«السرد النسوي» و«الاعتراف» و«التخيل التاريخي»

ثلاثة كتب جديدة لعبد الله إبراهيم

TT

صدرت عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت ثلاثة كتب جديدة للناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم، المتخصص في الدراسات السردية، وهي بمجملها تتويج لمسيرته النقدية التي عرفت على نطاق واسع بصدور «موسوعة السرد العربي». وأول هذه الكتب هو «السرد النسوي: الثقافة الأبوية، والهوية الأنثوية، والجسد»، الذي عالج فيه ظاهرة السرد النسوي في الأدب العربي الحديث، حيث انبثقت هوية «السرد النسوي»، كما انتهى إلى ذلك، من حضور أحد المكونات الثلاثة الآتية أو اندماجها معا فيه، وهي: نقد الثقافة الأبوية الذكورية، واقتراح رؤية أنثوية للعالم، ثم الاحتفاء بالجسد الأنثوي، فتشابكت تلك المكونات من أجل بلورة مفهوم «السرد النسوي». وفرق بوضوح بين كتابة النساء، والكتابة النسوية، فالأولى تتم بمنأى عن فرضية الرؤية الأنثوية للعالم وللذات إلا بما يتسرب منها دون قصد، أما الثانية فتتقصد التعبير عن حال المرأة استنادا إلى تلك الرؤية في معاينتها للذات وللعالم، ثم نقد الثقافة الأبوية السائدة، وأخيرا اعتبار جسد المرأة مكونا جوهريا في الكتابة، وينبغي أن يتم كل ذلك في إطار الفكر النسوي، ويستفيد من فرضياته وتصوراته ومقولاته، ويسعى إلى بلورة مفاهيم أنثوية من خلال السرد، وتفكيك النظام الأبوي بفضح عجزه.

ويرى إبراهيم أن «السرد النسوي» يندرج في سياق نصوص المتعة، تلك النصوص التي تزعزع معتقدات المتلقي، وربما تخربها، فتخلف لديه إحساسا بأنه يقرأ نصوصا لا تنسجم وما عهده من تخيلات موروثة عن العالم الذي يعيش فيه، فهي تضمر نقدا له، وتبرما به، وبكل ذلك تستبدل رغبة في حريات فردية مغايرة للحريات الجماعية المبهمة التي تواطأ عليها الآخرون. إلى ذلك يقوم «السرد النسوي» بتمثيل تجارب لا تعرف الولاء، وفيها من الخروج على الأعراف أكثر مما فيها من الامتثال لها، فتتحرك في مناطق شبه محرمة، وتحدث قلقا في الانسجام المجتمعي، لأنها تريد أن تقطع صلتها بالموروث حينما تشك في كفاءته وجدواه، وهي بمجموعها تختلف عن الكتابة الباعثة على الارتياح التي تستجيب لتوقعات المتلقي، وتشبع رغباته، وتتوافق مع الأعراف السائدة. براعة السرود النسوية في ما تترك من أسئلة لا ما تخلف من استرخاء.

أما الكتاب الثاني «السرد والاعتراف والهوية»، فيثير موضوعا إشكاليا حول سرديات الاعتراف، وموقع الأقليات في السرد العربي الحديث، وفي هذا الكتاب أكد الناقد العراقي أن أدب الاعتراف يقترن بالهوية، فلا يمكن انتزاع الكاتب من الحاضنة الاجتماعية والثقافية التي يشتبك بها؛ ذلك أن أدبه يقوم بمهمة تمثيلها، وبيان موقعه فيها، فلا يطرح موضوع الهوية في السرد، والاعتراف بها، إلا على خلفية مركبة من الأسئلة الشخصية والجماعية، وتبادل المواقع فيما بينهما؛ فالكاتب منبثق من سياق ثقافي، وتجد كل الإشكاليات المثارة في مجتمعه درجة من الحضور في مدونته السردية. لكن أدب الاعتراف محط شبهة وموضوع ارتياب؛ لأن الجمهور لم يتمرس في قبول الحقائق، فيرى في جرأة الكاتب على كشف المستور سلوكا غير مقبول، وإفراطا في فضح المجهول، فالاعتراف محاط بكثير من ضروب الحذر في مجتمعات تقليدية تتخيل أنها بلا أخطاء، وتتحاشى ذكر عيوبها، وتتوهم أنها تطهرت من الآثام التي واظبت على اقترافها مجتمعات أخرى، فتدفع المخاوف كثيرا من الكتّاب إلى اختلاق تواريخ استرضائية لمجتمعاتهم، وابتكار صور نقية لذواتهم، متجنبين كشف المناطق السرية في تجاربهم، وإظهار المسكوت عليه في مجتمعاتهم، فصمتوا عما ينبغي عليهم قوله أو زيفوا فيه، وربما أنكروا وقوعه، يريدون بذلك الحفاظ على الصور الشفافة لهم ولمجتمعاتهم. ولم يزل أدب الاعتراف يتلقى إما بوصفه جملة أسرار، أو على أنه مدونة فضائح، فسوء الظن يتربص بالكتّاب والقراء على حد سواء، ولا غرابة أن نجد ندرة فيه، إذ يعمق الخوف من المتلقين رغبة في الصمت لدى الكاتب، وهذا يطمر في طياته تزييفا للتاريخ الشخصي وللتاريخ العام، ويجعل من خداع الذات والآخرين سلوكا شائعا، فتتوارى الوقائع المهمة، أو يقع تخطيها، وكل هذا يتعارض مع وظيفة أدب الاعتراف الذي يستبطن المناطق المخفية من حياة الأشخاص، ثم المجتمعات بعد ذلك.

على أن الناقد اقترح في كتابه الأخير «التخيل التاريخي: السرد والإمبراطورية والتجربة الاستعمارية» أن الوقت قد حان لكي يحل مصطلح «التخيل التاريخي» محل مصطلح «الرواية التاريخية»، فهذا الإحلال سوف يدفع بالكتابة السردية التاريخية إلى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية، وحدودها، ووظائفها، ثم إنه يفكك ثنائية الرواية والتاريخ، ويردم الهوة فيما بينهما، ويعيد دمجهما في هوية سردية جديدة، وإلى كل ذلك فسوف يكبح البحث المفرط في مقدار خضوع التخيلات السردية للمرجعيات التاريخية، فينفتح على كتابة سردية لا تحمل وقائع التاريخ، ولا تعرفها، إنما تبحث في طياتها عن العِبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وعن التماثلات الرمزية فيما بينها، فضلا عن استيحاء التأملات والمصائر والتوترات والانهيارات القيمية والتطلعات الكبرى، فتجعل منها أطرا ناظمة لأحداثها ودلالاتها، فكل تلك المسارات الكبرى التي يقترحها «التخيل التاريخي» سوف تنقل الكتابة السردية من موقع جرى تقييد حدوده النوعية إلى تخوم رحبة للكتابة السردية المفتوحة على الماضي والحاضر؛ لأن «التخيل التاريخي» هو المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية، وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية، فابتكار حبكة للمادة التاريخية هو الذي يحيلها إلى مادة سردية، ثم إن الكتاب رحلة شائقة في السرديات الإمبراطورية، ولعله من أوائل الكتب النقدية التي عالجت بتوسع كيفية تمثيل الخطاب الاستعماري للعالم.