فرنسا تعرض قطعا أثرية مستنسخة تخدع السياح

بغرض حماية التراث الفني من الاندثار

TT

لا بد أن تنتبه بعد اليوم إلى القطع الأثرية التي تعرض عليك في المتاحف والأماكن العامة، وحتى في أكبر المتاحف شهرة ومصداقية. فتبديل القطع الأصلية بأخرى مقلدة، بات من البديهيات للمحافظة على التراث. وبعد أن تم تقليد حقائب اليد، والمجوهرات والعطور، جاء دور القطع الأثرية. لماذا التقليد؟ وما فائدته؟ تحقيق يلقي الضوء على ظاهرة ليست جديدة تماما، لكن المتفرج آخر من يعلم.

إن كنت ممن توقفوا بالقرب من تماثيل «أحصنة مارلي» التي تزين ساحة «كونكورد» وأبديت إعجابك بمهارة فنها كما يفعل سنويا ملايين السياح، فاعلم أن هذه التحف الجميلة ليست الأصلية، وأنها ليست تلك التي صمّمها النحّات المعروف غيوم كوستو للملك لويس الخامس عشر ما بين عامي 1743 و1745 لتزيين حديقة قصره بمارلي، بل هي نسخة طبق الأصل مصنوعة من الإسمنت المسّلح - أهداها رجل الأعمال المعروف مارتان بويغ لوزارة الثقافة عام 1984 لحماية التحف الأصلية من الانشقاق الذي بدأ يصيبها جراء وقع الدبابات التي تمر في هذا الشارع احتفالا بعيد النصر. أما النسخة الأصلية فهي محفوظة في متحف اللّوفر، وعلى بعد أمتار منها فقط في أقدم حديقة ملكية بفرنسا (لي جردان دي تويلوري) تقبع نسخة طبق الأصل لعمل آخر، هي ثمرة إبداع الفنان الفرنسي أنتوان كوزيفو. تمثالان رخاميان بعلو 3 أمتار عبارة عن حصانين مجنّحين يمتطيهما فارسان يمثلان إله الثروة وإله الشهرة عند قدماء اليونان، كانا هدية الفنان كوزيفو للملك لويس الرابع عشر بمناسبة انتصاره في حروبه مع جيرانه. حتى المعالم الأثرية لم تسلم هي الأخرى من هذه الظاهرة، مغارة ليسكو التي تسمى أيضا بـ«فرساي القرون البدائية»، لما تحويه جدرانها من رسوم بدائية قيّمة وجدت منذ ثمانية عشر ألف سنة خلت كدليل حّي على أقدم أشكال الفنون، هي الأخرى نسخة طبق الأصل. وقد تّم افتتاح نسخة بديلة لهذا المعلم الثقافي السياحي الذي يستقبل سنويًا ما يناهز 300 ألف زائر عام 1983 بعد إغلاق المغارة الأصلية لتعرضها للضّرر جراّء زيارات السيّاح المتّكررة. الأدهى هو أن الزّوار الذين يقصدونها يعتقدون أنهم يتمتعون بأقدم الرسوم التي صمّمتها أياد بشرية ولا يعلمون أن عمرها لا يتعدى البضعة عقود فقط.

والأمثلة لا تتوقف عند هذا الحدّ، فكثير من الّسياح الذين زاروا عاصمة الأنوار وشاهدوا معالمها الفنية الجميلة وتراثها المعماري العتيق قد يجهلون أن الكثير من هذه الكنوز التاريخية التي تمتعوا بجمالها والتقطوا لها الصور والتسجيلات ليست الأصلية بل هي نسخ أنجزت لتحل محل التحف العتيقة التي تحفظ في أماكن آمنة لحمايتها من الضرر والاندثار. نسبة كبيرة منها كانت موجودة داخل القصور والدور القديمة والكنائس. المسؤول عن حفظ التراث الديني والمدني لمدينة باريس إيزولد بلوشغدي يردّ أسباب هذه الظاهرة للحقبة التاريخية التي مّرت بها فرنسا فيقول: «بعض العناصر من الثوار والفقراء الذين كانوا ساخطين على البرجوازية ورجال الدين والنبلاء بسبب سوء أحوالهم الاجتماعية، انتقموا منهم عشية ثورة 1789 من خلال اقتحام القصور وأماكن العبادة وإتلاف بعض محتوياتها من لوحات وتماثيل. الضرر الذي لحق بهذه التحف جعلها شديدة الهشّاشة لا تحتمل حتى مجرد التعرض للضوء».

فتماثيل القديسين المصنوعة من الحجر الأحمر والتي تزين مدخل كنيسة مدينة رامس ليست إلا نسخة، وكذا الحال بالنسبة لمنحوتة «العبيد» أشهر أعمال الفنان الإيطالي المعروف مايكل أنجلو والتي يمكن مشاهدتها داخل قصر إكوان ضاحية باريس والتي هي في الواقع نسخة صمّمت بداية القرن العشرين. لكن بعيدا عن العامل التاريخي، يعتبر الّلجوء للنسخ البديلة عن الأصل ظاهرة معمولا بها في كثير من المؤسسات الثقافية. وهو القرار الذي قد يصبح مفروضا على أمناء المتاحف أول المسؤولين عن حفظ الممتلكات الأثرية سواء لتمكين زوار المتاحف من التمتع بالقطع (البديلة) في انتظار عمليات ترميم وصيانة القطع (الأصلية) أو لاقتناعهم بأن مجرد عرض بعض القطع قد يعرضّها لخطر التلف والاندثار.

وأقلّ ما يقال هو أن الأخطار التي تحدق بمختلف أنواع القطع الفنية والأثرية ليست بالهيّنة، فرغم صمود جزء كبير منها أمام بطش السنين والعقود فإن ذلك لا يعني أنها باقية إلى الأبد. تقرير حديث للبرلمان الفرنسي بعنوان «إدارة المتاحف الفرنسية لمجموعاتها الأثرية» كشف عن اندثار ما بين 500 إلى 1000 قطعة تعرضت لضرر كبير بسبب ظروف التخزين، أساسا كما يشرح كاتب التقرير النائب فيليب غيشرت و«بسبب وضعية المخازن التي تُحفظ فيها كثير من المجموعات ووصفت بـ(السيئة)». التقرير استثنى منها 5 متاحف فقط، اعتبر أنها تحافظ على مجموعاتها في ظروف جيدة، لكنه دقّ ناقوس الخطر لـ14 من هذه المؤسسات المتحفية التي تتعرض مجموعاتها لخطر التلف بسبب ظروف التخزين السيئة سواء بسبب تكدس التحف وضيق المكان أو نسبة الرطوبة العالية، أو وجود كميات كبيرة من الغبار والفطريات.

بعض التحف الأثرية قد تتعرض أيضا لغزو حشرات صغيرة تأتي على المواد الأولّية التي تصنع منها هذه التحف كالخشب والجصّ والورق والقماش. المقتنيات الصغيرة التي كان متحف الفنون الجميلة لمدينة ديغون يملكها والتي يعود تاريخها للقرن التاسع عشر تعرضت للتّلف كليا، حسب شهادة مديره، وهذا بعد تعرضه لهجوم حشرات صغيرة تدعى إكسيلوفاج حفرت التماثيل المصنوعة من مادة الجّص محدثة فيها ثقوبا كثيرة. وهو كذلك حال قصر فونتان بلو الذي اضطر مسؤولوه إلى ترحيل 200 قطعة أثرية خارج المخازن بعد اكتشافهم لنوع من الفطريات يأكل خشب السقف ويتسبب في إحداث رطوبة شديدة. على أن أكثر القطع تعرضًا للتلف هي تلك التي توجد في الهواء الطلق بسبب تأثير الظروف المناخية السيئة والتلوث وأشعة الشمس الشديدة والهواء الملوث والغازات السامة. ظاهرة استبدال الأصل بالمقلد تكاد تكون عامة في ما يخص بعض القطع الشديدة الهشاشة، كالمخطوطات الورقية والرسائل والكتب النادرة، وما تعرضه المكتبات والمتاحف المختصة في هذه القطع على جمهور الزائرين والباحثين هو في الغالب نسخ طبق الأصل. أما الأصل فهو محفوظ في المركز الوطني للأرشيف الذي لا يفتح أبوابه للزوار إلا مرة واحدة في العام بمناسبة أيام التراث في شهر سبتمبر (أيلول) من كل سنة. لهذا السبب تكتفي مكتبة كوندي الفرنسية بعرض نسخة طبق الأصل لأجمل ما أٌلف في القرون الوسطى وهو كتاب: «الساعات السعيدة للدوق بري» للإخوة دولمبور، من تصميم شركة إيطالية مختصة في استنساخ المؤلفات القديمة، بينما تبقى الطبعة الأصلية في مكتبة شانتيي لا تبرحها على الإطلاق. وهو الشرط الأساسي - حسب أمين المكتبة أوليفي دوبوسك - للحفاظ على ما يعتبر اليوم كشهادة فريدة من نوعها. لا سيما وأن الورق، مادة تتعرض للتلف بسرعة ليس فقط جرّاء لمس الأيدي بل أيضا بمجرد تعرضها للضوء الطبيعي أو الاصطناعي وحتى الأكسجين بحسب نتائج دراسة أخيرة لباحثين من جامعة أنفرس البلجيكية. بعض الخبراء ذهب لأبعد من ذلك فالكاتب الإيطالي المعروف أمبرتو إيكو صاحب رائعة «اسم الوردة» صرّح لصحيفة «لوفيغارو» بتاريخ أكتوبر (تشرين الأول) 2009: «جميع الخبراء يعلمون أن الرائحة التي تنبعث من أفواه زّوار المتاحف وأضواء كاميراتهم هي أكبر الأخطار التي تحّدق بالتحف الفنية واللّوحات.. وبأن معظم المنحوتات الرومانية القديمة المعروضة اليوم في إيطاليا هي النّسخ وليست الأصل حتى أكثرها شهرة كمنحوتة مايكل أنجلو الموجودة بالقصر البلدي بمدينة فلورنسا. فلماذا لا يتم تعميم استعمال النسخ في كل المتاحف. إذ إن التكنولوجيا الجديدة أصبحت من التطور بحيث تمكننا من استبدال الموناليزا بنسخة جيدة دون أن يشعر بذلك أحسن خبراء العالم..».

أمبرتو إيكو الذي يدعو المتاحف لتعميم استعمال النسخ الفنية المسماة «فاك سميلي» قد يجهل أن كثيرا منها قد شرع في ذلك فعلا بقصد أو عن دون قصد. فالصحافة لا تخلو من حكايات التّحف المشبوهة، كبعض لوحات فان غوخ وبيكاسو التي لا يزال الشكّ في مصدرها قائما لغاية اليوم.

ولكن أن تكون التحف الفنية تقليدًا لا يمنع عنها صفة الجمال والذوق الرفيع. فالتماثيل البرونزية التي تزّين باحة قصّر فونتان بلو ليست إلا نسخة ثانية صُمّمت للملك فرانسوا الأول لكنها فاقت في جمالها وفنّها حسب شهادة الخبّراء القطع الأصّلية. أوليفيه بونفي، أستاذ تاريخ الفن في جامعة إكس أون بروفانس يذهب لأبعد من ذلك حين يضيف: «مثل هذه القطع نجحت في تخطي حدود التقليد المبتذل. نحن أمام فن حقيقي يثير في نفوسنا (نحن الخبراء والباحثين) أحاسيس قوية لم نعهدها في القطع الأخرى..».

والمعروف أن استنساخ لوحات الرسامين الكبار نشاط معترف به تحكمه شروط وقوانين معينة، أصبحت تصرح به متاحف كبيرة كالّلوفر وأورسيه منذ مدّة لدوافع تربوية فنية تهم طلبة الفنون الجميلة والباحثين. حيث يقصد دوريا مجموعة من الفنانين المحترفين هذين المتحفين لرسم لوحات فنية وتصميم منحوتات قديمة في إطار يتوافق مع بنود القانون الفرنسي الذي يمنع المتاجرة بالتحف الفنية أو تقليد التوقيع الأصلي أو مقاييس القطع الأصلية.

بعد العطور والمجوهرات هل آن أوان التحف الفنية المغشوشة؟ أمناء المتاحف ومديرو المكتبات والمعالم الأثرية الذين يُقررون استبدال القطع الأصلية بأخرى بديلة لحفظها من الضّرر، قد يفاجئوننا يوما ما بأسرار جديدة لنكتشف بأن جلّ ما تعرضه المؤسسات المتحفية لجمهور الزوار اليوم، هو في الواقع.. تقليد في تقليد..