«ألعاب الفيديو» تنتزع لقب «الفن العاشر»

عالم مركب من الإبداعات يخلط القصة وتحريك الشخصيات مع الموسيقى

TT

لا يبدو أن النقاش الدائر في باريس ونيويورك حول ما إذا كانت «ألعاب الفيديو» تدخل ضمن الفنون التي يجب أن يعترف بها كما السينما والتشكيل والموسيقى, يشرف على الحسم بعد أن خصص متحف «غراند باليه» الباريسي معرضا مخصصا لألعاب الفيديو.. وإطلاق اسم «الفن العاشر» على هذا الصنف من المبتكرات يعني أن فنونا حديثة أخرى ما زالت يتيمة ستطالب بحقها في الوجود تحت قبة الفن الدافئة. نعم «ألعاب الفيديو» فن يستحق الاهتمام ومبتكرو هذه النتاجات مبدعون كبار.

متحف «غراند باليه» الذي احتضن أكبر المعارض الفنية، فاجأ زواره هذه الأيام بعرض فريد من نوعه. فالمبنى الكبير الواقع في شارع وينستون تشرشل، بالقرب من جادة الشانزلزيه، اختار أن يفتح أبوابه هذه الأيام لوافد جديد على عالم الفنون والثقافة طالما اعتبر أداة ترفيه وتسلية لكنه نجح أخيرا في انتزاع اعتراف الوسط الفني والثقافي باعتباره شكلا من أشكال التعبير الفني الحديث: ألعاب الفيديو.

معرض «غامس ستوري» يبقى رمزا قويا لكنه لا يحسم الجدل القائم حول علاقة ألعاب الفيديو بعالم الفن والثقافة. وهذا على الرغم من المشوار الطويل الذي قطعته لعبة الفيديو والتطورات الكبيرة التي عرفتها منذ بداياتها في السنوات السبعين إلى غاية الآن. فالإنتاجات الأخيرة كـ«فانتازي» و«لجوند أوف زيلدا» أو «ميست» و«ريفن» للإخوة ميلر، هي باعتراف شخصيات من عالم الفن والثقافة أقرب إلى الإبداعات الفنية منها إلى الألعاب الترفيهية: تصميم بارع للرسومات والشخصيات، سيناريو مُحكم، مؤثرات موسيقية راقية وتقنيات رقمية دقيقة تنم كلها عن حس إبداعي كبير ومهارة تقنية عالية، وهي لا تشبه في شيء النماذج الأولى التي صممت في بدايات السبعينات كلعبة «بونغ» أو «سبانس إنفايدرز».

الجدل القائم قسم الوسط الفني والثقافي إلى معسكرين متباينين، فمنهم من يعارض اعتبار ألعاب الفيديو كشكل من أشكال الفن الحديث بحجة أن مفهوم الفن يتعارض مع البعد المادي والترفيهي اللذين يميزان هذا النوع من الإنتاج، ومنهم من يوافق ويعتبره شكلا فنيا جديدا في منعطف الطريق ما بين تعابير فنية مختلفة كالسينما، التصوير، التصميم الرقمي، الهندسة والتاريخ، إنما يختلف فقط من حيث معاييره وتقنياته والجمهور الذي يتوجه إليه.

على أن قطاع ألعاب الفيديو هو قبل كل شيء قضية مواهب ومهارات فنية وإبداعية. وهو ما جعل كثيرا من محبي هذا النشاط الإبداعي الجديد يطلقون عليه تسمية: «الفن العاشر»، علما بأن هذه التصنيف الجديد يضم أيضا أنواعا أخرى من الفنون الرقمية، كاللوحات الرقمية، والرسم على الحاسوب. وهو غالبا ما يعتمد على شباب، بعضهم تلقى تكوينا خاصا في معاهد معروفة كـ«سوب أنفوغام»، «إزارت»، أو «كريا جو»، وبعضهم دخل هذا المجال بشهادات لا تمت بصلة لهذا المجال.

يقول ستيفان داستوز من مجموعة «أوبي سوفت» الفرنسية التي توظف أكثر من 2400 شاب: «وظفنا مهندسين ومبرمجين ورسامين ولكننا قبلنا أيضا شبابا من معاهد وجامعات مختلفة فقط لأننا اقتنعنا بأنهم يملكون موهبة فذة وحسا إبداعيا وخيالا خصبا».

مرحلة «التصميم» أول خطوة في عملية إنتاج هذه الألعاب تحمل كل «البعد الفني» لهذا الفن الحديث، ففيها تتم كتابة السيناريوهات وتحديد الرؤية الكاملة للعبة. وهي تدوم من أربعة إلى خمسة أشهر. يقول دانيال إركسون كاتب سيناريو لعبة «ستار واغز، ذي أولد غوبوبليك»: «لكل شخصية حكايتها ودوافعها التي تكون لنا حبكة القصة»، ويضيف هذا الخريج السابق لمعهد الأدب والتاريخ: «ولهذا فإن كتابة السيناريو تتطلب منك أن تخلق عالما وهميا جديدا بحكايات وشخصيات، وديكورات مختلفة وأن تطلق العنان لخيالك، تماما كما يفعل الرسام وهو يرسم لوحته أو الكاتب وهو يؤلف. وفي كل مرة يجب تكييف طريقة الكتابة مع هذه المعطيات».

في مرحلة الإنتاج التي تدوم نحو سنتين يتم بعث الحياة في السيناريو بتصميم ونمذجة الشخصيات والديكورات، ثم الدبلجة التي تشبه، كما يقول بُونوا مجاميل، الممثل الفرنسي الذي يدبلج الصوت الفرنسي لبطل لعبة «كول أوف ديوتي»، عمل الممثل السينمائي. فنحن نجسد شخصية بصوتها وهويتها وأسلوبها الخاص تماما كما نفعل عندما نتقمص دورا في السينما.

المؤثرات الموسيقية هي الأخرى مهمة في هذه المرحلة من الإنتاج. لعبة «ريد ديد غودمبشون» مثلا توفر بشهادة المختصين عدة مقاطع موسيقية راقية لم نعتدها إلا في الإنتاج السينمائي، تذكرنا إلى حد كبير بموسيقى الملحن الكبير «إنيو موريكون» في فيلم «ذي غود، ذي باد آند ذي أوغلي». أولفيفيه سيغوري ناقد سنيمائي فرنسي من صحيفة «ليبراسيون» معروف بمواقفه المدافعة عن ألعاب الفيديو. اختار أن يجمع في صفحته ما بين نقد الإنتاج السينمائي وألعاب الفيديو لأنه يؤمن بأن لهذه الأخيرة مكانتها أيضا في صفحة الثقافة. الناقد المعروف الذي لقي معارضة زملائه بقي مصرا على موقفه، وهو يؤمن بأن التطورات التي يعرفها الفن الرقمي هي الآن بصدد إنصافه.

أما جاك أتالي الخبير الاقتصادي المعروف فقد ذهب لغاية التنبؤ على صفحات موقع «سلات» الإخباري بأن ألعاب الفيديو ستكون «سينما المستقبل» مستشهدا بالنجاح الكبير الذي سجله فيلم «أفاتار» لجيمس كاميرون.

الأميركيون فتحوا هم أيضا باب النقاش في هذا الموضوع منذ سنة 2006 عندما تساءل موقع «ديسكوفري نيوز»، «آر فيديو غام أرت»؟ (هل ألعاب الفيديو فن؟) سؤال عقب عليه كثيرا الناقد السينمائي الشهير، روجي إبارت، في عدة مقالات نشرت في صحيفة «سان تايمز»، إلا أن اعترف مؤخرا في مدونته الشخصية: «كنت أحمق عندما أعلنت بأن لا علاقة تجمع ألعاب الفيديو بالفن، وكنت لا أفهم هذا التعبير الجديد. ومع أني لا أصدر حكمي على أي فيلم دون أن أكون قد شاهدته، فإنني تسرعت، هذه المرة، وأطلقت حكما من دون أن أجرب. وهي خطوة لن أقدم عليها ثانية».

على أن السؤال الذي لا يزال يقسم الوسط الثقافي والفني حول علاقة قطاع ألعاب الفيديو بمجال الفن، كان قد حسم منذ مدة في سوق المال والاقتصاد اللذين فتحا له الأبواب على مصراعيها بعد أن أصبح قطاعا مهما يدر أرباحا خيالية؛ فهو، على سبيل المقارنة، أصبح أثقل وزنا من قطاع السينما، بعد أن بلغت أرباحه عام 2011 خمسون مليار يورو، وقد تصل حسب توقعات مكتب الدراسات«إيدات» إلى 80 مليارا، عام 2015.

بعض الألعاب الناجحة بيعت بملايين النسخ: كـ«فاينال فانتيزي» مثلا، التي أنتجت منها الشركة اليابانية «سكوار إنيكس» أكثر من 85 مليون نسخة. علما بأن أرباح هذا القطاع تبقى في مستوى طموحات المستثمرين. فكثيرا ما تكون ميزانية بعض المشاريع مساوية لميزانية إنتاج سينمائي ضخم. فتكاليف لعبة «دوس إكس: هيومان غيفولوشن»، من تصميم شركة كندية تدعى «استوديو إيدوس»، بلغت 50 مليون دولار. وهو ما يساوي ميزانية إنتاج فيلم كرتوني ضخم كـ«شريك فور إيفر»، كما استغرق العمل فيها أكثر من أربع سنوات، وتطلبت مشاركة أكثر من 130 تقنيا ومصمما.

الآفاق الاقتصادية الواسعة لهذا القطاع أثارت شهية كثير من الدول التي راحت تشجع ظهور صناعة الفن الرقمي الترفيهي. ففرنسا، التي تزن فيها سوق ألعاب الفيديو 3 مليارات يورو مثلا، منحت، إبان حكومة رئيس الوزراء السابق دومينيك دو فلبان، لشركات تصميم ألعاب الفيديو خصما ضريبيا وصل لنسبة 20 في المائة، بشرط أن يراعي مبدعو هذه الألعاب البعد الثقافي في إنتاجاتهم، والابتعاد عن التحريض على العنف. وإن كان هذا القطاع من مسؤوليات وزارة الاقتصاد الرقمي، فإن وزارة الثقافة تسانده ماديا أيضا. وهي التي منحت منذ عام 2003 أكثر من 25 مليون يورو لصالح 220 مشروعا معظمهم لمبدعين شباب.

أما كندا التي باتت تنافس اليابان في هذا المجال، فقد ذهبت لأبعد من ذلك، فهي تستقبل في مقاطعة كبيبيك، الناطقة بالفرنسية، أكثر من 85 شركة ناشطة في هذا المجال من بين الأكثر شهرة في العالم: «(أكتيفيزين)، (إلكترونيك أرت)، (إيدوز)، (تي إش كو)، وتمنحهم عدة تسهيلات إدارية وخصما ضريبيا يصل لنسبة 37.5 في المائة حتى إن الاهتمام بتطوير صناعة تصميم ألعاب الفيديو أصبحت ضمن أولويات الحكومة الكندية التي تعتبرها «حجرة أساسية» في قطاع الصناعات الذي ترعاه.

منح وزارة الثقافة الفرنسية لمصممي ألعاب فيديو معروفين كـ«فريديريك رينال» و«شيجورو مياموتو» وسام «فرسان الفنون والأدب»، وقرار مؤسسة الفنون الأميركية بتغيير تسمية «الفنون في الإذاعة والتلفزيون» إلى «الفنون في وسائل الإعلام الحديثة»، هي كلها مبادرات جديدة نحو اعتراف شبه رسمي بألعاب الفيديو كتعبير فني جديد. وقد يكون تعريفا شافيا وجامعا حول ماهية «الفن الحقيقي» هو وحده الكفيل بحسم هذا الجدل الجديد.