ثورات شمال أفريقيا والمتوسط في «عاصفة» شكسبير

عرضت أخيرا في القدس وحيفا والضفة الغربية

مشهد من العرض الذي قدمته فرقة «مسرح أريحا» بلندن («الشرق الأوسط»)
TT

«كم هو جميل هذا الجنس البشري! وكم هو شجاع هذا العالم الجديد حتى يكون فيه مثل هؤلاء الأشخاص». «العاصفة» لويليام شكسبير.

كان الشفق يتسلل إلى داخل الأبراج المطلية بالصلب والأروقة الإسمنتية في حي لندن المالي، كما كانت الشوارع خالية من الناس. ومن خلال الشقوق، ارتفعت قمة كنيسة وانفصلت عند ملتقى بحيرة باربيكان وواحة سانت غايلز التاريخية في كريبليجيت. وتلألأت الكنيسة بمئات الأضواء المعلقة تحت أقواسها القديمة وفوق أرضيتها المنقوش عليها مربعات وأغطية المصابيح وقناديل سفن وأضواء عربية وإندونيسية وشمعدانات وثريات.. وانتشر العديد من المصابيح على الأرض، مما يمنحك شعورا وكأنك في سوق. وهناك كتابة على الحائط تقول: «إذا عرفت أشجار الزيتون من الذي زرعها، لأصبح زيتها دموعا».

بعدئذ يبدأ الصوت؛ وهو عبارة عن صدى أصوات عاصفة بروسبيرو التي ترتطم بالسراديب الحجرية مع صرخات تحطم السفن وألحان عميقة من الأرغن، فيما يقوم أشخاص غامضون بتحريك مصابيح تصدر ضوءا قويا يلقي بظلال تتمايل على الزجاج المصقول والملون. وتبدأ العاصفة.

قام مسرح «بيت أريحا» بعرض «يوتوبيا سيزون 1611» وذلك في إحياء منفرد لمسرحية «العاصفة» لشكسبير، ليتزامن مع الذكرى الأربعمائة لهذه المسرحية. وتعد هذه الكنيسة المهمة، التي ألم بها شكسبير جيدا، أحد الأشياء المميزة لهذا الموقع التي حدثت خلال فصل الخريف. ومع الأفكار الرئيسية للمسرحية التي تدور حول الاختلاف والنفي، والانتقام والتسامح، حازت المسرحية على صلة سياسية قوية عندما جابت القدس وحيفا والضفة الغربية مؤخرا.

قبل أربعة قرون مضت، كان العرض الأول لرائعة شكسبير الأخيرة، «العاصفة»، بينما كان جون دون وآخرون يعيدون اكتشاف الشعر الغنائي وكان بلاط الملك ممتلئا بابتكارات إنيجو جونز وفريقه من الملحنين والموسيقيين ومنسقي المشاهد. وفي عام 1611، كانت لندن ممتلئة بالباحثين عن العالم المثالي والوصول إلى قمة الازدهار الفني، كما كانت نسخة الملك جيمس للكتاب المقدس لا تزال مطبوعة حديثا وكانت هناك حماسة دينية جديدة. وكانت الحكومة تعيد تقديم نفسها في عالم تجاري متحول ونظم سياسية جديدة يتم تشكيلها، كما كانت أعمال جاليليو تترجم لأول مرة، وكان فرانسيس باكون يقوم بإحداث تغيير جذري في الأسلوب العلمي. كل ذلك توحد من خلال الرغبة في اكتشاف إمكانات العوالم الجديدة، ماديا وخياليا.

وتتحدث «العاصفة» بدرجة كبيرة عن النظم السياسية، وعن سيادة القانون ومقاومة السلطة. وقال جوناثان هولمز، مخرج المسرحية: «كما هو معتاد في أغلب الأحيان في مسرحيات شكسبير، فإن مسرحية (العاصفة) تتحدث أيضا عن الأسر المفككة والميراث المتدهور؛ وتعد الأسر نماذج مصغرة للدول، كما يعد الأقارب المبجلون هياكل للحكومات». وتم تقديم عقود من النزاع خلال ساعات قليلة. بروسبيرو هو الشخص الذي تم نفيه ظلما والذي أصبح الآن ديكتاتورا في إمبراطوريته الخاصة والذي يسعى إلى تصحيح الأوضاع معتمدا على قريبه الذي نجا من السفينة المحطمة ويتابع الأحداث من خلال سكان الجزيرة الآخرين؛ آريال، الخادم الغامض وكاليبان، الابن الوحيد للساحرة الشريرة التي تم نفيها إلى هذه الجزيرة الغريبة. إنها مسرحية مثالية، إلا أن مفهوم المثالية فيها محل خلاف.

وفي عام 1611، حققت «العاصفة» نجاحا في بلاط الملك جيمس الأسكوتلندي المثقف الذي كان مشغولا بالكتاب المقدس الجديد، والذي كان على وشك أن يكون الضحية الأخيرة لغاي فوكس وعصابته. علاوة على ذلك، فقد منحتها المغامرات الاستعمارية الجديدة والأحداث المؤسفة في جزر الإنديز وباقي المناطق مذاقا ذا علاقة بالأحداث. وبعد أربعة قرون، وجدت أفكار النفي والهجرة والصراع الإقليمي التي تضمنتها المسرحية أصداء قوية في مواقف معاصرة، لا سيما في التاريخ المعاصر للاستعمار، حيث يزداد تحدي المميزات المثالية للمشروع الاستعماري، خاصة في الأحداث الأخيرة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. ومن المفارقة أن «يوتوبيا سيزون» على مسرح «بيت أريحا» يتزامن مع بعض نتائج هذه المشاريع وكذلك مع الأفكار التي أنتجتها في أرض عانت بعد 400 عام من نتائج مثل هذه الأفكار التي كانت مفهومة في هذا الوقت؛ مثل السماح بالربا في العمليات الاقتصادية وما ترتب على ذلك من تكوين «دول». وقال هولمز: «إننا نحيا في ظلم، ومما يدعو إلى الفضول اليوم أن ترى الدين والثورة يتقدمان؛ مرة أخرى جنبا إلى جنب. لقد بدا لنا، حينها، أنه في وقت ما تزداد فيه الاضطرابات المالية والتغير الثقافي السريع، سيكون من التآمر أن ننظر مرة أخرى إلى بداية المشروع وأن نفكر في ما عناه عام 1611 لنحاول دون خجل بناء مجتمع أفضل».

وتملأ الأدوات التاريخية والقرع الشديد الممرات الكنسية بضوضاء عفوية وصدى أصوات كهنوتية، تتمتع بمذاق الشرق الوسط بشكل واضح. ويرى هولمز والملحنة جيسيكا دانهيسير أن الموسيقى ضرورية بالنسبة لمسرحية شكسبير التي لا بد أن تمتزج بها الموسيقى.

ويتمثل تميز هذا الإنتاج في أنه يعد المحاولة الأولى منذ العرض الأول للمسرحية عام 1611، وذلك لاسترجاع واستعادة العالم السليم كما شكله شكسبير وإعادة توصيله بنص المسرحية. وهناك أيضا ازدواجية ماهرة في تنكره بزي شرقي جنبا إلى جنب مع البدل الأنيقة ورابطات العنق الحريرية، علاوة على الجمع المزدوج والتنكر في زي الجنس الآخر.

ويغير هذا الإنتاج لـ«العاصفة» من «بيت أريحا» والأداء والموسيقى والموقع الزمان والمكان، ويجعله عملا مثاليا لعام 2011 بتناغمه شديد الأصالة والحيوية مع الاتجاهات والأحداث والأفكار التي نشهدها في عصرنا هذا. قال هولمز: «إنها مسرحية عن بداية مشروع أوروبي معين نجد أنفسنا الآن في نهايته؛ لقد كان شكسبير يشاهد العناصر المكونة وهي تتحد معا تماما كما نرى نحن تلك العناصر وهي تتفكك». وما من شيء من الممكن أن يكون أكثر ملاءمة لهذا العرض الذي يسيطر عليه صدى الصوت والمرايا، أكثر من مشاهدة المسرحية وهي تكتمل في ذكراها الأربعمائة.. هذه هي حقا «العاصفة» التي تستحق المشاهدة!