مجلة «التاريخ»: من أين تأتي الثورات العربية؟

TT

تناول العدد الجديد من مجلة «التاريخ» الشهرية الثورات العربية بروح أكاديمية متأنية غطت التحول العربي التاريخي الجديد بكل جوانبه ومعانيه الممكنة. وتضمن فهرس العدد خطة منهجية عالجت في أربعة أبواب فترة النهضة العربية الثورية والتحررية الأولى في القرن التاسع عشر أو ما اصطلح على تسميته «العهد الليبرالي» - الذي يبعث من جديد من خلال الثورات العربية الجارية كما جاء في المقدمة - وخروجها من رحم انتكاسات قادة قوميين وعلمانيين تعسفيين اغتصبوا الاستقلال الوطني على حد تعبير الزعيم الجزائري الراحل فرحات عباس، وأخيرا عوامل انفجار شرارة الثورات العربية ورسمها لجغرافيا سياسية عربية غير مسبوقة. وجاء في التمهيد أن الثورات العربية كذبت مقولات الاستثناء العربي المرادفة للحكم التسلطي الأصلح والأجدى في مجتمعات غير مهيأة للديمقراطية وللديكتاتورية الأنجع كأسلوب نظام يقي المجتمع من الخطر الإسلامي المزعوم وللحياة السياسية المدنية الغائبة في العالم العربي والإسلامي. وخلافا لكل هذه الأفكار المسبقة فإن «الثورات العربية الزاحفة ليست الأولى من نوعها في تاريخ العرب والمسلمين وتعبر عن إرادة استئناف تاريخ التعددية السياسية والمطالبة بالحرية والكرامة التي نسيها أو تناساها ضعاف الذاكرة ومفكرو القراءات الانتقائية غير البريئة حسب هنري لورنس» صاحب افتتاحية المجلة التي جاء فيها أن «الثورات العربية متأتية من تاريخ التجربة الثورية والتحررية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. الثورات العربية تعيد إحياء إرث سياسي تحرري منسي شهدت عليه الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر في نظر الكاتب فرنسوا جورجو، وكما يفعل اليوم مثقفون وشبان يرفضون طغيان أنظمة الاستبداد - قام الكاتب ناميك كمال 1840 - 1888 - ورفقاء دربه من الشبان الثوريين بمناهضة التسلط العثماني قبل مشاركته في صياغة دستور الحرية والديمقراطية - 1876 - والتوفيق بين الإسلام والتنوير، والروح التحررية المنسية هي نفسها التي عرفتها مصر الثورية عام 1881 وعام 1919 حسب جوليا لوازو - «كما أن الرياح السياسية الثورية والإصلاحية التي هبت في العالم العربي والإسلامي في القرن التاسع عشر وكانت وراء الدستور التونسي الذي عرف النور عام 1861 حسب محمد والدي وغيزلان ألون هي التي تهب اليوم في نفس المنطقة الجغرافية لفرض مناخ الحرية والتعددية السياسية بشكل تاريخي غير مسبوق. وقال الباحث حميد بوز أرسلان في حديثه عن دور وثقل الإسلام باعتباره مرجعية مركزية في تاريخ الحركة السياسية العربية: «إن ثورات اليوم تؤكد من جديد وتعمق حتمية استمرار هذا المعطى في ظل انفتاح عقائدي على طيوف دينية وسياسية أخرى تسلم بوجود قوى إسلامية. لكنها ترفض تسييس الدين»، كما أشار إلى ذلك جيل كيبال وأوليفييه روا وجان بيار فيليو عند تناولهم الإخوان المسلمين والإسلاميين الجهاديين «الذين فقدوا بريقهم الظرفي بفعل معطيات ثورات عربية مشرعة على كل المؤمنين بالحرية والرأي والرأي الآخر باسم أفكار غير دينية بالضرورة». وتوقف إسماعيل سراج الدين في حديثه مع المفكر محمد شرفي وجان نوال جانيني عند تجارب العلمنة السلسة في تونس والتنوير في مصر. في فصلي «أحلام» و«طرق حكم ما بعد الاستقلال الوطني»، عالج عبد الحميد لرقش وتوفيق أكليمندوس وألان ديكوف وجان أيف مواسرون تجارب التسلط القومي والعلماني والقبلي من خلال رموزه غير الديمقراطيين؛ ناصر وبورقيبة والقذافي والسادات الذي ثور على طريقته الوضع العربي بمبادرة السلام مع إسرائيل كما حلل المؤرخ بنيامين سطورا فشل الشيوعيين العرب. أخيرا، اختتمت المجلة رحلتها الفكرية الرصينة بأقلام يوسف كرباج وآن ماري مولان وإيف غونزاليس وبرنار روجييه ونورا بن قوريش وعالجوا كلهم عوامل انفجار الشارع العربي؛ الضغط الديموغرافي والبطالة والقهر السياسي والفساد والفشل الاقتصادي ودور الإنترنت في اتساع شرارة الثورات الصانعة لجغرافيا سياسية عربية غير مسبوقة. ولم يتردد روجييه في محصلة مقاله الأخير عن آفاق الوضع العربي التاريخي الجديد في التأكيد على أن «الأجندة الديمقراطية ما زالت هشة ومعلقة في كل من تونس ومصر وليبيا وأن شبح الحرب الأهلية بدأ يرتسم في اليمن وسوريا في حين لا تعرف آفاق الاستفتاء عن مشروع ملكية دستورية في المغرب والانفتاح المتواضع للسلطة الجزائرية على معارضة مصرة على تغيير حقيقي».