أفريقيا الغامضة والأخرى الرومانسية

تطاردها صور خاطئة روجتها السينما والإعلام

TT

يحلل هذا الكتاب صورتين ثابتتين متناقضتين هيمنتا على المفهوم العام عن أفريقيا، أولهما صورة أفريقيا الغامضة الخطيرة والأخرى الصورة الرومانسية المتجسدة في رحلات الصيد والطبيعة الساحرة، وصورت السينما العالمية هذا التناقض في الكثير من الأفلام الشهيرة.

هاتان الصورتان تم استعمالهما في صوغ التصور العام عن القارة البائسة، ومن ثم فليس مستغربا أن يعكس الجزء الأكبر من التغطية الإعلامية هذه الصورة المثيرة للأسى. يقول روبرت ستوك: «إن قصص النجاح في أفريقيا لا تثير اهتمام الإعلام إلا قليلا. وهذه الصور السائدة تعطي انطباعا بأن أفريقيا قارة متجانسة، فمثلا من يقضي عطلة في بلد أفريقي، يقول إنه سافر إلى أفريقيا لا لبلد بعينه. ومن أجل فهم سياق أفريقيا والسياسة بها وكيف تؤدي هذه السياسة إلي الحروب والنزاعات المسلحة والاضطرابات والتخلف وفرص إقرار السلم والصراع غير العنيف لا بد من نزع سمة التجانس عن أفريقيا».

هذه الأسئلة وغيرها يحللها هذا الكتاب الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب، وأعده مدير دراسات السلم والنزاع في أفريقيا باليونيسكو، ديفيد ج. فرانس، وضم فيه مجموعة من المقالات المهمة لعدد من أبرز المختصين في هذا الشأن، وترجمه للعربية الدكتور عبد الوهاب علوب. ويلفت الكتاب إلى أن الدراسات عن السلم والنزاع في أفريقيا ومنذ التسعينيات تخلو إلى حد كبير من الإلمام العلمي والفكري الجاد بالأنساق الأفريقية لبناء السلم وفض النزاعات.

ونظرا لاتساع هذا الموضوع، يتسم الكتاب بالانتقائية، ويحيل بعض المواضيع المهمة ذات الصلة، مثل الهوية الجنسية وحفظ السلم والتنمية إلى كتاب آخر مستقل.

وترى بعض مقالات الكتاب أن الحروب والنزاعات المسلحة هي التي تسيطر على صورة أفريقيا وعلى تغطيتها إعلاميا، وذلك بسبب انتشار العنف السياسي وتكرار الحروب والنزاعات المسلحة وكثرتها، فهي تعد الأعلى في العالم. ومن ثم، فإن كل المؤشرات العالمية عن أفريقيا ليس بينها إلا قاسم مشترك، وهو تصوير القارة كمكان دائم الخطر والتخلف ويستحيل حكمه. لكن هذه المؤشرات تخفق في بيان المسار المتضارب من تغيير الاتجاه والتقدم الذي ميز القارة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، وعلى عكس معظم البيانات، فإن العنف والصراع المسلح في انخفاض، فبين عامي 2000 و2002 لم يكن هناك سوى 18حربا وصراعا مسلحا نشطا في أفريقيا، وحتى فبراير (شباط) 2008 لم تكن هناك سوى 5 حروب وصراعات مسلحة في القارة؛ السودان (منطقة دارفور)، كينيا، الصومال (باستثناء صوماليلاند)، الكونغو الديمقراطية (المنطقة الشرقية) وتشاد.

لكن ما زالت أفريقيا تعاني أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، حيث يعطي مؤشر التنمية البشرية الخاص ببرنامج التنمية التابع للأمم المتحدة دلالة مهمة عن مستوى التخلف وانعدام الاستقرار السائدين في أفريقيا.

ويوضح الكتاب أنه ما بين عامي 1990 و2007 احتلت دول أفريقيا الضعيفة المتداعية المراكز العشرة الأخيرة على قائمة مؤشر التنمية. كما أن المشكلات البيئية العالمية مقدر لها أن تؤثر على أفريقيا. وحسب تقرير بنك التنمية الأفريقي (2007) ففي عام 2025 سيعيش نحو 50 في المائة من الأفارقة في مناطق ذات ندرة مائية أو نقص مائي، مع أن أفريقيا تعد أقل القارات من حيث الانبعاث الضار بالبيئة، وعلى الرغم من ذلك قد تعاني أفدح العواقب، وهذا ما تشهده دول القرن الأفريقي حاليا، وعلى رأسها الصومال، من جفاف أدى لمجاعة شديدة القسوة.

كما أن مؤشرات الاضطراب السياسي محبطة للغاية؛ فطبقا لترتيب مؤشر صندوق الدول التي تفتقر للسلم لعام 2007 نجد أن ثماني دول من بين الدول العشر الأولى الأكثر اضطرابا في العالم في أفريقيا.

ويتساءل الكتاب هل أفريقيا قضية خاسرة؟ ويقول: إن السلم في أفريقيا وتحدياته الأمنية، وبغض النظر عن كونها قارة بائسة ومجرد حالة ميئوس منها، أصبح هناك هم عالمي واهتمام دولي متجدد بالقارة، وما تبدى في الحرب على الغرب، وفي تكالب الرأسمالية الجديدة الضارية المتمثلة في الصين والغرب على موارد الطاقة والغاز في أفريقيا. لافتا إلى أن هذا التركيز الدولي غير المسبوق على أفريقيا بدأ فعليا في عام 2005 بتشكيل توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق «لجنة أفريقيا» كجزء من مبادرة رئاسة الاتحاد الأوروبي وقمة الثماني، لوضع القارة على قمة جدول العمال الدولي. وتلتها مبادرات بمعونات تجارية كبيرة وحملات لجمع التبرعات وتسابق مشاهير هوليوود لتبني أطفال أفارقة، لدرجة أن بعض المعلقين بوسائل الإعلام يلمحون حاليا إلى حمى أفريقيا.

إن أفريقيا قارة غنية بالموارد بل هي الأغنى بالموارد في العالم، فمن بين الواحد والعشرين معدنا المعروفة في العالم، فإن الخمسة الأعلى من حيث التصدير تخرج من أفريقيا، وهي النفط الخام وسائر المنتجات النفطية والغاز الطبيعي والماس والفحم، ولبيان وفرة مواردها فإن أفريقيا تنتج ما يقدر بعشرة ملايين برميل نفط سنويا. إلا أن هذه الوفرة في الموارد المعدنية والبشرية لم تقلل معدل الفقر، بل ذهب بعض المحللين لوصفها بـ«لعنة الموارد الطبيعية» التي أغرت النخب الحاكمة الفاسدة بسوء الإدارة، بالإضافة لعدد من العوامل الخارجية.

وفي أحد فصول الكتاب يفند الباحث توني كاربو، إشكالية بناء السلم في أفريقيا، موضحا أنها عانت منذ نهاية الحرب الباردة نصيبها من الحروب والصراعات العنيفة. وعلى الرغم من تفاوت طبيعة هذه الحروب والنزاعات، فإن تحليل عمليات بناء السلم في القارة يكشف عن بعض الأنماط والاتجاهات المشتركة. فصناعة السلم وبناء الأمن في أفريقيا ليسا جديدين أو مستحيلين، والتاريخ يخبرنا بأن أفريقيا مهد الإنسانية، وهو أمر يوحي بوجود موارد ومؤسسات غنية ومتنوعة لفض النزاعات وبناء السلم تعود إلى قرون.

ويشتمل بناء السلم على الكثير من الأنشطة، منها منع النزاع وإدارته وفضه والتفاوض والوساطة والمصالحة والدعم والمساعدات الإنسانية وإدارة الطوارئ والعمل التنموي وإعادة البناء بعد النزاع، أي أن بناء السلم يتعلق بإعادة البناء على مدى أوسع. ويؤكد الباحث أنه يجب أن ينظر إلى التفرقة التي تعانيها الفئات الأضعف، وكذلك التوازن والعدل في توزيع الموارد.

ومما يضاعف من تعقيد لغز بناء السلم في أفريقيا علاقات بلدانها بمؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فالبلدان التي تتعثر في السداد، تخضع للعقوبات المفروضة وبالتالي لا يحق لها الحصول على قروض أخرى، كما أن هذه العقوبات تؤثر على علاقات البلدان بسائر المانحين والهيئات الدولية. وبالطبع، تتضاعف صعوبة التنمية في البلدان الخارجة من النزاع، مما يحتاج إلى جهود استثنائية.

وحول مستقبل السلم والنزاع في أفريقيا في ضوء القضايا المهمة التي تناولها الكتاب، ثمة نقطة مشتركة بين كل الدراسات، هي أن أفريقيا لن تشهد بعد الآن الفوضى التي تتجلى في الاضطراب السياسي الدائم والحروب الأهلية الدامية والنزاعات المسلحة الوحشية التي باتت السمة الثابتة للقارة بين 1990 و2002.

ويقوم هذا التفاؤل الحذر على عدة عوامل؛ أولها أن هناك جهدا مضنيا يبذل حاليا في تحليل النزاعات على أيدي عدد كبير من العناصر الوطنية والدولية، وهيئات تدخل في النزاعات والتنمية في محاولة لفهم جذور النزاعات وإمكانات إحلال السلم، وهذا يعني أن أنشطة التدخل السائدة السابقة كانت تصاغ ضمن تفسيرات سطحية وتصنيفية للحروب وأسباب التخلف والأزمات الاقتصادية. وكانت نتيجة هذا النوع من رد الفعل تجاه مواقف النزاع حلولا غير مناسبة وتدخلات دولية متسرعة وقصيرة المدى، وبالإضافة إلى الاهتمام العالمي المتنامي بأفريقيا، لا سيما ما تشكله الحروب والاضطرابات والفقر المدقع والتخلف في القارة من تهديد للسلم الدولي، زادت جهود المجتمع الدولي لإدارة الحروب والنزاعات المسلحة وإقرارها وحلها، ولو بدرجات متفاوتة من النجاح.

ويؤكد الكتاب على أن قضايا السلم والنزاع في أفريقيا تتصل بصورة وثيقة بالسلم والأمن الدوليين، وبالتالي فمن مصلحة المجتمع الدولي أن يدعم المبادرات الوطنية والإقليمية لإدارة النزاعات وفضها وبناء السلم.