مغانم السلطة ومغارم الآيديولوجيا

رواية «الولي الطاهر» تعود مرة أخرى لقراءة الواقع الليبي

TT

في روايته «الولي الطاهر» الصادرة في 2005، بدا الروائي المغاربي الطاهر وطار، والذي توفي العام المنصرم، وكأنه يستشرف مستقبلا عربيا، من خلال واقع جديد جسده في أحداث الرواية التي امتد زمانها لفترة ست سنوات بدءا من عام 1993، خلال التجربة المأساوية التي عاشتها الجزائر نتيجة الصراع السياسي بين تيارات وحركات مختلفة كان أبرزها الحركات الأصولية الراديكالية.

يعقب كل صراع كبير، تصارعات فرعية، وما إن يتخلص الثوار من هيمنة السلطة حتى يدب الخلاف والاقتتال حول مغانمها، وفي عمل الطاهر وطار كان مصير الرواية تحكم بتناول الحركات الإسلامية بشيء من التحليل، والظاهرة الأصولية الراديكالية بصفة خاصة، وكان سؤال الطاهر وطار الأبرز من خلال بطله المتخيل «لماذا نقتل بعضنا هل للحفاظ على الإسلام وكلنا مسلمون».

في ليبيا، الدولة المجاورة للجزائر، هناك دائما مخاوف من اقتتال داخلي بين الثوار الليبيين حتى قبيل تحقيق النصر وإعلان اعتقال الزعيم المخلوع معمر القذافي، وكانت جولة من هذا القتال قد نشبت وأسفرت عن مقتل 12 شخصا، وإصابة 16 آخرين قبل أسبوعين، جسد حال الولي الطاهر الذي تاه في الفيافي باحثا عن «المقام الزكي»، حتى باتت حقيقة الواقع العربي والإسلامي العبثية والضبابية، أمرا مشابها لحالة «القبلة الضائعة» في حياة «الولي» بالرواية والذي عجز عن تحديد قبلة صلاته بعد أن توسطت الشمس السماء، حتى عقب بلوغه مقامه «الزكي» كان بالشمس تعاني حالة من الذهول.

كان دائما ثمة خشية من رجال يستخدمون الدين وسيلة للهيمنة، أو يحاولون خطف ثمار النصر والثورة، أو يعبرون فوق طموح الجماهير لتحقيق أحلامهم، وفي الرواية خاض «الولي الطاهر» معركته المقدسة خلال مسيرته صوب «المقام الزكي»، إلا أن عدوه كما وصفه والذي لم يفهم لغته له «نفس القلنسوات، ونفس اللحى، ونفس الجلاليب والمعاطف، ولربما تفوح منهم نفس رائحة المسك وفي شفاههم السواك».

فكانت إشارة منه إلى جهاد الخوارج حتى بلغ الأمر فقال «فجأة رفعت الراية البيضاء من هنا وهناك تطلب وقف القتال، ظنها الولي خدعة، ولم يهضم عقله، خوض هذه الحرب بهذه الطريقة، فقرر أن لا يوقف القتال من جانبه»، حتى تجاوب مع فعلته مجموعة من المحاربين من كلا الطرفين فراحوا ينضمون إليه مكبرين متحمسين لقتال ضار.

فتبادل الخصمان الأولان رسائل لا سلكية، وقرروا أن هذا الطرف الثالث في هذه الحرب المقدسة، لن يكون سوى طرف عميل دخيل، اندس بين الصفوف لشقها، حتى تقرر أن يخوض الجميع الحرب ضد هؤلاء العملاء الدخلاء، فحولت المدفعية مراميها، وصار الولي الطاهر ومجموعته التي ما تفتأ تنمو وتكبر هي مركز القصف.

وصور بذلك بداية الصراعات على السلطة من قبل من رأى أنه حرر البلاد من استعمار أو طاغية، إلا أنه في المقابل بحث الإسلاميون عن ضرورة تبني نظام إسلامي، حتى تحول المشهد إلى تقتيل عشوائي.

«الألغام الأشلاء تتناثر الدخان القنابل يا للهول، الفؤوس تعمل في الأجساد والقلوب بلغت الحناجر، الرؤوس تتطاير من كل مكان.. حتى الأبقار، والدجاج».

تمكن الطاهر وطار من خلال شخوص روايته من تصوير استخدام الدين لأغراض سياسية، وهو عندما تتحول القناعة الدينية إلى امتداد سياسي، أو عندما ترتدي السياسة ثوبا دينيا، حتى استحال على الأطراف جميعها تقبل الآخر، منتهيا المشهد إلى الخاتمة الطبيعية وهي ممارسة «العنف».

في المقابل تمكن الروائي السياسي من تصوير الحالة النفسية والثقافية لدى جماعات العنف الدينية والتي تطلق على نفسها «الإسلامية الجهادية»، بصورة دقيقة بدءا من وصفه لحالة الاقتتال الجماعية «حمي الوطيس واشتد.. وارتفعت الحناجر تكبر من هذه الضفة وتلك»، يردد الولي الطاهر جهرا سورة الأعلى «سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى» حتى استوقفته كثيرا الآية الكريمة «سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى»، وبقي السؤال ما الذي نسيه «الولي الطاهر»؟.

فكم من ولي طاهر بات يخشى على ظهوره رئيس المجلس الانتقالي الليبي من بين من تحالف معهم، وكم من دولة إسلامية ليبية أو «مقام زكي» سينبثق من إطاحة معمر القذافي، حتى ينتهي بجماعتها تقرير الهروب بالدين، لإقامة الخلافة الإسلامية.

خوف برز جليا عقب تكرر مؤتمرات رئيس المجلس الانتقالي موجها فيها خطابه بالدرجة الأولى للثوار أنفسهم وكان لسان حاله يبتهل ويقول بتبريح جريح ينبعث من حنجرته «يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف»، وهو خوف مستقبلي يرجو أن لا يكون مشابها لحال الأحداث في الرواية.

عقب أن شدد مصطفى عبد الجليل في حديثه الأخير لأهالي طرابلس أن الإسلام في ليبيا هو «إسلام وسطي» ولا مكان «لأي إيديولوجية متطرفة»، معبرا عن استمرار غضبه من ممارسات بعض التيارات السياسية ذات الصبغة الإسلامية.

كما يحاول المجلس الانتقالي إقناع الإسلاميين المسلحين بالتخلي عن السلاح الذي حملوه على مدى نحو سبعة شهور للإطاحة بالقذافي والإسهام في فرض الأمن والاستقرار في كل أنحاء الدولة الليبية وخاصة طرابلس الغرب.

قلق مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي، يثير تصاعد المخاوف لديه من أن تصاب جماعة من الثوار الليبيين بذات الوباء الذي أصاب جماعة «الولي الطاهر» ويمتد إليهم، وبالأخص بعد أن جمعتهم ذات الصحراء المغاربية الممتدة شرقا وغربا، فأصاب منهم الأمخاخ، وأوقفها عن التعرف على نفسها، يعبدون الله ولا يخافونه، يصلون خاشعين، ولكن لا يخافون أخراهم، مؤثرين الحياة الدنيا، بينهم وبين الشيطان حلف، يأمرهم يصلون، مقابل أن يأتوا كل ما يأمرهم به.

نهاية الروائي المغاربي الطاهر وطار بقيت مفتوحة ولم يغلق فيها صراع التيارات والحركات، تماما كما هو الحال الليبي، ويبدو أن فرحة النصر التي رافقت «الولي الطاهر» وجماعته متزامنة مع أدائهم لصلاة الكسوف، كتعبير استشرافي عن حال الظلمة التي سيبقى يعاني منها من هم في «المقام الزكي»، هو الوضع ذاته لحال نصر أبناء ليبيا على الزعيم المخلوع القذافي، وحالة الكسوف التي تعم مستقبل المجلس الانتقالي الليبي والحكومة المنتظرة.