مفاهيم أقرب لبرامج للبحث العلمي

احتفاء بفكر محمد أركون في البحرين وصدور كتاب جديد عنه

محمد أركون
TT

أكتب هذا المقال على أثر عودتي من البحرين حيث شاركت في ندوة عن محمد أركون بدعوة من وزارة الثقافة قبل أيام. وكانت المناسبة هي صدور كتاب جميل جدا عنه في سلسلة «أطياف» التي تشرف عليها الباحثة رنده فاروق. وهو كتاب شارك فيه العديد من المثقفين العرب. نذكر من بينهم: محمد شوقي الزين الأستاذ في جامعة ايكس إن بروفنص بجنوب فرنسا. وكان بحثه بعنوان: «تراث الأنوار وسياسة الفكر عند محمد أركون». وقد استهله بالقول: «في بداية الثمانينات من القرن العشرين شهد الفكر العربي المعاصر منعطفا حاسما بإدراج النقد كقيمة معرفية وتاريخية في قراءة التراث العربي الإسلامي. فكان أن أصدر محمد عابد الجابري الجزء الأول من مشروعه نقد العقل العربي سنة 1984. وفي السنة نفسها أصدر محمد أركون (نحو نقد العقل الإسلامي).. لقد ظل أركون وفيا لتراث الأنوار الحامل للآمال والحافل بالمبادئ والأعمال. وهو في نقده للعقل الإسلامي وظف أبرز تقنياته ومبادئه في طرد العتمة المستبدة بالتاريخ العربي، ونبذ الكبرياء المعاصرة للعقل الغربي المهيمن. إن جهود أركون في إيجاد بديل عن الأزمات التي استحكمت بالعقل هي أيضا شبيهة بالرسالة الثانية التي دونها كانط في إيجاد الوجهة التي ينتهجها العقل بعد إلقاء نظام من الإنارة على جهاته المظلمة أو أركانه الحالكة».. ثم يختتم محمد شوقي الزين بحثه الطويل والهام بفقرة مؤثرة وأكاد أقول شاعرية بعنوان: قبر محمد أركون. وهنا يروي لنا كيف سافر خصيصا من الرباط إلى الدار البيضاء لزيارته في مقبرة الشهداء. فوجد أنه بمقربة من قبر إدريس الشرايبي وعلى بعد خطوات من قبر الجابري.

أما الباحث الثاني الذي شارك في الكتاب، فهو الدكتور عبد القادر فيدوح أستاذ النقد الأدبي الحديث في جامعة البحرين. وقد تحدث عن «الأنسنة في فكر محمد أركون». وكان مما جاء فيه: لقد كرس أركون جهده لموضوع «الأنسنة» حتى أصبح أكثر الموضوعات جدارة بالدراسة. وقد نظر إليها الباحثون من شتى الأهواء، يمكن حصرها في حكمين: أحدهما أن الأنسنة قيمة علمية مائزة في فكره، أما الحكم الثاني فيتمثل في نظر منتقديه أنها، أي الأنسنة، زلة شائنة في منهجه، وشائبة في رؤيته، ومبالغ في تجسيمها بهذا الطرح، بالنظر إلى ارتباطها بالمنهجية الاستشراقية، في حين رأى المنافحون عنها أنها تعود بجذورها إلى مهد الفكر الإسلامي، مرورا برواد النهضة العربية، ومن ضمنهم حسن العطار (1766 - 1835) في مطلع القرن التاسع عشر، ومن بعده رفاعة الطهطاوي (1801 - 1873) إلى الفكر التنويري الذي بعثه طه حسين (1889 - 1973) ومن تبعه بقدر من الإصلاح والإبداع، على نحو ما كانت عليه نزعة الأنسنة الإسلامية منذ القرن الخامس الهجري.

وأما الفصل الثالث في الكتاب فقد كتبه الشاعر والناقد المغربي عبد الحق ميفراني تحت عنوان: «المفكر محمد أركون: مشروع فكر حداثي وخلخلة للعديد من اليقينيات». وهو عنوان موفق في رأيي لان الصفة الأولى لأركون (ولكل المفكرين الحقيقيين في التاريخ) هي أنه كان المخلخل الأكبر لليقينيات الراسخة والسائدة عن التراث في كل العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه. من هنا ردود الفعل الهائجة عليه من قبل المحافظين التقليديين.

هذا وقد كتب الفصل الرابع الباحث الجزائري فارح مسرحي رئيس قسم الفلسفة في جامعة باتنة وصاحب كتاب «الحداثة في فكر محمد أركون». وبالتالي فهو أحد المهتمين بفكر أركون منذ زمن بعيد ومن القلائل الذين يستطيعون فهمه وتقييمه. وهو الوحيد الذي كتب فصلين مطولين ومهمين في الكتاب لا فصلا واحدا. الأول بعنوان: «آفاق المشروع الحداثي لمحمد أركون». والثاني بعنوان: «حياة محمد أركون: رحلة تفكيك السياجات الدوغمائية». ولا أستطيع للأسف أن أستعرض كل ما قاله هذا الباحث المطلع عن كثب على فكر أركون ولكن سوف أذكر المقطع الأول من فصله الثاني. يقول هذا الكلام المعبر: «تعترض الباحث في مشروع أركون الفكري عدة عقبات، لعل أهمها تتمثل في إشكالية موضعته أو تصنيفه، بمعنى تحديد هويته وبيان انتمائه مقارنة بمجمل المشاريع الفكرية المنتشرة في الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر. وعلى الرغم من أن أولى كتاباته ترجع إلى أزيد من خمسة عقود خلت، وعلى الرغم من غزارة إنتاجه وتنوعه، نلاحظ أن أفكاره لا تزال تثير ردود أفعال متباينة ومتضاربة. ولو كان الأمر متوقفا على بعض مواقفه وآرائه لكان وضعا طبيعيا، ولكن المطلع على الدراسات المتعلقة بفكره، يجد في كثير من الأحيان أن التضارب يقع على مستوى التصنيف في حد ذاته. فقد قُذف في الشرق بالهرطقة، واتُهم في الغرب بالأصولية، كما عُد مستشرقا خطيرا. وإنتاجه وإن اختلف في بعض جوانبه عن أعمال المستشرقين إلا أنه يبقى سائرا في فلكها أو قل إنه تطوير لها. في المقابل هناك من ينظر إليه بوصفه من أقدر وأجرأ المفكرين المسلمين المعاصرين وأكثرهم إلماما بالتراثين العربي الإسلامي من جهة والغربي من جهة ثانية. ومن ثم تأتي الدعوة إلى الاحتفاء بأعماله وتيسير نشرها والعمل على إثرائها قصد استكشاف مضامينها والاستفادة منها».

بقي أن أشير بسرعة إلى الفصلين الأخيرين من الكتاب حول كيفية تطبيق أركون لمنهجية الألسنيات الحديثة على النصوص الإسلامية الكبرى وأولها نص القرآن الكريم. الأول هو للباحث الجزائري محمد بكاي بعنوان: «الاشتغال اللساني على النص القرآني عند محمد أركون». والثاني هو للباحث الجزائري أيضا الدكتور مصطفى كيحل الأستاذ بجامعة باجي مختار في عنابة. وهو بعنوان: «نحو ألسنية جديدة للغة الدينية عند محمد أركون». هكذا نلاحظ أن إخوتنا الجزائريين سيطروا على الكتاب تقريبا من أوله إلى آخره ما عدا بعض الاستثناءات. وسوف يذكر التاريخ أن الجزائر أنجبت أكبر مفكر في الإسلام منذ عدة قرون. ومن بين هذه الاستثناءات الرفيعة نذكر الفصل الذي كتبه الدكتور أحمد عبد الحليم عطية أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة. وقد جاء بعنوان: منهجية أركون التفكيكية. يقول الدكتور عطية وهو من قادة التنوير الفكري في مصر والعالم العربي ما يلي: «نريد أن نطرح للنقاش منهجية محمد أركون في دراسة العقل الإسلامي، والإشكاليات التي يتناولها والقضايا التي عرض لها والمفاهيم والمصطلحات التي استخدمها. وهي من السعة والتنوع بحيث تبدو أقرب إلى برنامج أو برامج للبحث العلمي تحتاج إلى فريق أو فرق من الباحثين يضطلعون بإنجازه. ويمكن القول إن أركون يستخدم منهجية التفكيك التي استمدها من جاك دريدا وفلاسفة ما بعد الحداثة والتي أثارت انتقاد الباحثين والمفكرين العرب لعمل أركون. ومحور عمله كما يخبرنا هو تفكيك مفهوم العقل الإسلامي».

أخيرا لا بد من الإشارة إلى المقابلة الهامة التي أجراها الأستاذ محمد أحمد البنكي وكيل وزارة الثقافة والإعلام في البحرين مع محمد أركون عندما كان حيا. وهي تعبر كل التعبير عن فكر أركون وتوجهاته العميقة حتى في عنوانها: «عدو العقل والدين والإيمان هو: الأيديولوجيا». لا أستطيع أن أتوسع أكثر في عرض تفاصيل هذه المقابلة ولكن أترك متعة ذلك للقارئ لكي يكتشفها بنفسه. ولا ينبغي أن أنسى أيضا أنه كان لي شرف المساهمة في الكتاب من خلال تأليف الفصل الأول تحت عنوان: أركون وإشكالية التنوير.