الإعلام الإلكتروني.. سلطة عصرنا الخامسة

الحرية مطلوبة.. لكن في إطار الذوق العام

TT

يتفق الباحثون على أن الإعلام أصبح أبرز أسلحة عصرنا.. يستخدم في الحروب، مثلما يستخدم في التنمية، ويستخدم في التنوير الفكري كما في التضليل، ويمثل أحد العناصر الأساسية في المساهمة في تشكيل ملامح المجتمع، وفي توجيه الرأي العام.. حتى إن مسؤولية الإعلام تتخطى وتتفوق على المؤسسات التربوية، نتيجة عوامل مختلفة؛ منها طبيعة المادة التي يقدمها ومناسبتها وتوقيتها ومرافقتها للمتلقي مع تطور وسائط التلقي.

الإعلام الذي أطلق عليه يوما «السلطة الرابعة» أصبح من خلال تشخيص الاحتياجات المجتمعية، وتداخله في المعالجات، يمثل السلطة الأولى والرابعة والخامسة. لقد حطم الإعلام الفضائي الكثير من القيود، وأباحت الصحافة الإلكترونية الحدود، وأسقطت الصحافة الاستقصائية أدوارا كانت منوطة بالشرطة ورجال الأمن والقضاء، فأحكمت وجودها في مراقبة الحكومة وأنشطتها المختلفة من أجل كشف العيوب والفساد وغيرها من الأمور.

خاض الإعلام كما يشير المؤلف معارك عدة في سبيل حريته. فقد ظهرت السلطة الإعلامية في إنجلترا في القرن السادس عشر، معتمدة على نظريات بأن المجتمع غير جدير بتحمل المسؤولية أو السلطة؛ كونها ملكا للحاكم أو السلطة التي يشكلها. وفي هذا الإطار، تعمل النظرية على الدفاع عن السلطة، بينما تقوم الحكومة بمراقبة ما يتم نشره. ويحظر على وسائل الإعلام نقد السلطة الحاكمة. وقد عبر هتلر عن رؤيته الأساسية للصحافة بقوله: «إنه ليس من عمل الصحافة أن تنشر على الناس اختلاف الآراء بين أعضاء الحكومة. لقد تخلصنا من مفهوم الحرية السياسية الذي يذهب إلى القول إن لكل فرد الحق في أن يقول ما يشاء». ورغم تأييد فرانكو رأي هتلر، فقد استطاعت وسائل الإعلام أن تمنح نفسها سلطة التحرر من الرقابة المسبقة وفق نظرية الحرية الإعلامية التي تقوم على حق الفرد في نشر ما يعتقد وحق الجمهور في معرفة الحقيقة.

وتتميز هذه النظرية بأن الإعلام وسيلة تراقب أصحاب النفوذ والقوة في المجتمع وممارساتهم، وتدعو إلى فتح المجال لتداول المعلومات بين الناس من دون قيود من خلال جمع هذه المعلومات ونشرها. وقد واجهت «نظرية الحرية الإعلامية» انتقادات كثيرة تحت مبرر أن وسائل الإعلام تعرض الأخلاق العامة للخطر تحت شعار الحرية، وتقحم نفسها في حياة الأفراد الخاصة دون وجه حق، وتبالغ في كثير من الحالات في سبيل الإثارة وتسويق المادة الإعلامية الرخيصة.

لقد تعرضت نظرية الحرية لكثير من الملاحظات والانتقادات، فالحرية مطلوبة، لكن شريطة أن تكون في إطار الذوق العام، فالحرية المطلقة تعني الفوضى، وهذا ما يسيء إلى المجتمع ويمزقه. فكان لا بد من ظهور نظرية جديدة في الساحة الإعلامية. وفعلا ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية نظرية «المسؤولية الاجتماعية» في الولايات المتحدة الأميركية، التي تقوم على ممارسة العملية الإعلامية بحرية قائمة على المسؤولية الاجتماعية. وظهرت القواعد والقوانين التي تجعل الرأي العام رقيبا على آداب المهنة، وذلك بعد أن استخدمت وسائل الإعلام في الإثارة والخوض في أخبار الجنس والجريمة، مما أدى إلى إساءة مفهوم الحرية. ويرى أصحاب هذه النظرية أن الحرية حق؛ وواجب ومسؤولية في الوقت نفسه.. ومن هنا، يجب أن تقبل وسائل الإعلام القيام بالتزامات من خلال وضع معايير مهنية للإعلام مثل: الصدقية، والموضوعية، والتوازن، والدقة. ونلاحظ أن هذه المعايير تفتقر إلى الحرية، ويجب على وسائل الإعلام في إطار قبولها هذه المعايير أن تتولى تنظيم أمورها ذاتيا في إطار القانون والمؤسسات القائمة، وأن تكون تعددية لتعكس تنوع الآراء والأفكار في المجتمع بإتاحة الفرصة للجميع من خلال النشر والعرض.

من أبرز سمات عصرنا هذا، هذه الفوضى التي أخذت تعم مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي زادت من مسائل الفساد الإداري في كل القطاعات، مما أدى إلى لجوء المؤسسات الدولية إلى سلاح العقل عبر نافذة الإعلام لكشف الكثير من بؤر الفساد والجريمة. ومن هنا، ازداد الاهتمام بالصحافة الاستقصائية التي ما زالت على هامش صحافتنا العربية.

من الواضح أن لكل نظام سياسي آيديولوجيا تمارس دورها في سبيل خدمته، وبعض هذه الآيديولوجيات ضمنية تتجسد في الثقافة التي تروج لها وسائل الإعلام وجميع الأنشطة التربوية والثقافية. فالإعلام ليس مجرد ناقل محايد؛ بل يؤثر ويتأثر لأجل الاستجابة للأحداث المهمة. من هنا، نلاحظ توثق العلاقة بين الفعل الثقافي والنشاط الإعلامي، فأضحى الإعلام الوعاء المناسب لحمل رسالة الثقافة. فالمنتج الثقافي بتنوع أنساقه وأطره الفكرية ومعطياته الواقعية والمحمولة، سيكون هدفه الأول والأخير المجتمع. أما الإعلام بوسائله وآلياته، فإنه يشكل القناة التي تغذي الإنسان والمجتمع بالنتاجات الثقافية من خلال عمليات الاتصال الجماهيري المستمرة بين مصدر الرسالة الثقافية والجمهور المتلقي.

مع تراجع سيطرة الآيديولوجيات الضيقة، أصبح من الضروري خوض معركة عالمية القيم الإنسانية، والنضال ضد التنميط المفقر والإجماع البليد وضد كل ما من شأنه إسكات التعبيرات المتعددة والمختلفة. ومن الملاحظ، كما يقول المؤلف، أن أجهزة الإعلام الدولي تعكس القيم والمثل السائدة في مجتمعاتها، وتقوم بدور الرقيب بالنسبة للإعلام في الدول النامية، وذلك بدراسة المداخل النفسية التي تصل الرسالة من خلالها وفي سياق منهجي يتفق مع الحالة المزاجية التي يعيشها الأفراد، مما يجعل تلك الرسائل تجمع وتقدم في قوالب عاطفية وجدانية تخاطب الشعور.

يرى المؤلف أن مقاومة الإعلام المضلل أصبحت سهلة مع دخول خدمة الإنترنت وسهولة التعامل بها لدى جميع المواطنين من دون حكر على شخص أو جهة أو مؤسسة واحدة. ولمواجهة هذه الظاهرة، أعلنت الولايات المتحدة في العراق، على سبيل المثال، حربها لإسكات «أبو ميسرة العراقي» حيث يتميز هذا الشخص بحسب تقرير نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» بالبراعة في الانتشار في كل مكان ولا أحد يعرف مكان وجوده في العالم، فهو يغير باستمرار حساباته الخاصة بالإنترنت مستفيدا من التكنولوجيا الجديدة لإصدار بياناته للعالم.

وحول صعوبة مواجهة هذه التنظيمات على الإنترنت، نقلت صحيفة «الشرق الأوسط» ذاتها عن مستشار شؤون «الإرهاب» إيفان كولمان قوله: «إنه لا مجال لوقف نشر هذه التقارير، وبوسع هؤلاء الأشخاص إرسال تسجيلات فيديو ذات نوعية متميزة إلى ملايين الناس من دون أن تكون قد تعرضت لحذف أو تعديل»، في إشارة إلى نجاح هذه الجهات في الصمود في حرب إلكترونية تدور رحاها على صفحات الإنترنت.

أما عن دور الإعلام في الحروب، فيرى المؤلف أن أهمية الإعلام تتعاظم في أوقت الأزمات والنزاعات المسلحة، وهنا يتمركز الدور الإنساني الفاعل في تذكير الجهات المعنية، سواء المتخاصمة أو الفعاليات الإنسانية المختصة بالمعالجات، مثل المنظمات الإنسانية الدولية الفاعلة، في اتخاذ قرارات من شأنها إيقاف المواجهات المسلحة لإنقاذ المدنيين وإخراجهم من ساحة الحرب. فأثناء وقوع الأزمات تشكل رسائل المراسلين الصحافيين (المراسل الحربي) تغذية للمجتمع والرأي العام في كل مكان بحقائق أساسية حول كيفية حماية أنفسهم وأسرهم، وتعطي وجها وصوتا للضحايا الأكثر تعرضا للمخاطر. فالناس لا يمكنهم أن يشاهدوا سوى البيئات المحيطة بهم، بينما وسائل الإعلام يكون بإمكانها أن توفر تقييما ضروريا للأزمة وتداعياتها، وكلما توافرت معلومات أدق من وسائل الإعلام، استطاعت المنظمات الإنسانية الوصول لأهدافها الحقيقية.

ساد مفهوم السلطة الرابعة في القرنين الماضيين، بكونه مفهوما رقابيا على السلطات الأخرى. لكن هذا المفهوم أخذ في التلاشي مع ظهور الإنترنت الذي أصبح القوة المسيطرة، مما أجبر الصحافة على إجراء تغييرات هيكلية للبقاء والمنافسة. ولعل أبرز العوارض التي أصابت الصحافة الإعلانية تناقص القراء. وقد أفرزت هذه المتغيرات ما يسمى «الصحافة المدنية» التي تحاول الوصول إلى الجمهور بشكل مكثف من خلال التقارير المختلفة والنزول إلى القارئ وتلبية طلبات الجمهور.

العصر الحالي والمستقبلي سوف تسيطر عليه السلطة الخامسة عبر المواقع الإلكترونية المختلفة مثل «فيس بوك» و«يوتيوب» والمدونات الشخصية وغيرها من أدوات التواصل. فالسلطة الخامسة التي اكتسبت شرعيتها من الواقع المعيش تتمثل في المواطنين. ورغم سلبيات مواقع التواصل الاجتماعي هذه في التخاطب بلغة هابطة، وقلة موثوقية الخبر، فإنها تطرح تحديا غير مسبوق أمام الصحافة بلغتها الخشبية البائدة والمرتهنة.

يفرد المؤلف الفصل الأخير من كتابه للصحافة الاستقصائية، فيرى أن المشكلات الاجتماعية التي أخذت مسارا تصاعديا في التعقيد والتأزم في حياة الفرد والمجتمع، كان من الطبيعي لدى المتخصصين البحث عن حلول منطقية تضمن للفرد حقوقه وتبصره بواجباته لتأكيد كيانه الإنساني في البناء والتنمية واعتماد الشفافية سلوكا لبناء الأوطان.

دفعت الحاجة منذ عقود قليلة للبحث عن نمط صحافي جديد أطلق عليه تسمية «الصحافة الاستقصائية»، تقوم على عمل بحثي بضوابط احترافية حيادية، تكشف عن الأخطاء وسبل تصحيحها، وتفسر قضايا اجتماعية معقدة، وتكشف الفساد والأعمال المخالفة للقانون، وسوء استخدام السلطة أو غير ذلك.

بشكل عام، الصحافة الاستقصائية إحدى الأجناس الصحافية الأكثر موضوعية وتوازنا في تفسير الواقع.. تقوم على توثيق المعلومات والحقائق بخطوات منهجية علمية لكشف المستور وخدمة المنفعة العامة، حتى أطلق عليها «صحافة المساءلة». لكن إنجازات الصحافة الاستقصائية الكبيرة تبيح لها أن تحول العرف المعمول به إلى قانون، ففي فترة وجيزة كشفت عن تهرب سبيرو أغنيو نائب الرئيس نيكسون من دفع الضرائب وحصوله على رشى مما أجبره على تقديم استقالته. كما أطاحت برئيس وزراء اليابان في فضيحة تقاضي رشى لشركة «لوكهيد». وفضيحة «برفيمو» وزير الخارجية البريطانية. وهدية الماس التي قدمها بوكاسا إلى الرئيس جيسكار ديستان. والفضيحة المالية للرئيس الإيطالي «جيوفاني ليوني» الذي انتهى الأمر باستقالته. وقضية تورط سكرتير المستشار الألماني «ويلي برانت» في حلقة جاسوسية تابعة لألمانيا الشرقية انتهت باستقالته. وقضية تعذيب سجناء أبو غريب في العراق عام 2005.. وغيرها الكثير.

يجب تجسيد المفهوم القائل إن «الصحافة صوت الناس» حين تتبع المساءلة أمام المسؤول المنحرف، وتكشف العيوب والفساد.. وهذا يقود إلى خلق وعي حقيقي وإشعار صاحب المسؤولية في حال انحرف ضميره عن أدائه الرقابي، بوجود من يراقبه.

«الإعلام.. صناعة العقول»

فاضل البدراني

«منتدى المعارف» - بيروت - 2012