80 مليون أوروبي. وكان من بين تساؤلات المثقفين: «إذا كان الله رحيما، لماذا يفعل هذا بنا؟»، وحمل هؤلاء الدين والتقاليد مسؤوليات المشاكل الاجتماعية والتأخر والفساد والركود الفكري.

ومع زيادة الحرية، زادت الفردية، وزادت الخصوصية، وصار كثير من المثقفين والفنانين لا يهتمون إذا وصف الناس كتاباتهم ورسوماتهم بأنها «غريبة» أو «شاذة» أو حتى «كافرة».

وخلال مائة سنة تقريبا، تطورت الحداثة: ظهرت الروايات الخيالية الرومانسية (تمردا على الواقعية وسيطرة الأغنياء واستغلالهم لغيرهم). وظهرت السوريالية («سوريال» معناها «غير عقلاني»). وظهرت العودة إلى الطبيعة، بل وتقديسها (سماها مثقفون «الله الحقيقي الذي يرى»). وظهرت الوجودية (وجودية الفرد، تمردا على العقلانية التي تركز على التجارب العلمية، وعلى السلوك البشري، وعلى المنطق الاجتماعي).

وفي عصر الحداثة، اشتهر فنانون مثل الفرنسيين إدوار مونيه (توفي سنة 1883) وهنري ماتيس (توفي سنة 1954)، والإسباني بابلو بيكاسو (توفي سنة 1973)، وعلماء مثل البريطاني شارلز داروين (توفي سنة 1882)، وسياسيون مثل الألماني كارل ماركس (توفي سنة 1883)، وكتاب مثل الألماني فريدريك نيتشه (توفي سنة 1900)، والنمساوي فرانز كافكا (توفي سنة 1924)، والفرنسي جان بول سارتر (توفي سنة 1980) وصديقته الفرنسية سيمون دو بوفوار (توفيت سنة 1986).

وصارت لوحات النساء العاريات (مونيه) والشيوعية (ماركس) وأصل الأنواع (داروين) وعلم النفس (فرويد) تمثل حركات تمرد على الديانات السماوية، إن لم يكن إلغاء لها.

لكن، في الوقت نفسه، شملت الحداثة حركات تمرد إيجابية: موسيقى الجاز كانت من أنواع تمرد الزنوج في أميركا ضد التفرقة العنصرية (التي كانت أحيانا باسم الدين)، كما أن الماركسية ساهمت في الفكر الاشتراكي الديمقراطي (لعلاج أخطاء الرأسمالية)، وطبعا الإبداع والتجديد والانفتاح.

ما هو تعريف ما بعد الحداثة؟

قال كتاب «الحداثة وما بعد الحداثة» إن مرحلة ما بعد الحداثة بدأت خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وإنها ركزت على الفنون والآداب.

ويعتبر معرض «بوب آرت» (الفن الشعبي) الذي أقيم في نيويورك سنة 1962، علامة تاريخية لفن ما بعد الحداثة. غير أن كلمة «شعبي» الأميركية ليست مثل العربية، ولا تعني صناعة السلات، وتزيين الخيام، وزخرفة الجدران. هذه رسومات مقتبسة من أفلام كرتون أميركية (فيها طائرات وقنابل)، ومقتبسة من إعلانات (فيها زجاجات «كوكاكولا» وشوربة «كامبل»).

وإذا كان فن الحداثة أحل رسومات ومسرحيات فيها نساء عاريات أو شبه عاريات، فإن فن ما بعد الحداثة جاء بأكثر من ذلك، مثل مسرحية «تنظيف داخلي» التي عرضت في ذلك الوقت في نيويورك ولندن وباريس وغيرها، وفيها امرأة عارية تماما، وتحمل مكنسة لتنظف داخلها.

وظهر فن «ابسيريدزم» (فن العبث) الذي يصور ويرسم ويمثل أشياء بدون سبب، وبدون معنى، هي ليست للضحك، وليست للحزن، وليست لأي شيء.

وحدث نفس الشيء بالنسبة للتعري: صار أحيانا بدون معنى، ولم يعد التعري فنا، كما كان في العصر التقليدي. مثل تمثال النبي داود الذي صممه الإيطالي ماكيل إنجلو (توفي سنة 1564). ورغم شهرة لوحة «موناليزا» التي رسمها الإيطالي ليوناردو دافنشي (توفي سنة 1519)، اشتهرت أيضا لوحة «موناليزا العارية» التي رسمها واحد من تلاميذه، ولم تكن أقل فنا من الأولى.

على أي حال، لا يمكن أن يكون كل ما بعد الحداثة تافها، وبدون فائدة، وبدون معنى. وكما قال الكتاب: «حتى الذي لا معنى له، نجد له معنى».

ليس هذا رأي اليمين الأميركي في ما بعد الحداثة (وفي الحداثة نفسها)، لكن لم يكن اليمين الأميركي هو أول من فعل ذلك.

أولا: في القرن التاسع عشر، عارض الحداثة رجال الدين في أوروبا وأميركا. ليس فقط بسبب تعري النساء، ولكن، أيضا، كما قال واحد منهم، لأنها «تشغل الناس عن التأمل في الله».

ثانيا: رغم أن الشيوعية فكرة حديثة (غير تقليدية)، عارض الحزب الشيوعي الروسي (في عهد ستالين) الحداثة، وقال إنها برجوازية غربية. وظهر ذلك في عمارات موسكو التي خلت من العمارات الزجاجية (حتى سقطت الشيوعية).

ثالثا: عارضتها النازية في ألمانيا. وقالت إنها «فكرة يهودية» و«فكرة زنجية».

وركز اليمين الأميركي على «غياب الروح» في الحداثة (وما بعد الحداثة). وقال كتاب «الإبداع الثقافي» إن الخلاف هو حول الهدف من إبداع الفرد: هل يواكب التطورات الحضارية والتكنولوجية؟ أو هل يركز على العلاقات الإنسانية (رغم التطورات الحضارية والتكنولوجية)؟

ماذا عن «فن أوباما وميشيل» في البيت الأبيض؟

لم يكن وصفه بأنه من «الحداثة المتطرفة» غريبا، وذلك لأن الفكر الأميركي (مثل بقية الفكر الغربي) يصنف الحضارات والثقافات اعتمادا على التاريخ الأوروبي.

قبل شهور، عرض متحف «سميث ونيان» في واشنطن (أكبر مجموعة متاحف في العالم) معرضا عن أنواع الفنون والثقافات. وأوضح أن هناك ثقافات لا تزال «ضحلة»، وأن هناك فنونا لا تزال «ضحلة»، مثل فنون العالم الثالث.

حتى وقت قريب، كانت هذه تسمى «بدائية». لكن، مؤخرا ومن باب التأدب، قل استعمال هذا الوصف. وصارت هذه الثقافة توصف بأنها «قبلية».

طبعا، في رأي شعوب العالم الثالث، عندهم كثير من أنواع الثقافة «الراقية». لكن، عندما يعرضها الأميركيون في متاحفهم، يطبقون عليها أوصافهم وتقسيماتهم.

قسم الأميركيون هذا النوع من الثقافة إلى ثلاثة أقسام: الأفريقية والباسيفيكية والهندية الحمراء، وسموها «ثقافة قبلية» لأنها تعكس عادات وممارسات قبلية، وأيضا «ثقافة ريفية» لأنها ليست «مدنية».

من باب التأدب، لم يقسم الأميركيون الثقافة إلى «متحضرة» و«بدائية»، لكنهم قسموها إلى «ثقافة الحضر» و«ثقافة الريف».

قدمت هذا الشرح مجلة «سموثونيان» الشهرية التي تصدرها الإدارة المشتركة للمتاحف بنفس هذا الاسم الموجود في «مول» واشنطن. وقالت المجلة: «ليس الهدف الإساءة إلى أي ثقافة، ولكن يمكن وصف ثقافة بأنها من الريف أو من المدينة، رمزا لمرحلتين حضاريتين مختلفتين».

أخيرا.. على الأقل، كانت صحيفة «نيويورك تايمز» متأدبة ودبلوماسية جدا عندما وصفت الأثاث واللوحات والسجاد والتماثيل الآتية من أفريقيا ومن مستوطنات الهنود الحمر التي وضعها أوباما وميشيل في البيت الأبيض، بأنها «حديثة بتطرف».