«سوق كتاب الثورة».. عين على الحرية

كسرت حواجز «التابوهات» وانتعشت إصداراتها بعناوين جديدة

TT

طغت حكايات الثورة وتداعياتها وأسرارها، ومفارقات أعدائها من رموز وفلول النظام السابق، على سوق النشر في مصر. وأصبح لافتا اهتمام القارئ المصري بالعناوين التي تصب في إناء الثورة، بينما تراجعت أسهم منظومة الكتب التقليدية التي كانت سائدة في السابق.

وبات رائجا عناوين من مثل: «سقوط النظام» و«فساد رجال الرئيس» و«هؤلاء سرقوا مصر» و«التعذيب في سجون مصر» و«الرئيس البديل»، وغيرها من الكتب التي كانت تدخل في باب المحظورات، أو الممنوع الحديث فيها على صفحات الجرائد أو وسائل الإعلام المحلية في مصر ما قبل الثورة، وكان مقص الرقيب يقف لها بالمرصاد، ولكن بمجرد سقوط الرقيب ونظامه تحول المحظور لمباح، وتحدث الجميع عن فساد النظام السابق، وتحول ميدان التحرير، مسرح عمليات الثورة بقلب القاهرة، إلى مقوم سردي وجمالي في الكثير من كتب اليوميات والروايات، وتحولت سوق الكتاب في مصر فجأة من سوق ترضخ لمطالب النظام الحاكم إلى سوق تعلق فيها المشانق لنفس النظام وأركان حكمه الذين زخرت الكتب ولعقود طويلة بأمجادهم وحكمتهم.

ولم تكد تمر الـ18 يوما التي أغلقت فيها مكتبات وأكشاك بيع الكتب في وسط البلد وفي ميدان التحرير وميدان طلعت حرب بسبب مظاهرات الثورة، حتى عادت هذه الأكشاك والمكتبات بحلة جديدة وعناوين ومواضيع لم تكن تحلم في يوم أنها ستعرضها على جمهور القراء، وامتلأت الأرصفة بالكتابات، التي كتبها سواء مجموعة من الكتاب الشباب أو الكتاب المعروفين، التي تتحدث عن سقوط الطاغية وأيام الثورة، وأخرى توثق لجرائم وفساد ورجالات وأجهزة النظام السابق، إضافة إلى كتب تراجع أوراق التاريخ وتعيد النظر في مسلمات أحداث منع الناس في الحديث عنها سابقا.

أصحاب المكتبات ودور النشر، الناقمون على الثورة بسبب إلغائها لفعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، لم يتوقعوا أن تزدهر مكتباتهم فجأة بمثل هذه الكتب بعد نجاح الثورة، فامتلأت أرفف مكتباتهم بإصدارات توثق لمشاهد عن الثورة والأوضاع التي فجرتها في الشارع المصري، ومستقبل مصر في أفق جديد.

وأتاح سقوط نظام مبارك من ناحية أخرى الفرصة أمام عدد من الكتّاب لمراجعة التاريخ، خاصة حادثة اغتيال الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1981 والتي صدر بشأنها عدة كتب، حاولت الحديث عن مدى تورط عناصر من النظام السابق نفسه في حادث الاغتيال، كما كشفت بعض الكتب عن محاولات اغتيال أخرى تعرض لها السادات منذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل قبل عامين من حادثة اغتياله.

ولم تكن هذه العناوين هي فقط الموجودة على ساحة سوق النشر في مصر بعد الثورة، ولكن كتب السير الذاتية كان لها نصيب من احتفالات سوق النشر بثورة «25 يناير» المصرية، خاصة مذكرات الفريق الراحل سعد الدين الشاذلي، قائد العبور في حرب أكتوبر 1973، الذي اعتبر في الفترة الأخيرة من أكثر الكتب رواجا، خاصة أن إعادة نشر هذه المذكرات، تزامنت وليلة تنحي مبارك من منصبه والتي جاءت مع وفاة الفريق الشاذلي في اليوم نفسه، وزاد من رواج هذه المذكرات منعها من الطبع أو التوزيع في مصر لفترة فاقت الـ30 سنة، من قبل الرئيس السادات وبعده من قبل مبارك، وساهمت القيمة التاريخية للوثاق والصور التي حوتها مذكرات الشاذلي في رفع مبيعاتها في مصر، الحال نفسه مع كتاب مذكرات المشير محمد عبد الغني الجمسي، رئيس أركان حرب القوات المصرية ووزير الحربية المصري الأسبق، عن حرب أكتوبر.

وعلى نحو خاص تجلت روح سوق «كتاب الثورة» في تراجع عدد كبير من دور النشر عن التوجه للنخبة والتركيز عليها بشكل أساسي، في مقابل التوجه للشباب، كطاقة لها حيوية خاصة في منظومة السوق الجديدة. فحول عدد من دور النشر كتابات الشباب إلى إصدارات خاصة، وهي الكتابات التي ظهرت في مصر بعد الثورة على مواقع التواصل الاجتماعي مثل «فيس بوك» و«تويتر»، كما استثمرت دور النشر حكايات الشباب مع الثورة منذ الشرارة الأولى لانطلاقها على هذه المواقع الاجتماعية، وكان من أبرزها صفحات «كلنا خالد سعيد» وحركة شباب 6 أبريل وغيرها.

وتناولت كتابات أخرى في سوق النشر توثيقا لهتافات ونكات المصريين أثناء الثورة، وماذا ردد المصريون من عبارات، وما رفعوا من شعارات، وما سخروا به من عبارات، وكلها كانت محل اهتمام الكثير من الكتابات التي ألفها كتاب كبار وشباب ليس لهم أي باع في الكتابة ولكنهم فقط أرادوا أن يحكوا ويقصوا على غيرهم ممن لم يحضروا أو ممن لم يولدوا تجربة الثورة التي عاشوها هنا في ميدان التحرير.

وانتشرت بين المثقفين المصريين كتابات كانت استوحت إيقاعها من ميدان التحرير، وتسرد كيف عاش الثوار يومياتهم في مواجهة القمع والعنف إبان أحداث الثورة، وأخذت بعض الكتب من هذا النوع شكل الروايات والقصص السردية، ومثل «أيام وليالي التحرير» و«أيام الحرية في ميدان التحرير» و«الثوار في الميدان» و«يوميات الاعتصامات في التحرير».

وبعيدا عن المثقفين والكتّاب بدأ عدد من المصريين العاديين ممن لا يمتهنون الكتابة أو الأدب في كتابة تجاربهم الشخصية في الثورة وما حدث لهم ونشرها وعرضها على القراء، فكل من عاش تجربة الميدان أراد أن يعرضها على الناس لما أثارته داخله من مشاعر وطنية نبيلة ساعيا إلى تجميع ما مر به من تجارب وذكريات تحكي تاريخ الثورة من وجهة نظره هو وغيره من البسطاء، فيؤرخ هذا وذاك للثورة ولكن بالصورة التي رآها الناس وعاشوها في الميدان، ورحبت الكثير من المكتبات ودور النشر بأن تطبع كتبا تحكي تجارب ذاتية لمصريين بسطاء لما تتوقعه أن تحقق مثل هذه التجارب من انتشار ورواج داخل سوق الكتاب في مصر، خاصة أن الفكرة مبتكرة، ناهيك عن آلاف التدوينات الإلكترونية التي كتبها المدونون المصريون عن الثورة وينتظرون الفرصة لعرضها على القراء في شكل كتب مطبوعة.

ولم تتوقف الكتابات عند القشرة الخارجية للثورة وما حدث فيها وما تخللها من أحداث وتجارب، ولكن تطرقت الكثير من الكتابات إلى هموم وآلام الثورة والمسائل المهمة التي تفتقدها، مثل موضوع القيادة ومن يقود الثورة المصرية أم أنها ثورة بلا قائد، ومشكلة العلاقة بين الإسلاميين والليبراليين في مصر بعد الثورة، خاصة مع ظهور تيارات سلفية عدة بتوجهات مختلفة أثارت المخاوف على الحرية المدنية التي جاءت ثورة الشباب في مصر من أجل إقرارها ومستقبل هذا الصراع وهل يتحول لصراع ديني أم أنه سيظل صراعا في ميادين السياسة.

ولم تغب العلاقة بين الشرطة والشعب عن أذهان الكتاب ووجدت لها مكانا على أرفف المكتبات في سوق النشر بعد الثورة، حيث تناولت الكثير من الكتابات مسارات هذه العلاقة، بداية من قبل الثورة وقمع الشرطة للمواطنين ومعاملتهم معاملة سيئة داخل أقسام الشرطة، مرورا بأحداث الثورة المصرية وما حدث خلالها من صدامات بين الطرفين انتهت بانسحاب الشرطة في يوم «جمعة الغضب» الذي وافق 28 فبراير (شباط) الماضي التي أعقبها محاولات حثيثة لعودة العلاقة بين الشرطة والشعب لصورتها الطبيعية، وتناولت كتابات أخرى تاريخ تكون الأجهزة الأمنية المختلفة في مصر وأدوارها في حماية الأنظمة وليس المواطنين، والعنف الذي مارسته في بعض الفترات، وترصد كتابات أخرى أشكال العنف المتنوعة في علاقة الشعب بالشرطة.

ويقول رؤوف غاشم، المسؤول بمكتبة مدبولي الشهيرة بوسط العصمة القاهرة: «إن حركة النشر بعد الثورة شهدت رواجا كبيرا، وإن كثيرا من هذه الكتب لاقى إعجاب القراء وتباع نسب كبيرة منه». واستدرك غاشم قائلا «في المقابل تراجعت نسب مبيعات باقي الكتب التقليدية وانخفضت بنسب كبيرة مقارنة بنسب العام الماضي». ويرجع غاشم هذا التراجع إلى عدة أسباب يقول إن أهمها على الإطلاق هو اختفاء القارئ العربي من سوق الكتاب المصرية في أعاقب الثورة بسبب إلغاء معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي اعتبره غاشم أهم تجمع لدور النشر التي يمكنها المعرض من عرض أحدث إصداراتها على مختلف دور النشر العربية والأجنبية، ويتيح فرصة للقارئ العربي للتعرف على هذه الإصدارات وشراء ما يجده مفيدا مما كان يصب بفائدة على القارئ العربي وكان أيضا يساعد في انتعاش سوق الكتاب المصري.

وعلى الرغم من أن الكثير من معارض الكتاب التي أقامتها وزارة الثقافة المصرية داخل المناطق الشعبية أو بجوار سور الأزبكية الشهير أو تلك التي أقامها اتحاد الناشرين المصريين بالتعاون مع الهيئة العامة للكتاب، فإنها جميعا شهدت إقبالا ضعيفا من الجمهور، ولم تلب مطالب دور النشر المصرية أو تساعد في إنعاش سوق النشر بعد الثورة، ويظل مطلب إقامة معرض القاهرة الدولي للكتاب على رأس أولويات واهتمامات المكتبات ودور النشر المختلفة ليساعدها ربما في الترويج لما أصدرته من كتابات مختلفة.

ويقول يحيى هاشم، مدير دور نشر «شباب بوكس»، إن دار النشر التي يعمل بها تركز على إصدارات الشباب ونشره على الجمهور وهو توجه جيد، ولكنه يحتاج للدعم، وإن هناك الكثير من الكتابات عن الثورة التي شهدت إقبالا، ولكن معارض الكتاب جميعا التي تمت إقامتها إلى الآن لا تلبي مطالب دور النشر، خاصة دور النشر الصغيرة التي لا تستطيع أن تسوق إصداراتها بنفس القدرة التي تسوق بها دور النشر الكبيرة إصداراتها على مستوى العالم العربي، مطالبا المسؤولين بإعادة النظر في إقامة معرض القاهرة الدولي للكتاب مرة أخرى تعويضا وإنعاشا لسوق النشر المصرية، مشيرا إلى أن معارض الكتب تعتبر آلية مهمة لنشر القراءة، ولكن للأسف لا تعرف مصر سوى معرض سنوي واحد، ورغم وجود معارض أخرى بعد الثورة فإن الإعلان عنها غير كافٍ.

وعلى الرغم من أن هناك في مصر معارض ثابتة للكتاب تلك التي توجد في المكتبات الكبرى مثل معارض دار الكتب والهيئة العامة للكتاب ومكتبة الأسرة ومعارض المكتبات الخاصة مثل مكتبة مدبولي ودار الشروق ومكتبة ديوان وغيرها، فإن زائري هذه المعارض في العادة يكونون من فئة معينة، ولكن الإقبال الحقيقي يكون على المعارض الكبيرة والمفتوحة مثل معرض القاهرة الدولي لما له من سمعة طيبة بالإضافة إلى ما يعقد به من ندوات وأمسيات شعرية وما تقدمه مختلف المكتبات ودور النشر خلاله من تخفيضات كبيرة تشجع الكثيرين ممن لا يترددون بكثرة على دور النشر، على الشراء والقراءة.

ويرى أحمد حسين، زائر وجد داخل مكتبة الشروق بوسط العاصمة المصرية القاهرة لشراء أحد الكتب التي تتحدث عن «الإخوان المسلمين» قبل وبعد الثورة، أن الإقبال على القراءة لا يزال ضعيفا قبل وبعد الثورة، بسبب غلاء المعيشة وتدني المرتبات وظروف سوق العمل التي تستنزف الطاقة والوقت، وطالب الدولة بدعم الكتاب وتوفيره بأسعار رخيصة، ضمن مشاريع قومية.

أما في سور الأزبكية، فيقول أسامة منصور، أحد بائعي الكتب بالسور، بعد الثورة، زاد إقبال الشباب على قراءة الكتب التي تدور حول السياسة والشخصيات الثورية، ولكن هذا الإقبال لم يكن بالإقبال الكبير، ويرجع أسامة أسباب ذلك إلى الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تمر بها البلاد في الوقت الحالي، وأن رب الأسرة سيشتري لأولاده ملابس أو طعاما بدلا من شراء مجموعة من الكتب.

ويوضح مصطفى سعد، أحد رواد سور الأزبكية وهواة جمع وقراءة الكتب القديمة، أن التاريخ يعيد نفسه وما نراه في مصر حاليا حدث في أكثر من بلد في العالم، وعلينا قبل أن نتحدث عن الثورة في حاضرها أن نراجع ونفهم التاريخ ونعرف ما آلت إليه الثورات التي سبقتنا وطرق الوصول للديمقراطية. ويضيف مصطفى يجب أن يقرأ شباب الثورة التاريخ جيدا حتى يستطيعوا أن يحددوا مسار ثورتهم وأن يعرفوا المخاطر التي تحيط بها وما هي الطرق التي يجب أن تسلكها الثورة حتى ترسو السفينة على بر الأمان، ولا تنحرف بنا أو تغرق. ويتابع مصطفى: «ثورة 25 يناير جعلت الشباب شغوفا بفهم الأمور والمصطلحات السياسية المحيطة به، وأن هذه الفئة الآن أصبحت مقبلة على القراءة أكثر من ذي قبل لأنهم في النهاية من سيقود دفة المستقبل ويجب عليهم القراءة والمعرفة».