إيلان بابيه: هجرت إسرائيل بسبب العنصرية

أحد المؤرخين الجدد يكتب ما يشبه السيرة الذاتية عن نبذه بسبب دفاعه عن الفلسطينيين

TT

إيلان بابيه أستاذ جامعي إسرائيلي معروف كان يُدرِس التاريخ في جامعة حيفا لسنين، ولكنه اضطر لترك الجامعة والمجيء إلى بريطانيا ليستقر فيها بسبب موقفه الناقد للصهيونية والمدافع عن الفلسطينيين. وقد عرف اسم إيلان بابيه منذ الثمانينات كأحد المؤرخين الجدد في إسرائيل الذين جاءوا برواية مختلفة عن الرواية الإسرائيلية الرسمية فيما يتعلق بحرب عام 48 بعد أن درسوا الأرشيف الإسرائيلي ونقبوا فيه، وعثروا على الكثير مما يناقض الرواية الرسمية. وكان بابيه كما يذكر هو قد ربي على الفكر الصهيوني ونشأ في أحضانه كأي يهودي إسرائيلي، ولم يكن يعرف عن القضية الفلسطينية أو معاناة الفلسطينيين شيئا، إلى أن أخذ يسمع من زملائه الطلاب العرب في المدرسة كلمة «نكبة» تتكرر على مسامعه، والتي لم يكن قد سمعها من قبل. وكانت هذه بداية له في طريق طويل ومسار صعب في الصراع مع الآيديولوجيا الصهيونية. وأخذ يتقفى تاريخ النكبة وبدايتها، واطلع على ما جرى للفلسطينيين بسببها من كوارث أثارت مشاعره واهتمامه، ثم بعد اطلاعه على أرشيف الدولة، أصبح أكثر تفهما لهذه القضية ومعرفة بأبعادها واهتماما بها، واقتنع بأن ما أصاب الفلسطينيين هو ظلم كبير لا بد من العمل على إزالته أو التخفيف منه، وأصبح مدافعا عن حق الفلسطينيين، بل إنه بدأ يتخلى عن الصهيونية كما أشار إلى ذلك في كتابه الذي نشره في العام الماضي بعنوان «خارج الإطار: النضال من أجل الحرية الأكاديمية في إسرائيل».

وهو يقصد من الجزء الأول من العنوان بأنه «خارج الإطار» الرسمي للدولة بآرائه ومواقفه. وهو يذكر أن تخليه عن الصهيونية وطلاقه لها كان عملية تطورية وتدريجية، وكانت في الوقت نفسه كما يقول رحلة ثقافية وآيديولوجية وسياسية. وقد وصف الصهيونية في كتابه أعلاه بأنها آيديولوجيا وفلسفة عنصرية واعتبر تخليه عنها تحررا منها، وبأن ما تقوم به إسرائيل من اضطهاد للفلسطينيين هو نتيجة طبيعية لهذه الآيديولوجيا وهذه الفلسفة.

ومن هذا المنطلق اعتقد بابيه أن عليه مسؤولية أخلاقية في أن يكشف للناس حقيقتها وطبيعتها وأهدافها، وأن يكتب كذلك عن القضية الفلسطينية بغرض تعريف الناس بها وإطلاعهم عليها. ومن هنا بدأ صراعه مع أبناء جلدته، الذين رأوا فيما يقوله خروجا عن المألوف عندهم وشذوذا للمقبول لديهم. لذلك أخذ التهميش يطاله والناس تعزله، إلى حد أن نداءات تليفونية كانت تصله، قبل أن يغير رقم تليفونه، تشتمه وتحقره وتتهمه بخيانة بلده بل وتهدده بالقتل.

أما في الجامعة التي يفترض أن تكون الحياة فيها أكثر حرية وديمقراطية، فقد عومل بطريقة لا تختلف عما عامله بها عامة الناس، إذ كانت تحاربه نفسيا وتحاصره أكاديميا. وهو يذكر بعض التفصيلات عن هذه المعاملة، ويقول إنه في البداية كان هناك تحمل لآرائه من قبل الجامعة والسماح له بالتعبير عنها «كي يقال للناس إن في إسرائيل ديمقراطية وأني النموذج لذلك، ولكن الأساتذة في الوقت نفسه كانوا يطلبون مني سرا أن أجمل صورة إسرائيل أمام العالم». ولكن السماح له وغض النظر عنه والتهاون معه لم يستمر طويلا، حيث بدأت بعد ذلك الحرب عليه في السر والعلن، وبدأ يسمع من زملائه الأساتذة اتهامات ونقدا، مثل إن من يتبنى الرواية الفلسطينية خائن لبلده. كما أطلقت عليه أوصاف كانت قد أطلقت على الذين تعاونوا مع النازيين، وعملوا لهم وتجسسوا لحسابهم.

ويقول إن إطلاق هذه الأوصاف في سياق التفكير الإسرائيلي يعني الدعوة إلى قتله. وأخذ زملاؤه يتفادون اللقاء به ويتحاشون الحديث معه، كما كانوا يترددون في دعوته إلى الندوات والمؤتمرات، حتى في صلب اختصاصه. بل كانت موافقة الجامعة أو الكلية على عقد المؤتمر أو الندوة مشروطة بعدم دعوته، بل وصل الأمر بالجامعة أن أقدمت على سحب شهادة أحد طلابه، من الذين أشرف عليهم وأجازته الجامعة نفسها، بحجة أن ما جاء فيها كان تزويرا للحقائق. ويقول «ومع كل ما قامت به الجامعة من عزل نحوي لم ينبر أحد من الجامعيين في الدفاع عني». ولأنه استمر ينتقد ظلم الدولة للفلسطينيين، وقهرها لهم ويعلن عن تأييده مقاطعة الجامعات الإسرائيلية، وجهت إليه الجامعة تهمة تشويه سمعتها، والإساءة إلى مكانتها، وطلبت من المحكمة النظر في أمر طرده منها. وبعد أن نشر ذلك في الإعلام تكونت لجنة من الأساتذة خارج إسرائيل للدفاع عنه ومساندته، وحثت اللجنة الآخرين على إرسال رسائل للجامعة للتعبير عن سخطهم عليها ورفضهم لسلوكها. ولكن ذلك لم ينفع وأخذ الخناق يشدد عليه، فضاق به الأمر بعد سنوات من الصراع، فاضطر لترك البلد، والهجرة إلى بلد آخر (بريطانيا). وكان من نتائج تجربته المريرة هذه أن اقتنع كما يقول بأن إسرائيل ليس فيها ديمقراطية، وأن من واجبه أن يفند مقولة أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، بل هو يرى ضرورة الكشف عن كذبها وزيفها.

ومن يقرأ كتاب إيلان بابيه، الذي يشبه سيرة ذاتية، يشعر بالحزن لما لاقاه وعاناه، ولكن في الوقت نفسه يُكبر في الرجل شجاعته وتحديه للضغوط المستمرة والترهيب الشديد، بإرادة وإصرار، والتزامه بمبادئه وتمسكه بها، حيث استمر يكتب وينشر آراءه إلى اليوم. وقبل كتابه هذا نشر كتابا آخر بعنوان «التطهير العرقي في فلسطين». ولا يسع الإنسان عندما يقرأ هذه السيرة إلا أن يتذكر ما حصل قبل أكثر من ثلاثة قرون لواحد من أبناء جلدته وأشهر فيلسوف أوروبي في العصر الحديث، وهو باروخ (بندكت) سبينوزا (ت1677م) الذي مر بتجربة لا تختلف كثيرا عن تجربة إيلان بابيه، وكان قد توصل إلى آراء تخالف آراء المؤسسة الدينية اليهودية، بعد بحث في تاريخ اليهود ودينهم، حيث توصل إلى آراء تخالف آراء الحاخامين التي ظلوا يتبنونها لقرون وأخذ ينتقد سيطرتهم على حياة الناس، فحاربه هؤلاء بسبب آرائه، واتهموه بالكفر والمروق عن الدين، وفرضوا عليه حصارا اجتماعيا حتى تحاشاه اليهود، كالحال عند إيلان بابيه من خلال درسه للأرشيف الإسرائيلي ونقده للصهيونية في ضوء ما اكتشف، فحاربه أبناء جلدته، كما أخذ الحاخامون يتسقطون أخبار سبينوزا ويتجسسون عليه وأصدروا فتوى بطرده من اليهودية حيث جاء في بدايتها: «ونحن من خلال وسائل عدة حاولنا أن نقنعه بترك طريقته ولكننا لم نجد تغيرا نحو الأفضل في أفكاره الفاسدة والمنحرفة، التي يعتنقها ويدرسها وكذلك الأعمال المشينة التي ارتكبها، والتي كانت تصلنا معلومات عنها في كل يوم من شهود موثوقين». وهذا أيضا ما حدث لإيلان بابيه، فقد جاء في بيان للجامعة: «إنه مصر على الإساءة إلى الجامعة ومؤسساتها كتابة، وفي محاضراته العامة ونحن نتسلم بين فترة وأخرى ردودا من زملائه الذين يستغربون من سلوك بابيه هذا، وهو أستاذ في الجامعة على الملاك الدائم، وفي فترة قريبة سابقة تسلمنا رد فعل عاطفيا وغاضبا على محاضرة في أميركا، حيث انتقد الجامعة ودولة إسرائيل بشدة». وكما أفتى الحاخامون بحرمان سبينوزا وطرده من اليهودية حيث جاء في الفتوى التي أصدروها «لذلك قررنا وبمصادقة حاخامينا أن المذكور يطرد ويعزل من بيت إسرائيل..». كذلك طلبت الجامعة من المحكمة، الحكم على بابيه - وإن لم تتمكن من تحقيقه - حيث جاء في طلبها أن «يحاكم الدكتور إيلان بابيه على الجرائم التي ارتكبها وأن تستعمل قوانين المحكمة بشكل كامل لطرده من الجامعة». وعندما صدرت الفتوى في حق سبينوزا لم يكترث ولم يهتم بها، بل أخذ يدافع عن آرائه بقوة، مثلما فعل إيلان بابيه الذي دافع عن آرائه وما زال. وكما ضُرب طوق من العزلة على سبينوزا كذلك على بابيه كما ذكرنا، حيث جاء في فتوى الحاخامين نفسها «ولا يجوز لأحد أن يتصل به بشكل مباشر أو بواسطة الكتابة أو يزامله، أو يريه أي نوع من الرحمة أو يقرأ مؤلفاته مطبوعة أو مخطوطة». وقد ذكر أيضا أن سبينوزا هدد بالقتل، بل ذكر أنه كانت هناك محاولة للتخلص منه بطعنه بسكين كما هدد بالقتل إيلان بابيه حيث يذكر ذلك نفسه في كتابه الذي ذكرناه، وأن هذا التهديد كان بالرسائل العادية ومرة بالبريد الإلكتروني وأخرى بالمكالمات التليفونية. ولم يتجرأ أحد من اليهود على نقد هذا الطرد في حال سبينوزا، كما في حال إيلان بابيه كذلك اضطر كلاهما للهجرة إلى مكان آخر بسبب المعاملة من أبناء جلدتهما، هاجر سبينوزا إلى مدينة أخرى في هولندا وإيلان بابيه لدولة أخرى. والفرق بين الحالتين أن سبينوزا حاربته المؤسسة الدينية واتهمته بالمروق عن الديانة اليهودية، وإيلان بابيه حاربته المؤسسة العلمانية واتهمته بالمروق عن الآيديولوجيا الصهيونية وكلاهما إرهاب فكري.

* باحث عراقي