إنجاز رائع لعالم رائد

«شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة»

غلاف الكتاب
TT

صدر حديثا سفر جديد للدكتور راشد المبارك، هو «شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة»، دار «القلم»، دمشق، 2011، في 238 صفحة من الحجم المتوسط.

وهو كتاب فريد في بابه، مثير في موضوعه، مستفز في عنوانه، ماتع في قراءته؛ ذلك لأن كاتبه موسوعي الثقافة في عصر مضى أمثاله بذهاب جيل الرواد الذين أثروا الساحة العربية في مطلع عصر النهضة، وتخندق من تلاهم في تخصصاتهم الضيقة. بيد أن مؤلفنا أخذ من هؤلاء صرامة المنهج، وماثل أولئك في تعدد الحقول المعرفية التي تناولوها، ومباينا لهم بقلة ما كتب، لأنه لا يقدم على ذلك إلا إذا كان له جديد يضاف أو استشكال يطرح مع استبصار منظور ناظم لكل أجزاء ما يكتب. لهذا يأتي عمله في وحدة متكاملة متماسكة، بلا تطويل ممل، ولا اختصار مخل، فهو لا يطيل سفر الكلام.

وعادة ما يستفز القارئ بعنوان كتابه، فيلتهمه التهاما على الرغم من كثرة هضابه، وعمق شعابه، وتوالي منعرجاته، وعظم مخاطره. دونك كتبه، «نزار بين احتباسين» و«هذا الكون»، وهذا السفر الذي نقف بين يديه. وما مرد ذلك إلا لوضوح رؤيته واتساق أفكاره، ومنطقية تحليله، وبساطة لغته، وسلاسة أسلوبه، وتتابع شواهده من مخزونه المعرفي التي تنثال منه انثيالا؛ من الفلسفة أو الأدب أو شوارد الشعر أو العلوم الطبيعية أو العقلية أو الإسلامية. وأخيرا دقة منهجه المؤسس على المنظور الذي يطرحه في دراسته، ثم تأتي الفصول معالجة له.

لقد قسم المؤلف بحثه إلى مقدمة وسبعة فصول وخاتمة، وكشف في المقدمة عن منظوره، وهو نتاج تأمل في قراءاته في الفلسفة لأكثر من ثلاثين عاما، فاندهش ثم صدم للمفارقة العجيبة بين الفلسفة، وهي تأمل محض قائم على مسلمات العقل الأولية، طلبا للحقيقة، وتوخيا للحكمة، وبحثا عن طلب الأشياء، بسلوك درب لا ينتهي؛ وبين هذا كله ونهج كل فليسوف، إلا سقراط، الذي يقوم على أسلوب تقريري وثوقي بإدعاء أن ما وصل إليه هو الحق المحض، وأنه قد كشف الحقيقة المحجوبة بعد نقده لمن سبقوه (مثلا أفلاطون مع سقراط، وشوبنهاور مع كانط). وهكذا تظهر عند د. راشد المباينة بين منهج السالكين (الفلسفة) ومنهج الواصلين (الفلاسفة)، وهذا مستحيل وذاك ممكن. ومن هنا ذهب إلى القول بشموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة.

وهذا ما تأكد عنده بعد النظرة المعمقة في أعمال ستة من الفلاسفة من حقب مختلفة في تسلسل زمني، متناولا كل واحد منهم في فصل قائم بذاته، واقفا عند آرائه الرئيسية، ناقدا لها نقدا داخليا، موضحا ما فيها من تناقض، وصولا إلى النتيجة النهائية.

هكذا كان حاله مع أفلاطون في مثله، وأرسطو في آرائه عن الطبيعة وما وراءها، وديكارت وعلمه الجديد، وسبينوزا وإطاره الهندسي الرياضي، وكانت في نقد العقل وادعائه الباذخ مع تناقضه الظاهر، وأخيرا شوبنهاور ونظراته في الشفقة والأنانية، جامعا فيما كتب بين التواضع الشديد والادعاء المفرط.

فلا غرو بعد هذا أن يخلص المؤلف إلى أن العقل في جميع هذه الحالات يثبت الشيء ونقيضه، فتساءل مندهشا: هل يمكن أن تكون العقول الكبيرة هي الأقدر على الوقوع في الأخطاء الكبيرة؟ وهل العقل شاهد زور؟ فشكل بذلك فصله السابع الخاتم.

ونختتم بعدة ملحوظات وتساؤلات:

* لاحظ المؤلف العلاقة الوثيقة بين الفيلسوف وبيئته، وتأثيرها على فكره، كما في حالتي أفلاطون وكانط.. أفلا يعني ذلك أن الفلسفة متغيرة؟ ومن ثم شموخها نسبي. ومن هنا يثور السؤال إذا كانت الفلسفة مدرك عقلي فهل المدرَك منعزل عن المدرِك؟ وكيف يكون الأول شامخا والآخر متهافتا.

* أثار د. راشد استشكالا مهما لم يسبق إليه فيما يبدو، وهو عدم تأثر الفلسفة والمعتقدات الإغريقية بالحنيفية واليهودية ولا توجد إشارة لهما عند أولئك الفلاسفة قبل المسيح. والسؤال: هل أشار أولئك الفلاسفة إلى غير بني جنسهم، وهنالك ما يثبت أنهم لم يذكروا بعض بني جنسهم. وقد أشار المؤلف إلى أنهم عرفوا عقيدة التناسخ وهي هندية، وأخذ فيثاغورس ببعض أسرار النحله الأورفية التي يرجح أنها أخذت كثيرا من الديانات الشرقية والمصرية، ولم يذكروا تلك الأديان في الحالتين. وهذا ما يزيد الاستشكال قوة وحيرة. فلماذا ظاهرة الإغفال للغير؟ أليس هذا ما يؤكد تهافت الفلاسفة!

* تستوقف القارئ للدراسة الفجوة الزمنية الكبيرة بين الحالات المبحوثة من أرسطو اليوناني (القرن الرابع قبل الميلاد) إلى ديكارت (القرن السابع عشر الميلادي)، فأين موقع الفلاسفة المسلمين والمدرسين الوسيطيين، وقد أشار إليهم المؤلف في غير موضع.. وتستوقف المرء حالة ابن خلدون ونهجه التقريري الوثوقي عن علمه الجديد «العمران».

وخلاصة القول أن هذا عمل متفرد، وجديد من نوعه، نظر إلى الفلسفة بمنهج مغاير لما درج الناس عليه، فخلص إلى نتائج مهمة تؤكد نسبية الآراء الفلسفية، ويثير استشكالا لم ينتبه الدارسون إليه من قبل، مع أن له قدره الكبير في ميزان الفكر، فحسبه هنا تلك اللفتة إلى العقل الذي يثبت الشيء وضده أو أن المنهج التقريري الوثوقي مخل بالمعرفة، والذي بمثله تجف منابع التساؤلات والاستشكالات والسعي إلى معرفة المحجوب عن الإنسان في نفسه، وفي الكون الذي فيه وحوله، وما وراء الكون المؤثر فيه. ولهذا فإن كتاب «شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة» جدير بالقراءة، وقمين بالمراجعة، ويدعو للمتابعة. وحسب هذا فضل لمؤلفه الذي ديدنه فيما يكتب أو يحاضر أو يناقش أن يكشف الحجب، ويثير الأسئلة المنسية أو المتغافل عنها أو غير المتوقعة. فله الدعاء كله بالمزيد.

*عميد كلية العلوم الاستراتيجية

جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية