الأتراك أسياد في صناعة «السياحة الثقافية»

استثمار يبدأ بالدراويش ولا ينتهي بتفاصيل حياة السلاطين

TT

يمتلك العرب كنوزا ثقافية يمكن أن تدر عليهم المليارات لو أرادوا، لكنهم عن ثرواتهم غافلون. النموذج التركي السياسي ليس وحده الذي يجب أن يلهم العرب، وإنما نظرتهم لتاريخهم وهويتهم ورموزهم، وأسلوب احتفائهم بها، وتوظيف كل هذا في ما بات يسمى «السياحة الثقافية». كيف نجحت تركيا، ولماذا فشل العرب في استثمار الثقافة المحلية؟ هنا تحقيق من إسطنبول يلقي الضوء.

باتت الصناعة السياحية في تركيا ظاهرة تستحق الرصد، ليس لأنها تجتذب ما يزيد على 25 مليون سائح كل سنة، بينما لا تستقطب مصر مثلا في أحسن حالاتها أكثر من عشرة ملايين شخص، لكن لأن هذه الصناعة تقوم بشكل أساسي على تسويق الجانب الثقافي التراثي للبلاد. صحيح أن الموقع الجغرافي لتركيا على قارتي أوروبا وآسيا وعلى بحار عدة، وفي نقطة تتوسط العالم، هو أمر يتم استثماره بذكاء، لكن التاريخ يكاد يوازي الجغرافيا ويتفوق عليها في السياحة التركية، لا سيما في اسطنبول التي يزورها واحد على الأقل من بين كل أربعة سياح.

النقطة الأساسية التي يروج لها الأتراك لجعل اسطنبول مشتهى للزيارة، هي أنها كانت عاصمة الدولة البيزنطية لمدة 400 سنة، ومن ثم عاصمة للعالم الإسلامي لمدة 500 سنة. الآثار الإمبراطورية من الفترتين محفوظة بشكل ممتاز، وتصان برموش العين، ويؤرخ لها، وتشرح للسياح دلالاتها بفضل مرشدين سياحيين يتكلمون مختلف اللغات.

ملاحظ أن السياح الأوروبيين لا يغادرون إسطنبول دون زيارة السور البيزنطي الذي لا تزال أجزاء مهمة وضخمة منه قائمة إلى اليوم، وكذلك زيارة «بازيليكا سيسترن» وهي خزانات المياه التي أقامها البيزنطيون تحت الأرض، لتزويد المدينة بما يلزمها من الماء، حيث يشاهد الزائر غابات من الأعمدة الرخامية الضخمة، بعضها حفرت عليه رسومات ارتبطت بأساطير غربية قديمة، وكلها تعوم على بحيرة من المياه التي تسبح فيها الأسماك هذه الأيام. آثار المرحلة البيزنطية ليست بالضرورة من أولويات مكاتب السياحة التي تعنى بالعرب والمسلمين، فهذه تركز بشكل أكبر على المرحلة العثمانية بقصورها ومساجدها وأسواقها كما مدارسها وحتى سجونها.

الرحلة في مضيق البوسفور هي رحلة ثقافية بامتياز، أو هكذا يريدها العثمانيون الجدد. فكل ما على الضفة الغربية الأوروبية من المضيق وأنت تعبره يبدو لك وكأنه طالع من مجد شامخ. كل دليل سياحي يعرف عن ظهر قلب تاريخ إنشاء كل معلم من هذه المعالم العريقة، واسم مهندسه، والدور المهم الذي لعبه. فإلى جانب ما يسميه العرب «قصر يلدز» أو «دولمه بهتشه»، يتعرف الزائر وهو يعبر المضيق على عدد كبير من المدارس التي صنعت مجد العثمانيين، سواء كانت «جامعة البهتشه» أو «روبرت كولدج» أو «مدرسة البحرية» التي تخرج فيها كبار الأتراك ودرسوا فيها، وكانت أول صرح في البلاد يدرس اللغة الفرنسية. هناك أيضا أبراج السلطان محمد الفاتح القائمة منذ عام 1452 المرتبطة ببطولاته عند فتحه لاسطنبول وتحريرها من البيزنطيين.

يريد الأتراك أن يخبروك بأن كل حجر هنا يستحق الزيارة كما الاستماع إلى قصته التي لا ينقصها التشويق، فما بالك بالصروح الكبرى التي لا تحتاج لترويج كي تشعر بالانجذاب نحوها؟ فقصر «توب كابي» أو «الباب العالي» بكل ما يحويه من كنوز ومجوهرات وهدايا، امتلكها السلاطين، أو جاءتهم من أنحاء الدولة الإسلامية، هو جزء من تاريخك كعربي وتود أن تراه. جناح المقدسات مشغول بعناية، شعر للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) محفوظ هنا، بطريقة تزيد من مهابته، سيوف للصحابة من أبي بكر إلى عمر وعلي وعثمان، إضافة إلى أثر لقدم النبي، وعمامة يوسف، وعصا موسى، وثوب لفاطمة ابنة النبي (صلى الله عليه وسلم)، إضافة إلى مصحف عثمان الذي قتل وهو يقرأ فيه، وتراه ملطخا بالدماء. لا يعرض الأتراك هذه المقتنيات ذات البعد الروحي الكبير، دون أن يحيطوها بما يلزمها من أجواء قدسية. وفي إحدى الغرف يجلس شيخ معمم يتلو آيات من الذكر الحكيم بصوت رائع يتردد صداه في المكان. لا مكان للتسجيل أو الاسطوانات في مثل هذه المناخات، فالمطلوب التأثير على الزائر، ووضعه في حالة من الخشوع الكامل في هذا الجناح بالذات حتى لو كان مسيحيا أو يهوديا.

لا فرق بين السياحة الدينية والسياحة الثقافية، عندما يختلط الديني بالحضاري والتاريخي.. وفي كنسية آيا صوفيا التي تحولت إلى مسجد مع بداية العصر الإسلامي في اسطنبول، وتبعد أمتارا عن «توب كابي»، يجد المسيحيون الغربيون ما يبحثون عنه، وكذلك المسلمون الذين يرون آثار تحويل الكنيسة إلى جامع واضحة من الآيات القرآنية التي علقت في كل مكان من الكنيسة، قبل أن يأمر أتاتورك بتحييد هذا المعلم وجعله متحفا للزوار.

الجامع الأزرق الشهير الواقع في وسط إسطنبول، وليس بعيدا عن آيا صوفيا، يتحول إلى مزار أيضا خارج أوقات الصلاة، دون أن يشعر الأتراك بأنهم يمسون حرمة المكان.

والسؤال الذي لا بد من طرحه هنا: لماذا يعجز 80 مليون نسمة في مصر عن الترويج بالقدر الكافي والمؤثر لحضارة فرعونية عمرها 5 آلاف سنة، هذا عدا عن الآثار الإسلامية البديعة، بينما يتمكن 75 مليون تركي من عمل العجائب بفضل آثارهم التي لا تعود لأكثر من 1000 سنة، ومع ذلك يعرفون كيف يظهرون قيمتها، ويدللون على أهميتها، ويقنعون زائرهم بأنها جزء منه سواء كان شرقيا أو غربيا، مسلما أو مسيحيا؟!.. علما بأن الناس العاديين في الشارع لا يجيدون اللغات الأجنبية على الإطلاق.

لكن قد تكون هذه النقطة هي مكمن القوة وليست مركز الضعف، على عكس ما نتصور. إذ يتعامل التركي مع تاريخه وهويته بإباء شديد، ويعتبر نفسه منتميا إلى حضارة ودين يحق لهما أن يتصدرا الأمم في مكانتهما الإنسانية. وبالتالي فإن كل ما نتج عن هذه الحضارة هو صالح للتعريف به وتقديمه باعتزاز وفخر، بدءا بالحمام التركي الذي يكلف تجريبه بالحد الأدنى 100 دولار، وقد يصل السعر إلى 500 في حال قرر المستحم تجريب أفضل أنواع الزيوت والتدليك، وصولا إلى بروتوكولات وتفاصيل الحياة الإمبراطورية للسلاطين العثمانيين.

السياحة الثقافية لا تجد لها تعريفا واضحا حتى اليوم. السياحة مثلا بحسب «المنظمة الدولية للسياحة»، هي «أن يتحرك شخص ليقضي ليلة خارج منزله المعتاد بهدف الاستجمام». أما السياحة الثقافية بحسب الكاتب بيار أوريجيه دو كلوزو، في كتابه المعنون «السياحة الثقافية» ضمن مجموعة «كو سيج» الفرنسية الشهيرة، فقد جاء على النحو التالي «أن ينتقل شخص من مكان إلى آخر، ويقضي ليلة واحدة فيه على الأقل، بهدف أساسي هو توسيع آفاقه في البحث والاكتشاف والتفاعل، من خلال اكتشافه لتراث ما على أرض ما. ويشمل هذا التراث المعالم التاريخية ولكن أيضا العادات والتقاليد».

تركيا تبقى أمينة لهذا التعريف، وتحرص على أن يخرج السياح الذين غالبا ما يزورونها لمدة تتراوح بين أربعة وسبعة أيام، وهم على دراية بما يأكل شعبها وما يشرب، وكيف يتنزه، وما هي حلوياته المفضلة، وصناعاته الأثيرة. فمن ضمن الجولات السياحية زيارة مصانع الجلود والحلقوم مثلا، والتعرف على الأسواق الشعبية والاحتكاك بالتجار. وهذا مرسوم ومنظم تحترمه المكاتب السياحية وتعمل وفقه.

أكثر من ذلك فإن هذه المكاتب تنصح السياح بالتعرف على السهرات على الطريقة التركية التي يستمعون خلالها لموسيقى البلاد ويرون رقصها، لكن وهذا هو الأهم يتعرفون على دراويشها.

وهنا نقطة تستحق التوقف عندها.. ففي مصر دراويش وفتلات مولوية صوفية، وتعتبر مدينة طرابلس اللبنانية أحد أهم المعاقل الروحية للصوفية المولوية في العالم العربي، وفيها تكية شهيرة. في طرابلس تحول هؤلاء إلى ديناصورات في طريقهم إلى الانقراض، ومصر لم تتمكن من الحفاظ على البعد الروحي الشفاف للدراويش. أما تركيا فهي تنظم سنويا في مدينة قونيا مهرجانا صوفيا هو الأهم من نوعه في العالم، يأتيه المريدون والفضوليون من كل أنحاء العالم، وفي ذلك الموسم السنوي يرتفع سعر الفندق في قونيا إلى 500 دولار لليلة، لكثافة الزائرين، فيما أبقى العرب دراويشهم على هامش حياتهم، أو قضوا عليهم بالكامل، أما دراويش تركيا فمدللون، ويشكلون أحد مصادر الدخل القومي.

الدرويش في تركيا بات رمزا وطنيا، وتجد صورته في مجسمات، تعتبر واحدة من أهم الرموز التذكارية التي يمكن أن تحملها إلى بلدك، مصنوعا من الفخار أو النحاس، يدور على قاعدة ثابتة، تجده مرسوما على فناجين القهوة، أو صحون الزينة، محفورا على الأساور والقلادات، منتصبا في الصالونات والساحات. المسألة ليست تدينا أو التزاما بفكر ديني بعينه، لكن الاستفادة مما هو موجود، وإضفاء قيمة على ما تنضح به مشاعر الناس من فيض روحي أو دنيوي هو تماما ما ينتهجه الأتراك للتعريف بأنفسهم.

وإن كان الكلام على السياحة الثقافية يحتاج مطولات حين يخص تركيا، فإن ما لا بد من الإشارة إليه هو أن صناعة التذكارات السياحية بالاستفادة من الرموز الثقافية تدر على تركيا مدخولا هائلا. وضروري القول إنها تذكارات على كثرتها مصنوعة كلها في تركيا، ولن تجد أبدا مثل هذه القطع التي يفترض أن تأتي بها إلى بيتك بعد زيارة للعاصمة العثمانية، لتجد أنها صنعت في الصين كما هو حال الكوفيات الفلسطينية والأردنية أو السراويل اللبنانية، التي تمتلئ بها أسواقنا التراثية.