كيف نظر ليسنغ للإسلام؟

كتاب يعود إلى تنويرية القرن الثامن عشر في عصر أحوج ما يكون للعقل والتسامح

TT

في كتابهما المهم «عصور الأدب الألماني»، تصنف بابرا باومان وزميلتها بريجيتا أوبرله، غوتهولد افريم ليسنغ (1729 - 1781) ضمن مرحلة «العاصفة والدفع» التي شهدت نهاية عصر التنوير ومطلع عصر الأدب الكلاسيكي الألماني. وتعتبر الكاتبتان مسرحية «ناتان الحكيم» قمة عصر التنوير، الذي كان ليسنغ أهم أعمدته.

وإذ تحتسب باومان وأوبرله هذه المسرحية ضمن أدب الدفع، بالنظر لمحتواها التنويري التسامحي، فإنهما احتسبتا مسرحية «اللصوص» لشيللر ضمن أدب العاصفة الذي مهد لظهور جيل عصر الكلاسيكية ورمزه فولفغانغ فون غوته. وواقع الحال أن مصطلح «العاصفة والدفع» مأخوذ عن مسرحية «فوضى» للكاتب فريدريش ماكسمليان كلنجر، التي وصفها النقاد آنذاك بالعاصفة والدفع. وإذا حمل ذلك العصر الأدبي الألماني اسم مسرحية، فمن الممكن حينها القول إن الحقبة الأخيرة من عصر التنوير يمكن تسميتها بعصر «ترجيح العقل والتسامح»، الذي كان فحوى مسرحية «ناتان الحكيم» للشاعر والمسرحي الكبير ليسنغ.

الدكتور زاحم الشمري، الذي نال درجته العلمية لقاء بحثه القيم في «ليسنغ والإسلام»، من جامعة هومبولد ببرلين، يعود بنا إلى تنويرية القرن الثامن عشر في عصر أحوج ما يكون للعقل والتسامح. وهي دراسة حول حوار ليسنغ مع الإسلام تعيد إلى التنويري الكبير مكانته بعدما نال التشويه ما نال من أفكاره، بدعوى انتمائه للماسونية وخروجه على مبادئ الكنيسة.

كان ليسنغ يتصور أن الأديان سوف تتقارب في عصر التنوير، من خلال ترجيح العقل والتسامح، لكن الكنيسة تأخرت لأكثر من 150 سنة في إدراك تصوراته. صار العالم يدرك اليوم، وفي ظل الإرهاب والحرب على الإرهاب، أهمية تقبّل الاختلافات بين الأديان والتعايش السلمي بينها، باعتبارها أديانا سماوية تدعو إلى الخير والفضيلة. فالتسامح غير ممكن حسب رأيه من دون التقرب من الله عن طريق فعل الخير والتحلي بالأخلاق. ويمكننا تصور صعوبة مهمة ليسنغ آنذاك في عصر أعقب سقوط التعايش الثقافي الديني الجميل بين الإسلام والمسيحية واليهودية، الذي مثلته الأندلس.

كان ليسنغ يعتقد أن الأديان في القرن الثامن عشر ستتعايش مع بعضها بترجيح العقل، وحسب رأيه لا ينفع هنا أي «خاتم سحري» قد يوزعه ناتان الحكيم، أو سليمان الحكيم، على ممثلي مختلف الأديان، طالبا منهم التقرب من الله عن طريق فعل الخير والفضيلة.

يقع الكتاب في 6 فصول تتابع تطور ونضوج أفكار ليسنغ التنويرية وانعكاسها على الأدب الألماني ككل. يتناول الفصل الأول الثقافة المعرفية للأديب الألماني لسنغ حول تأثير الأدب العربي الإسلامي على حركة النهضة الأدبية الأوروبية في القرون الوسطى، ودور المستشرقين الأوروبيين والألمان في نقل العلوم الأدبية والطبيعية للعلماء العرب إلى أوروبا، من خلال ثورة الترجمة التي شهدتها بلاد الأندلس آنذاك، حيث تُرجم القرآن إلى اللغة اللاتينية سنة 1143 بأمر من الكنيسة للرد على المسلمين. ويتطرق أيضا إلى قراءات لسنغ للمستشرقين الأوروبيين عن الإسلام وروح التسامح التي حملتها الرسالة السماوية إلى العالم، التي أرسى دعائمها الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، على عكس ما نراه اليوم، وتأثير ذلك الإيجابي على حركة التنوير الأوروبية في القرن الثامن عشر، التي أخذت من الإسلام الشيء الكثير لتقويم أفكارها. ويختتم هذا الفصل بدراسة نقدية حول آراء الفيلسوف الفرنسي فولتير عن الإسلام، الذي أراد نقد المسيحية، ودفاع لسنغ المستميت عن الإسلام بعد قراءته ودراسته للقرآن من خلال ترجمة الحقوقي الإنجليزي جورج سيل في القرن الثامن عشر.

يبحث الفصل الثاني من الكتاب أعمال لسنغ الأدبية حول الإسلام والثقافة الإسلامية وشخصية الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وتاريخ العرب قبل وبعد الإسلام وتاريخ الخلفاء الذين حكموا الدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم). وهي أفكار تتجسد في أعماله ومخطوطاته الفلسفية الأدبية الدينية، مثل: «إنقاذ السيد كردانيوس» (1754) Rettung des Hier. Cardanus، وهي مخطوطة فلسفية دينية نقدية دافع فيها لسنغ عن الإسلام في القرن الثامن عشر بفكر الإنسان المسلم المؤمن ضد ادعاءات الكنيسة آنذاك، حيث قارن بين معجزات الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، التي جاءت لتوضح الأمور الغامضة للناس، حسب قوله، ومعجزات السيد المسيح، واصفا الدين الإسلامي بأنه دين طبيعي عقلاني، وكرد على ادعاء الكنيسة بأن الإسلام نشر بحد السيف.

وفي هذه المخطوطة، وضع لسنغ اللبنة الأولى لـ«حكاية الخواتم الثلاثة» Ringparabel - التي تعني الأديان السماوية الثلاثة: المسيحية واليهودية والإسلام - في مسرحيته الشهيرة «ناتان الحكيم» (1779) Nathan der Weise يتناول الفصل الثالث ترجمات لسنغ للنصوص الإسلامية التاريخية للفلاسفة والمستشرقين الفرنسيين، مثل «تاريخ الحروب الصليبية» Geschichte der Kreuzzüge لفولتير و«تاريخ صلاح الدين سلطان مصر وسوريا» Geschichte Saladins Sulthans von Egypten und Syrien للمؤرخ الفرنسي مارين، التي تعرض التاريخ الدموي للحروب الصليبية ضد المسلمين بعد احتلال بيت المقدس عام 1100 وتأسيس الإمبراطورية المسيحية «المقدسة» التي تم القضاء عليها من قبل السلطان صلاح الدين الأيوبي، بعد أن فتح القدس عام 1187. ولهذا فقد اختار لسنغ شخصية صلاح الدين التاريخية ممثلا للإسلام في مسرحيته «ناتان الحكيم» سنة 1779، إلى جانب رجل المعبد ممثلا للمسيحية، وناتان الحكيم ممثلا لليهودية. استغرق العمل في هذا المسرحية التي تناولت حوار الأديان السماوية الثلاثة - المسيحية واليهودية والإسلام - ما يقارب الثلاثين عاما عُرضت فيها شخصيات إسلامية أخرى مثل «سته» أخت صلاح الدين، كرمز للمرأة المسلمة المتنورة في البلاط الإسلامي، و«الحافي درويش» كرمز للزهد في الإسلام. تطرق لسنغ من خلال الشخصيات الإسلامية في مسرحيته «ناتان الحكيم» إلى العلاقات الاجتماعية والتعايش السلمي بين الناس من أديان مختلفة، متخذا من الإسلام والتعاليم الإسلامية نموذجا لهذه العلاقة. ومن أجل إعطاء المشاهد والقارئ الأوروبي صورة واضحة عن الخلفية التاريخية والأدبية للشخصيات الإسلامية - سته والحافي درويش - وكذلك الشخصية اليهودية - ناتان الحكيم - وعلاقتها بشخصية لقمان الحكيم في القرآن، فقد قدم الشمري في الفصل الرابع عرضا تاريخيا وأدبيا مفصلا عن هذه الشخصيات، حسب الموروث الإسلامي، في مراجع الأدب الألماني والأوروبي، التي كانت متوفرة في مكتبة لسنغ الأدبية. ويتعرض الكتاب في الفصل الخامس إلى حكاية «الخواتم الثلاثة» التي تعني الأديان السماوية الثلاث - اليهودية والمسيحية والإسلام - وأصولها الشرقية في مسرحية ليسنغ الأشهر «ناتان الحكيم»، التي أثبت من خلالها لسنغ، وعلى لسان أحد الحكماء اليهود، أن الدين الإسلامي دين طبيعي حقيقي منزّل مثل اليهودية والمسيحية. وبحث هذا الفصل في تأثير «ألف ليلة وليلة» على الأعمال الأدبية القصصية الألمانية والأوروبية، مثل Gesta Romanorum، التي ظهرت في القرن الرابع عشر في فرنسا، وDisciplina Clericalis في القرن الثاني عشر، للكاتب الإسباني بيتروس الفونسي، التي ترجم فيها الكثير من قصص «ألف ليلة وليلة»، وDecamerone في القرن الرابع عشر للكاتب والمستشرق الإيطالي بوكاشيو وغيرها، التي قرأها لسنغ بعد أن قرأ «ألف ليلة وليلة» وتأثر بها. ونتيجة لما تقدم، وباعتبار لسنغ أول رائد من رواد حركة التنوير الأوروبية، الذي طرح فكرة حوار الأديان والثقافات في مسرحيته «ناتان الحكيم»، وأهميته في الوقت الحاضر، فقد تناول الفصل السادس حوار لسنغ مع الإسلام مقترنا بمقولته الشهيرة: «لا يستطيع المرء أن يصنع عالما سعيدا من خلال التوافق بالآراء فقط، وإنما من خلال الأفعال الفاضلة»، التي حملتها أعماله الأدبية في القرن الثامن عشر.