«الربيع العربي» يستنهض الروح الثورية الأميركية

«احتلال وول ستريت» ينتج أدبا

TT

أميركا أم الثورات.. انتفضت كلما كان هناك داع لذلك وغير أهلها واقعهم بالغضب والاحتجاج والتظاهر تكرارا قبل أن يصل بهم الأمر إلى ثورتهم الأخيرة بـ«احتلال وول ستريت».. لكنها المرة الأولى التي يقول فيها الأميركيون إن العرب كانوا مصدر إلهامهم.. حيث غنوا لتونس وتذكروا خلع الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك ليتحلوا بالأمل..

بحلول الأسبوع الماضي، كان قد مضى شهر على بداية «أوكيوباي وول ستريت» أو (احتلال وول ستريت). هذه إشارة إلى شارع المال في نيويورك، والشعار هو شعار المظاهرات التي تحتج على سيطرة البنوك والشركات العملاقة على الاقتصاد الأميركي، والعالمي، وتأثير ذلك على وضع المواطن العادي، وعلى تحميلهم مسؤولية الأزمة الاقتصادية الحالية.

خلال الشهر، انتقلت مظاهرات «أوكيوباي»، (احتلال) إلى العاصمة واشنطن ومدن أخرى كبيرة. ومثل كل مظاهرات تنتشر، صارت لها شعارات، ولافتات، وتصريحات، ثم قصائد، وأغان، وكتابات في الصحف وفي الإنترنت.

وفي واشنطن، يوم السبت الماضي، في «فريدوم بلازا»، (ميدان الحرية) على شارع بنسلفانيا، بين البيت الأبيض ومبنى الكونغرس، غنت فرقة «إيما ريفوليوشن»، (ثورة إيما) أغنية «أوكيوباي يو إس إيه»، (احتلال الولايات المتحدة)، ومنها:

«مرحبا بكم في الاحتلال الأميركي

للفوز بقلوب وعقول

للدفاع عن البشرية كلها

قولوا للمصارف والشركات

نحن هنا لاحتلال الولايات المتحدة

لنقابات العمال وحقهم في تنظيم أنفسهم

للمهاجرين، للمشردين، للطلبة،

لقد كافحنا لأمد طويل

يا واحد في المائة في السلطة

قابلوا 99 في المائة»

وقالت صحيفة «واشنطن بوست»: «بالإضافة إلى طمع الشركات والبنوك في وول ستريت، هناك عوامل أخرى شجعت المتظاهرين، وأثرت أغانيهم وقصائدهم وآدابهم. هناك الربيع العربي الذي بدأ مع بداية السنة، ثم حملة الحكومة الأميركية على المهاجرين غير القانونيين، ثم غضب وخيبة أمل في الرئيس باراك أوباما لأنه نقض كثيرا من الوعود التي فاز على أساسها».

وقالت واحدة من أعضاء فرقة «إيما»: «الربيع العربي دفع، حقا، إلى الأمام كل شيء. أعتقد أن الربيع العربي هو السبب الرئيسي وراء حدث ماديسون (عاصمة ولاية وسكونسون، عندما أعلن حاكم الولاية الجمهوري المتطرف الحرب على نقابات العمال، واحتل عمال وطلاب وغيرهم مبنى رئاسة الولاية، ومبنى كونغرس الولاية، ومكتب الحاكم)».

ويوم السبت الماضي في ميدان «فريدوم» في قلب واشنطن، غنى ديفيد روفكس أغنية: «أوكيوباي وول ستريت»، (احتلوا وول ستريت). وغنى أغنيتين أخريين:

أولا: أغنية «تونس 2000»، وبدايتها:

«كان لمحمد كشك، وكانت تعتمد عليه عائلته

منذ وفاة والده في موقع للبناء

كان واحدا من ستة أشقاء

يعمل في شوارع المدينة لتوفير الطعام للجميع

ورفض مجاملة رجال شرطة بدفع رشى لهم..

ثانيا: أغنية تنتقد الرئيس أوباما، واسمها «أربع سنوات أخرى»، وفيها:

يمكنك أن تقول إنك رجل سلام

يمكنك أن تتحدث وكأنك تعرف كل شيء

قلت في الكونغرس إنك ضد الحرب

وتقول الآن إن ضربات طائرات «درون» هي للحرية

أنت فصيح وتقدر على أن تقول كل شيء

لكن، لا يمكنك أن تخدعني..».

وبالإضافة إلى الأغاني والأناشيد، هناك قصائد وكتب وروايات، بل صحف. لقد أصدر متظاهرو «وول ستريت» صحيفة « أوكيوباي وول ستريت جورنال»، (إشارة إلى اسم صحيفة «وول ستريت جورنال» المشهورة). وقال الناشرون إنهم قرروا إصدار صحيفة لأن الإعلام الأميركي أهمل قضيتهم (رغم أن ذلك تغير الآن).

ولا تحتوى الصحيفة على إعلانات، وبدأت صدورها بعد جمع تبرعات قاربت مائة ألف دولار. وقال مدير تحريرها مايكل ليفتين: «نحتاج إلى نشر معلوماتنا وآرائنا مكتوبة ومنشورة، لأن الكتابة، ليست مثل الصورة والفيديو، فهي تشجع أكثر على التفكير العميق». ويضيف «أشاهد الذين يقرأون صحيفتنا في المترو والشارع. وأقول لنفسي: هؤلاء أناس ربما كانوا لا يعرفون أي شيء عنا، لكنهم الآن يعرفون أفضل. أحس بالراحة لأن قضيتنا تنتشر».

ويظهر أيضا تأثير «ربيع العرب»، في قول مدير التحرير: «نحن نتحرك تحت تأثير الأحداث في شمال أفريقيا، وفي الدول الناطقة باللغة العربية». أما جيم برانت، ناشر الصحيفة فقال: «إذا سقط نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك، يمكن أن يسقط أي نظام».

الأسبوع الماضي، ذهب إلى المتظاهرين في «وول ستريت» المغني الأميركي العريق بوب ديلان، والمغنية الأميركية العريقة جين باييز، وصدحا بأغاني «الثورة» التي ولدت قبل خمسين سنة، عندما كانا في مقتبل العمر. في سنة 1963، كانا في قمة مجدهما خلال مظاهرات الحقوق المدنية للزنوج، وضد حرب فيتنام، ولمساواة النساء بالرجال.

غنى بوب ديلان (وعمره الآن 70 سنة) أغنيته المشهورة «بلومنغ أن ذا ويند» (أهب مع الريح). ومنها:

«كم طريقا يجب على الرجل أن يسير عليه قبل أن يسمى رجلا؟

كم بحار يجب على الحمامة البيضاء أن تعبرها قبل أن تنام هادئة على الرمال؟ كم قذيفة يجب أن يطلقها المدفع قبل أن يتوقف نهائيا؟

الإجابة يا أصدقائي تهب مع الريح، تهب مع الريح».

وأنشدت جين باييز (وعمرها الآن 70 سنة أيضا) نشيد «وي شال أوفركام»، (نحن سنتغلب). ليست هذه الأغنية لها، بل هي أغنية زنجية أميركية عمرها قرابة قرن كامل، وهي عن نضال الزنوج ضد التفرقة العنصرية. لكن، في سنة 1963، وفي «مول»، (الميدان الرئيسي في واشنطن)، وبحضور القس الأسود مارتن لوثر كينغ، وكان عمرها 22 سنة، غنتها، وهي الشابة البيضاء وسط غابة من السود. تلك هي المناسبة التي ألقى فيها القس كينغ خطبته المشهورة «آي هاف دريم»، (عندي حلم).

وإذا كانت هذه هي «ثورة» ضد سيطرة البنوك والشركات العملاقة، شهدت الستينات والسبعينات «ثورة» ضد التفرقة العنصرية والتفرقة ضد النساء والأقليات. لكن، تاريخ «الثورات» في أميركا قديم، ومليء بالأغاني والأناشيد والكتب. وصارت كل هذه «الثورات» جزءا من التراث الأميركي، وصارت ثقافتها جزءا من الثقافة الأميركية.

ورغم أن الثورة الأميركية الحقيقية والأولى كانت دموية، يمكن القول إن «الثورات» التي أعقبتها كانت سلمية. ورغم أن إلغاء تجارة الرقيق كان سبب الحرب الأهلية (انتهت سنة 1862)، كانت هناك «ثورات سلمية» ضد تجارة الرقيق ثم ضد التفرقة العنصرية التي أعقبتها.

في سنة 1839، قبل الحرب الأهلية، اشتركت عائلة «هتشنسون» الغنائية في الحملة ضد الرقيق، وغنت «أغنية من أجل إلغاء الرقيق» و«لا مزادات للسود بعد الآن».

وفي سنة 1869، بعد نهاية الحرب الأهلية، ركز السود على الأناشيد الدينية لصالح قضيتهم. وأنشدوا نشيد «أو فريدوم»، (أيتها الحرية). ومن كلماته:

أيتها الحرية. لست الآن حرا. عندما أدفن في قبر، ثم أقابل ربي، سأكون حرا. وأنشدوا «قو داون موسيس»، (تقدم يا موسى). وهي مقتبسة من التوراة، وتشبه خلاص اليهود من فراعنة مصر، بقيادة النبي موسى، عليه السلام، بخلاص زنوج أميركا من سيطرة البيض.

ورغم أن هذه الحركات والمظاهرات تغلبت عليها السياسة، هناك حركات أخرى، مثل نظافة البيئة، وعدم القضاء على الأشجار وعدم تلويث الأنهار. في سنة 1837، ألف جورج موريس، شاعر وصحافي أميركي، قصيدة «سبير ذات تري»، (لا تقطع هذه الشجرة). وفيها: «تلك الشجرة العتيقة، شهرتها فوق الأراضي والبحار. أيها الحطاب، وفر فأسك، واترك الشجرة العتيقة لتصل إلى السماء.

ومع بداية القرن العشرين، شهدت أميركا «ثورات» أخرى، مثل التي قامت ضد الشركات الاحتكارية، ولصالح نقابات العمال (في ذلك الوقت حاربت الشركات الاحتكارية نقابات العمال حربا لا هوادة فيها). وكتب الشاعر جو هيل في سنة 1911 قصيدة «الواعظ». ومنها: «يا عمال كل الدول، اتحدوا، جنبا إلى جنب، نحن نحارب من أجل الحرية. عندما نسيطر على العالم وعلى ثرواته، سنغني أغاني النصر». وكتب الشاعر جيسم أوبنهايمر قصيدة «خبر وزهور» عن إضراب عمال في مصنع للنسيج. ومنها: «عندما نتظاهر في هذا اليوم الجميل، هناك ملايين المطابخ بلا طعام، وآلاف المصانع بلا نسيج. ونحن نغني: (نريد خبزا وزهورا. نريد خبزا وزهورا)».

وعندما بدأت الحرب العالمية الأولى (سنة 1914) تظاهر الأميركيون ضد قرار الحكومة الأميركية بالاشتراك فيها. وكتب الفريد بريان قصيدة «لم أرب ابني ليصير جنديا». وبعد نهاية الحرب (سنة 1918)، كتب بالاد ماكدونالد قصيدة «أطفال الحرب»، (عن اليتامى الذين قتل آباؤهم في الحرب). وأيضا، كتب سام لويس قصيدة «هالو، سنترال: أريد الاتصال بساحة الحرب». كانت عن صبي يريد أن يعرف مصير والده وهو يحارب في أوروبا (في ذلك الوقت، كان التليفون اختراعا جديدا).

وفي سنة 1933، بعد الانهيار الاقتصادي في الولايات المتحدة، خرجت المظاهرات (وكأنها مثل مظاهرات اليوم) ضد دور البنوك والشركات العملاقة في الانهيار. وغنى الأميركيون «وداعا من عامل المنجم» و«أحزان الجائع الفقير» و«إبرة الأغنياء»، (إشارة إلى عبارة في الإنجيل بأن الأغنياء سيدخلون الجنة عن طريق خرم إبرة).

وفي بداية الخمسينات، بدأت الحملة اليمينية ضد الليبراليين والتقدميين والنقابيين بأنهم يريدون نشر الشيوعية في أميركا (واستجوابات عضو الكونغرس السيناتور جوزيف ماكارثي).

وقادت نقابات العمال مظاهرات احتجاج. وغنى الفنان اليساري وودي غونثر «هذه الأرض أرضي». وفيها: «هذه الأرض أرضي.، من كاليفورنيا إلى نيويورك. انظر إلى أعلى، وأرى السماء بلا نهاية، وأنظر إلى أسفل وأرى الوادي الذهبي. هذه الأرض أرضي».

حتى اليوم، هذا الأغنية ترمز إلى الحركات الليبرالية. وذلك لأن مؤلفها غونثر كتبها ردا على نشيد «ليحفظ الله أميركا». رغم أن هذا نشيد قومي، ويردد في كل المناسبات الوطنية، قال غونثر إنه «حماسي، وليس واقعيا». وإن قصيدته هو تركز على أن «هذه الأرض أرضي»، لأنها تؤكد مشاركة كل مواطن أميركي في مصير الوطن، من دون ترك ذلك للسياسيين والحكام.

وفي الأسبوع الماضي، كان المتظاهرون في ميدان «فريدوم»، (الحرية) في واشنطن ينشدون: «ذيس لاند إز ماي لاند»، (هذه الأرض أرضي).