أسرار الابتكار الصيني

سلسلة من المحاضرات ألقاها مختصون في الميادين الصناعية والتجارية والتكنولوجية

TT

هو الكتاب السابع من سلسلة الإصدار الشهري «معارف» الصادرة عن مركز الفكر العربي للبحوث والدراسات التابع لمؤسّسة الفكر العربي في بيروت. وهو يشكّل الكتاب الثالث عن الصين بعد كتابي «طريق الصين: النظرة العلمية إلى التنمية» و«ماذا جرى في الصين: أحلام مائة صيني»، وذلك تحت مظلّة مشاريع الترجمة التي ترعاها مؤسّسة الفكر العربي، والتي لا تقتصر على الغرب فقط، بل تتطلّع نحو الشرق (الصين والهند وماليزيا وغيرها) لترجمة أهم مؤلفاته وأحدثها في مجالات الفكر والتنمية والتعليم والتكنولوجيا ومختلف التجارب الناجحة.

يأتي كتاب «الابتكار طريقنا إلى الفوز» ليشكّل إضافة على الكتاب الأول، أي «طريق الصين: النظرة العلمية إلى التنمية»، الذي أطلع القارئ العربي على تجربة الصين كدولة استطاعت في أقلّ من نصف قرن أن تتحوّل من بلد متخلّف اقتصاديا إلى بلد ينافس القوى الاقتصادية الكبرى في العالم، بالاستناد إلى «النظرة العلمية» إلى التنمية. «الابتكار طريقنا إلى الفوز» يشرح مفهوم الابتكار الصيني وماهيّته، لكونه عملية متواصلة تحتاج إلى مثابرة ولكونه يشكّل أيضا أساس التنمية المستدامة للشركة في زمن العولمة الاقتصاديّة، بعد أن قدّمت سياسة الإصلاح والانفتاح الصينيّة تذاكر للشركات لتشترك في المنافسة العالميّة، وبعد أن تبدّى أن صمود الشركات الصينيّة بين شركات العالم يعتمد على امتلاكها قوّة محاربة للمنافسة بواسطة الابتكار التكنولوجي والتجاري الذي لا يعتمد تحقيقه بشكل متواصل على تمويل الشركات العديدة في البحث والتطوير بل إلى جهود المجتمع كلّه، بمعنى أن «دفع الابتكار مسؤولية كلّ فرد في المجتمع».

الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضرات ألقاها مختصّون في موضوع الابتكار في الميادين الصناعيّة والتجارية والتكنولوجيّة، جمعها نائب الرئيس العالمي لـ«مايكروسوفت» الصيني تشانغ يا تشين ورئيس كلية قوانغهوا في جامعة بكين الصيني تشانغ وي ينغ.

تجمع هذه المحاضرات على أن الابتكار، عدا عن كونه عملية متواصلة تحتاج إلى مثابرة، هو مسؤولية كلّ فرد، وأنه أيضا من أعمال الشركة وليس من أعمال فرد، أي ليس نتاج إلهام بعض العقول الذكيّة، بل نتيجة عمل نظامي وتقليدي. فللابتكار بحسب ما جاء في عدد من المحاضرات معانٍ كثيرة. في عام 1932 طُرحت نظرية ابتكار بسيطة عبر إدخال مؤشر إنتاج جديد في نظام الاقتصاد لتغيير منحنى عناصر الإنتاج أو الكلفة. وحدّد العالم الشهير فريمان معنى الابتكار من زاوية علم الاقتصاد قائلا إن الابتكار التكنولوجي ليس ذا بعد واحد، بل يشمل السوق والإدارة والثقافة وغيرها من الابتكارات الأخرى غير التكنولوجية. لكن الابتكار وسيلة وليس هدفا ويمكنه أن يعزّز التنوّع والاختلاف للمنتجات وللشركات، ممّا يساعد القطاع على خلق السوق في النهاية، ويساعد الشركات على كسب مستخدمي منتجاتها. فلم تكن كلّ الشركات الصينيّة التي سجلت في بورصة ناسداك مثلا، من شركات الابتكار التكنولوجي، كان معظمها من شركات ابتكار الأسلوب التجاري، أو الابتكار في الإدارة والعملية الثقافيّة.

وتحت عنوان «الابتكار طريقنا للنجاح في الحياة» يركّز تشانغ يا تشين على أسلوب الابتكار وآليته وثقافته من خلال شركات العلوم والتكنولوجيا العالية (صناعة التكنولوجيا المعلوماتيّة بشكل خاص) وعلى المختصّين الذين ترغب الشركات في قبولهم، وخصوصا الأكفاء في قيادة الأعمال. فيقول: «عندما كنت أعمل في مايكروسوفت، غالبا ما كان بعض القياديّين يزورون الشركة. وكان بعضهم يرغب في زيارة مجموعتنا للبحث والتطوير في بكين، بينما كان البعض الآخر يرغب في زيارة مقرّ مايكروسوفت العام في سياتل. كنتُ أقول لهم: (من الطبيعي أن نرحب بزيارتكم، لكن هناك احتمالا كبيرا بأنكم ستحبطون، لأنكم لن تجدوا في مايكروسوفت معملا كبيرا ولا خط إنتاج وبنايات كثيرة، ستشاهدون فقط العقول البشرية والكمبيوتر)». ثمة عنصران مهمّان في شركات التكنولوجيا المعلوماتية المحدودة في الممتلكات المرئيّة، وهما: IQ(الموارد العقليّة، أي المتخصّصون الأذكياء) وIp (ثمار الابتكار، أو حقوق الملكية الفكرية). وعندما يمتلك الإنسان الاثنين فهذا يعني امتلاكه مفتاحا ذهبيا يفتح به مستقبل التكنولوجيا المعلوماتيّة والابتكار العلمي والتكنولوجي.

الابتكار بالمفهوم الصيني يعني أن تسلك البلاد طريق «صُنِع بالعقل الصيني» بعد أن أصبح الابتكار سياسة دولة في الصين. فعلى الرغم من أن الأزمة المالية تؤثّر على الاقتصاد العالمي تأثيرا كبيرا، فإن الاقتصاد الصيني لا يزال ينمو، الأمر الذي يقدّم مجالا واسعا للابتكار، ليس في مجال العلوم والتكنولوجيا وحده. فالصين تصنع حاليا 60% من مجموع إطارات العجلات ونحو 70% من الأحذية في العالم. وإذا أمكن لكلّ رجال الأعمال الصينيّين أن يبذلوا جهودا كبيرة في الإدارة وقنوات المبيعات والتكنولوجيا لتخفيض كلفة صنع الإطارات والأحذية وكميتها في المستودعات بصورة فعالة، فذلك يعَد ابتكارا أيضا. ويتجلّى بعض عناصر الابتكار الصيني بكميات براءة الاختراع والاستثمار. لأن الصين تميّزت بسرعة زيادة براءات الاختراع فيها، فكانت الأعلى في العالم في السنوات العديدة الماضية، محتلّة المركز الثالث عالميا ومتجاوزة ألمانيا، وإن بقيت دون الولايات المتّحدة الأميركية واليابان، كما ازداد الاستثمار الصيني في البحث والتطوير التكنولوجي في السنوات الأخيرة، ليحتلّ حاليا بين 14 و15% من إجمالي الناتج الوطني تقريبا. وتعادل زيادة الاستثمار الصيني في البحث والتطوير 3 أضعاف الاستثمار الأميركي. وهذا الاستثمار ليس حكوميّا فقط، بل تسهم فيه الشركات أيضا، سواء الشركات المحلية أم الشركات العابرة للدول، مع الإشارة إلى أن الصين خصّصت موارد كبيرة في البحث والتطوير المحلّي وتربية المختصين فيها. وبالتالي فإن الشركات التي تمّ تسجيلها في الصين، سواء أكانت مملوكة للدولة أم أجنبيّة، هي جميعها من الشركات الصينيّة.

هذا الكتاب الغني بمعطياته، يفيض بتجارب الابتكار على الطريقة الصينيّة، والتي تتميّز قبل أي شيء آخر بأنها حرصت على القيم الثقافيّة والحضاريّة الصينيّة بقدر حرصها على الانفتاح العالمي، وبالتالي انصهار الخاص بالعام، والفردي بالاجتماعي، على قاعدة حشد ابتكارات الناس أفرادا وجماعات ومؤسّسات.