صرخة إلكترونية ضد الطغيان

المخرج العراقي حازم كمال الدين يقدم «أوديب الحديث» في العاصمة البريطانية

مشهد من المسرحية
TT

«أنتم يا من أرهقكم الجسد، وأحرقكم المرض.. من تمتلكون قلبا ضعيفا في أحشائكم.. انظروا.. أنا أطير.. أنا سأترككم.. ارفعوا رؤوسكم.. ستجيء سماء ألطف حين أرحل عنكم.. ومع ذلك، من يدنو من الموت أو من لا يزال يحتفظ بحياة واهنة، يمكن له أن يسحب قدر ما يستطيع من نشقات الهواء.. هيا اذهبوا.. امنحوا مساعدتكم للذين تُركوا للموت.. سآخذ معي كل وبال الأرض.. مصائركم ذابلة ورعب مزلزل بالأرض ويباب ومهالك سوداء ويأس مجنون..».

ترتيلة من تراتيل أوديب، يطلقها بصوت إلكتروني غير مفهوم شخص مجهول، كأنه المخرج الممثل «حازم كمال الدين»، لا في بلاد طيبة، بل في أحد أروقة صالة «تيت برتن»، وليس من خلف جدار معبد إغريقي، بل من خلال جهاز عرض مسلط على جدار صالة في أحد أروقة تيت بريطانيا، في استخدام عصري مثير للتكنولوجيا الحديثة بمختلف المؤثرات والصوتية والبصرية المصاحبة للمسرح الإلكتروني.

جلس جمهور «تيت» على الأرض بعد أن ارتدوا فوق ملابسهم أردية بيضاء تغطي رؤوسهم، أعطاها إياهم طاقم العمل الفني، ليكونوا امتدادا للممثلين الذين تماهوا مع الجمهور في اللباس، وبدأوا بأداء لوحات سريعة وغريبة مرفوقة بسينوغرافيا مباغتة وأداء جسدي تعبيري ماهر مع موسيقى وصوت إلكتروني مضخم، يمنح المشاهدين أكثر من مفتاح لتفسيره. وبذلك أصبح الجمهور أكثر من متلقّ جاء ليرى مسرحية تاريخية بحبكة تقليدية وأسس درامية جاهزة، بل لينفتح له منفذ يفضي للتجريب وينحو منحى جديدا في تكوين العملية المسرحية وعناصرها الأساسية من ممثل ومشاهد.

وسبق أن عرضت المسرحية جامعة «غرينتش» حين أقامت ورشة عمل فنية خاصة بالمسرح الإلكتروني، درّس فيها المخرج الصربي (فهر الدين سالحبيغوفتش ننو) فن التقنيات البصرية، وحاضر عن الإخراج المسرحي فيها المخرج العراقي حازم كمال الدين، المقيم في بلجيكا، الذي تمتد تجربته في المسرح لسنوات طوال، منذ أن كان في مدينته الصغيرة الحلة في منتصف السبعينات، مرورا بتجربته مع فرقة المسرح الفني الحديث، واليوم، وهو يمارس الإخراج والتمثيل، إضافة إلى الكتابة المسرحية في محاولات لتحويلها إلى نصوص سردية، نتجت عنها روايتا «أورال - شفاهيات»، و«عند مقام السيدة».

يعرّفنا بالمسرحية مخرجها حازم كمال الدين بقوله: «نحن الآن في (تيت)، في صالة فنية معروفة باسم (الديوفينز)، وفي عام 2027.. في حدث مستقبلي يصور ما بعد الرؤيوية، حين يجد الجميع من ممثلين ومشاهدين أنفسهم في معسكر كبير للاجئين.. ويُحكى أن هناك رجلا يدعى أوديبس، رفض الانحياز إلى أي طرف من أطراف النزاع في الحروب الدائرة، وحاول الهرب عن طريق التغلغل إلى برنامج كومبيوتري اسمه (دخول)، هذا البرنامج يتيح معرفة عالم الكومبيوتر، وهو عالم يخلو من الشرور والكراهية والأمراض والموت.. وبعد فترة وجيزة، يتمكن أوديبس من حل سر شفرة تحمي البرنامج وهي كلمة (إنسان).. فتنقل شخصيات المسرحية إلى عالم الكومبيوتر، كما يعتقد أوديب، لكنهم يدخلون من برنامج فيروسي اسمه (أبو الهول) أو (سفنكس)، الذي يحاول منع أوديب من الوصول إلى كلمة (دخول) في برنامج يؤمن السماح بالدخول.. وهكذا بدأ حكم أوديب، لنرقص».

تلك غرائبية ليست نائية عن مسرح الـ«ساي فاي» أو الخيال العلمي، أو المسرح الرؤيوي السايبري المعتمد على ربط وضبط أنظمة ميكانيكية وعضوية وإلكترونية مع نظم اصطناعية.. تغريب وتحديث في الرؤية الفنية وربطها بمحور العصر الحالي والمستقبلي، الذي يزخر بالتقنيات التكنولوجية الحديثة في شتى صورها؛ من مؤثرات صوتية وبصرية وكوريوغرافية وإمكانيات ليزرية ورقمية مرئية وسمعية عالية، غير الحوار، وبتصميم حركات متوالية للجسد وتكويناته ونقلاته الراقصة ومرونته وآليته بطريقة يعكس عبرها الفكر والوجود الإنساني، وسبيل نقل الأفكار، في نزعة ترمي إلى كسر التقليد وخلق مهارات جديدة تمسك بمفتاح العصر المقبل المتواتر السرعة والتغيير، وترتكز على التكنولوجيا باعتبارها الأداة الرئيسة لتحقيق الحلم الفني، والمنفذ الرئيسي لرؤى مخيلة الفنان المسرحي النافرة من المعتاد السائد والمألوف الشائع.

يعلن المذيع في الجهاز التصويري العاكس والمبثوث على حائط الصالة، وعبر تلفزيون بلدة «تي بي» أو «طيبة»: «ما هو سبب الوباء في (تي بي)؟ من سمح لهذا الكرنفال المجنون لعديمي الضمير والأخلاق ليحكموا ويسيطروا ويحطموا هذه الدولة؟ من هو الملوث ومن هو الناجي؟ ومن المعروف أن مسرحية «أوديب» للأغريقي سوفوكليس، قد استلهمها أو أعاد كتابتها عشرات من المؤلفين من سينيكا حتى فولتير وكوكتو وجيد وكورناي وتوفيق الحكيم وعلي سالم ولويس عوض وغيرهم، وجسّدتها معظم الأعمال الأدبية والفنية في الكثير من المسارح والصالات في كل العالم، ومثلها كثيرون من المبدعين بمختلف الرؤى الفنية، أبرزها على سبيل المثال، على مسرح الفضاء الفارغ عام 2005 في أميركا، ورالف فينس عام 2008 في المسرح الوطني البريطاني، ومثل برؤية إخراجية أخرى متميزة في أستراليا عام 2009، وأسهم الكثير من الأدباء والفنانين في إضفاء رؤية معاصرة لتلك الأسطورة التي تنسل من القلق الإنساني وفكرة قسوة المصير الذي يتربص بالإنسان وقدره الذي لا مفر منه، مع هاجس القلق الإنساني الموغل في العمق والتصدعات السيكولوجية الناجمة عن شخصية البطل التراجيدية (مذنب وبريء في الوقت ذاته) وما تطرحه من شفقة وخوف في عقل ونفس المتلقي. وقد استخلص سوفوكليس جوهر كل ذلك ببالغ دقّة حين كتب: «ليس هناك أجمل وأفظع من الإنسان».