جمعة أحمد عتيقة: لم أتوقع أن تنشر مذكراتي في حياتي

محام ليبي عمل مساعدا لسيف الإسلام لـ«حقوق الإنسان» يكتب عن سنوات اعتقاله

TT

تصدر قريبا عن دار الرواد في طرابلس بليبيا مذكرات المحامي الليبي المعروف جمعة أحمد عتيقة، الذي عمل فترة مساعدا لسيف الإسلام القذافي في مجال حقوق الإنسان.

وقد قسم المؤلف مذكراته إلى 4 أقسام؛ فترة الاعتقال الأولى (1973 – 1974)، فترة الغربة والترحال (1977 – 1988)، فترة السجن الثانية (1990 – 1997)، وفترة الاعتقال الثالثة (2009). يقول عتيقة في مقدمة كتابه: «حينما كتبت هذه المذكرات سنة 2007، أثناء وجودي خارج ليبيا، وكُتب الفصل الأخير سنة 2010.. لم أكن أتوقع أن تنشر في حياتي، فالظلام كان حالكا وخيوط الأمل تتبدد مع مضي العمر، وقد أوصيت أولادي بنشرها حينما ينقشع الظلام ويغمر ليبيا ضياء الحرية.. غير أن الله قد من علي بأن أشهد لحظة الانتصار العظيم وانكسار جحافل الطغيان والتخلف والجريمة، وها أنذا أقدمها للقارئ كما كتبت حينها».

هنا مقتطفات من فصل «فترة السجن الثانية 1990 - 1997»:

رغم أنني انصرفت إلى محاولة بناء مستقبل مهني وحياة مستقره وركزت على عملي وترسيخ جذور الأسرة اجتماعيا في ليبيا بعد انقطاع طويل، فإن ما كان يجري لم يكن يدعو للاطمئنان.. فبعد مرور أقل من سنة على صدور الوثيقة وإطلاق سراح السجناء في ما عرف (أصبح الصبح) بدأت أوائل سنة 1989 حملة اعتقالات واسعة لمجموعات كبيرة من الشباب في جميع أنحاء ليبيا ممن عرفوا عند الناس بـ(شباب السنة) وأطلق عليهم النظام صفة (الزنادقة)، وخطب القذافي خطبة نارية وصف فيها المعتقلين بأنهم (كالمصابين بالسرطان من الدرجة الرابعة) ودعا أهلهم إلى نسيانهم واعتبارهم في عداد الأموات.. كانت نذر ومؤشرات العودة للمربع الأول تلوح في الأفق وتنبئ بجولات جديدة من العسف والقهر وغياب الضمانات القانونية.. ومضت الأيام بين الأمل والتوجس والريبة والتطلع حتى كان يوم 4 رمضان.. 13 أبريل 1990.. عندما أيقظتني زوجتي نحو الساعة العاشرة صباحا لتخبرني بأن شريكي في المكتب (ضو المنصوري) يطلب مني الحضور فورا إلى المكتب، استغربت هذا الاستعجال وذهبت إلى مكتبي لأجده جالسا إلى مكتبه وأمامه اثنان.. (علمت في ما بعد بأنهما منعاه من مغادرة مكانه حتى حضوري) سلمت وتركتهم لأدخل مكتبي لحقا بي وبعد عبارات المجاملة التقليدية ذكر لي أحدهما أن علي أن أصحبهم لمدة (خمس دقائق) وبينما لاحت مني ابتسامة أردف (إنها حقا خمس دقائق للاستفسار وليس خمس الدقائق التي في ذهنك)!! وعندما سألتهما عن السبب ذكرا بأنه مجرد استفسار عابر.. ذهبت معهما وأنا لا أعرف ولا أستطيع التخمين عن سبب هذا الإجراء.. أودعت مبنى المباحث الجنائية في شارع النصر دون سؤال مما زاد حيرتي، وفي المساء أخذت في سيارة (المباحث) إلى مجمع المحاكم ومثلت أمام الأستاذ (أحمد مريحيل)، رئيس نيابة جنوب طرابلس.. وعندما واجهني بالتهمة الملفقة ضحكت سخرية واستشعرت خطرا مبيتا.. انتهى التحقيق في ساعة متأخرة ليلا وكان يتركز حول اتهامي (بالتحريض) على اغتيال أحد أعضاء السفارة الليبية في روما سنة 1984، أجبت بما يفند هذه التهمة وينفيها، وبخاصة أن المحقق قد واجهني بأقوال متهم آخر.. ذكر بأنه حضر لي في روما بغرض القيام بعملية الاغتيال وإنني حرضته على ذلك.. مما يؤكد انهيار أركان الاتهام.. فإذا كان المتهم قد حضر إلى روما وهو ينوي القيام بفعلته فما أثر التحريض اللاحق إن صح، حيث من المعلوم بداهة أن التحريض المعاقب عليه في المساهمة الجنائية هو الذي (يخلق فكرة الجريمة في ذهن الجاني).. أما ما ورد في الأوراق فهو لا أثر قانونيا له.. أيقنت أن مؤامرة ما حيكت ونسجت لتوريطي.. علمت بعدها أن (إبراهيم البشاري) كان المخرج الرئيسي للمسرحية، حيث أخبرني المتهمان الآخران معي بأنه اجتمع بهما ووعدهما بالخروج فورا وطي الملف لمجرد الاعتراف علي وعلى نفسيهما وقد بلعا الطعم وانطلت عليهما المكيدة!!

بعد إنهاء التحقيق أرسلت إلى سجن بو سليم الذي ما إن عبرت بوابته الرئيسية حتى تغيرت طريقة المعاملة كليا.. حيث ثم وضع كيس (من الخيش) على رأسي يحجب الرؤية ويكتم الأنفاس، وبدأت أسمع عبارات الإهانة والنهر والتقريع دون سبب، وبعد إجراءات التسجيل في إدارة السجن نزعت نظارتي الطبية، ولما أوضحت لهم عدم قدرتي الاستغناء عنها ابتسم أحد الجلادين واسمه (عبد القادر التاورغي) وقال (ما عندك ما تشوف داخل)!! (لقد أثر ذلك على قوة بصري وأصابني بالمياه البيضاء التي أجريت عليها أكثر من عملية بعد خروجي من السجن).. قادني عبد القادر من يدي بعد أن أعاد وضع الكيس الخيش على رأسي عبر ممر طويل كان يطلب مني أثناء السير أن أخفض رأسي، مما ولد لدي إيحاء بأني أنزل في سرداب عميق، ولم يكن الأمر كذلك، ولكنه بداية ممارسات القهر والتنكيل والإيذاء النفسي..

قذف بي في زنزانة مظلمة سعتها متران في ثلاثة بداخلها دورة مياه.. وفي الصباح حالما تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود بدأت في استطلاع ملامح وأجواء الزنزانة لأفاجأ بصورة قاتمة.. بقايا دماء على الجدران.. خيوط عنكبوت بالية.. مجموعة من الفئران الصغيرة تتسلق الجدران وتلهو بين السقف وفتحات الممر المعتم.. وكأنها تشهد على ظلم الإنسان وقسوة الطغاة. كنت بعد مدة من قذفي في الزنزانة التي كان يلفها هدوء قاتل حسبت معه أنني هنا وحدي حتى سمعت صوتا ينادي (السلام عليكم) وبحذر شديد رددت السلام.. ليسألني الصوت عن اسمي وتهمتي، ولم أكن في وضع من الثقة في مصدر الصوت ما يجعلني أقدم إجابة صحيحة فأجبته بما اتفق حينها.. وتكررت الاستفسارات من باقي الزنازين.. وهكذا بدأ التواصل مع من سأقضي معهم قرابة (ثلاثة أشهر) في السجن الانفرادي.

* زنازين السردين البشري

يتكون قسم الزنازين من قاطعين، كل قاطع يحتوي على 20 زنزانة انفرادية صممت لشخص واحد يعيش فيها ضيق السجن المركز. غير أنني فوجئت بأن زنزانة (19) و(20) تحتوي كل منهما على 4 من السجناء، تعرفت على أسمائهم في ما بعد؛ أذكر منهم (خالد الهنقاري) و(العريبي) و(الزواوي) وغيرهم.. لم يكن الأمر متصورا وأمام استحالته منحهم الجلادون أَسرة تُركب فوق بعضها.. كانت معنويات هؤلاء الشباب في أحسن حالاتها يقرأون القرآن ويلقون الدروس يوميا بعد العصر التي تتناول عبرا من تاريخ الإسلام.. أو مواعظ منبرية مكررة.. ولم يكن لديهم أي إحاطة أو أفق أو تحليل سياسي أو مضامين اجتماعية هادفة.. جلهم تلاميذ نجباء لمدرسة التلقين والتلقي.. ولكنهم يتقدون وطنية وصدقا.

كانت بداية دخولي السجن في أوائل شهر رمضان 1990.. رمضان الموائد العامرة وسهراته الطيبة وأجوائه الاجتماعية المميزة.. عندما خرجت من الزنزانة لجلب (وجبة الإفطار) في أول يوم وقفت بعد أن دلق الحارس (ماء ساخنا ملونا في صحني) انتظر أن يعطيني شيئا آخر خاصة قطعة لحم (رمضانية)، إلا أنه نهرني على وقوفي وطلب مني الانصراف فانصرفت وكلمات السباب والإهانة تتناثر حولي.. حتى دخلت زنزانتي.. كان الوقت بعد العصر بقليل وعلى انتظار نحو ساعتين حتى يحين موعد الإفطار فقمت بفت رغيف الخبز الذي يوزع علينا صباحا في هذا (المرق المائي) وانتظرت موعد الإفطار.. وأنا أكاد لا أصدق أن هذا هو نمط الإعاشة في رمضان.. ولكنني تعودت بعد ذلك وأصبح الأمر عندي مألوفا لا يثير أي شعور بالتذمر.. فإن لم تواجه محنتك بصبر ووعي وتجلد فسوف تبتلعك وقد تقضي عليك وهو ما يوده ويريده من وضعوك في الجب.. استمرت حياتنا في الزنازين رتيبة ليس فيها ما يملأ فراغها القاتم.. فلا خروج للتهوية.. ولا كتب للقراءة، بل إن الكلام والتواصل مع الزنازين الأخرى أمر مجرم يؤدي إلى العقاب الشديد إذا انتبه الحرس إلى ذلك، وأذكر أنني في ليلة عيد الفطر 1990 وبعد أن أيقظني صوت الحرس، وهو يعلن أن غدا عيد، وأن وجبة السحور التي لم تتجاوز مغرفة من (المعكرونة المبكبكة أو الرز المطبوخ من دون لحم) قد ألغيت.. وبعد أن توقعنا ابتعاد الحرس بدأنا في تبادل التهاني بالعيد.. وبينما كنت مستغرقا في حديث مع أحد قاطني الزنازين.. الذي لم أره حتى ذلك الحين إذا بباب الزنزانة يفتح.. ويدخل حارس (التوكة) واسمه (ضو) ومعه أحد الحراس الآخرين.. وأخرجوني أمام باب الزنزانة، وبدأ الحارس في ضربي وتسديد لكمات إلى وجهي وصدري ثم التقط (الشبشب البلاستيكي) الذي كان ينتعله وبدأ في ضربي على كتفي مما خلف أثرا وزرقة داكنة لم تختف لأكثر من عام بعدها.. ثم أدخلاني الزنزانة بعد أن طلبا مني أن أدلهما على الشخص الذي كنت أتحدث معه.. ولما أعلمتهما أني لا أعرف رقم الزنزانة ولا أعرفه شخصيا.. قفلا باب زنزانتي لأسمعهما يفتحان أحد الزنازين الأخرى عشوائيا وأسمع صراخ استغاثة من قاطنها الذي يبدو أنه كان أكثر ذكاء مني، فصراخه واستغاثته جعلتهما لا يطيلان مدة ضربه، ويبدو أن ذلك أحد أهدافهم.. ومن المفارقات الطريفة، حسب ما روى لي الإخوة الذين كانوا يتلصصون من ثقوب باب الزنزانة لرؤية المشهد المؤلم، أن (الحارس الأسمر) الذي قام بضربي قد استند فور خروجه من زنزانتي على الحائط وأخرج (بخاخه) الأكسجين ووضعها في فمه وهو يلهث.. لقد كان مصابا بضيق التنفس (الأزمة)، وهكذا يربي الطغاة الجلادين على احتراف الإجرام وممارسة التعذيب بسادية مقيتة.

تلقيت بعد أن هدأ الجو (مكالمات!!) المواساة ورفع المعنويات من قاطني الزنازين الأخرى.. وما زلت أذكر صوت (أبي ذر) ذلك (التارقي) الأسمر (عرفته في ما بعد في الجماعي) الذي كان عضوا في حركة اللجان الثورية قبل اكتشافه لضلالهم وانحرافهم (حسب تعبيره) إذ رفع (أبو ذر) صوته عاليا مرددا بيتين من الشعر..

يا ظلام السجن خيّم

إننا نهوى الظلاما

ليس بعد الليل إلا

فجر صبح يتسامى

لم أشعر أن الاعتداء قد لامس أي شعور لدي بالإحباط أو المهانة أو الغبن فأنا أعي أن تلك ضريبة غياب القانون وهذا قدَر المناضلين الشرفاء، بل إنني وحتى هذا اليوم لا أشعر بأي ضغينة وحقد تجاه من عذبوني، بل أعتبرهم جزءا من ضحايا هذا الواقع المأزوم.

* بداية حفظ كتاب الله

في إحدى الليالي فتح باب الزنزانة وألقى الحرس بحقيبة (ساكو) على أرضية الغرفة وانصرف.. فرحت كثيرا بذلك، فنحن محرومون من كل شيء، وإرسال مثل هذه الحاجيات يعتبر حدثا كبيرا، كما أن وصولها هو الحدث الأكبر.. فأهالي السجناء يبعثون لأبنائهم دوريا بما يستطيعونه، ومنهم من يقتطع ذلك من قوته وخبزه، ولكنها لا تصل.. حيث يتقاسمها الحرس (غنيمة) في ما بينهم.. فرحت بالمفاجأة، خصوصا أنني تلمست في الظلام وجود (كتاب) خمنت أنه مصحف، حيث لا يسمح بدخول غيره للسجن.. وحينما تنفس الصبح زادت فرحتي حينما تأكدت من ذلك.. وبدأت رحلة الحفظ على الطريقة التقليدية.. حيث لم أكن قد تعلمت (أحكام التلاوة) بعد، حيث تعلمتها على يد إخوة كرام في (الجماعي).. جزاهم الله عني كل خير.. سعدت بصحبة كلام الله وعشت في أجواء معانيه وصوره وعظاته.. الأمر الذي خفف عني وقع آلام العزلة والقيود.