كازانوفا.. كاتب ومترجم ومؤرخ من طراز رفيع

سيرة عاشق النساء بخط يده سعرها 7 ملايين يورو في فرنسا

TT

نعم.. كازانوفا الذي لا نعرف عنه غير عشقه للنساء هو أحد أهم مؤرخي القرن الثامن عشر، وهو أيضا كاتب من الطرز الرفيع، ومترجم ومؤرخ وباحث في الرياضيات.. اشترت فرنسا سيرته الذاتية مؤخرا بمبلغ قياسي بلغ 7 ملايين يورو. كازانوفا الكاتب الموسوعي، هو الذي تكشف عنه فرنسا اليوم بفخر واعتداد.

ما يذكره التاريخ عن «جياكومو كازانوفا» أنه كان أحد أكثر العشاق شهرة في زمانه، وكان مراوغا محتالا أوقع في شباكه المئات من النساء، حتى أصبح اسمه يطلق على كل بارع في فن اقتناص قلوب الجميلات. لكن ما يجهله الكثير هو أن المغامر الإيطالي كان أيضا كاتبا مدهشا ورحالة كبيرا، نجح عبر كتاباته في نقل لوحة شاملة ووافية عن المجتمع الأوروبي خلال القرن الثامن العشر. هذا ما كشف عنه آخر إنتاجاته الأدبية «مذكرات حياتي»، التي وقع عليه باسم «جاك كازانوفا دو سنغال». وهو مؤلف ضخم من عشرة أجزاء و3700 صفحة، معروض حاليا وحتى 19 من شهر فبراير (شباط) في المكتبة الوطنية فرانسوا ميتران، في باريس.

إدارة المكتبة الفرنسية أعلنت أنها حصلت على المخطوطة الأصلية بعد مفاوضات حثيثة دامت ثلاث سنوات مع الناشر الألماني «فريدريش بروكهاوس»، مقابل ما يفوق الـ7 ملايين يورو. وهو ما يجعل منها أغلى مقتنيات المكتبات الفرنسية والعالمية على الإطلاق. برونو راسين، مدير المكتبة الوطنية، كشف أيضا أن المبلغ بالكامل كان هبة من شركة فرنسية كبيرة فضلت التكتم على هويتها، وأن العملية تمت دون أي تردد نظرا للقيمة الأدبية والتاريخية لهذه التحفة. أما وزير الثقافة الفرنسي، فريدريك ميتران، فقد وصف حدث اقتناء المكتبة الوطنية للطبعة الأصلية من السيرة الذاتية لجيكومو كازانوفا بأنه «أهم إنجازات المكتبة الوطنية منذ إنشائها»، واصفا المخطوطة بأنها «أثمن قطعة حصلت عليها فرنسا على الإطلاق».

* كازانوفا.. الكاتب المدهش

* أولى مفاجآت هذا المعرض الذي خصص للمغامر الإيطالي هي اكتشاف شخصية «الكاتب» الذي لا يقل موهبة عن المشاهير كفولتير ولاكلو حسب رأي الكاتب الفرنسي فيليب سولرس الذي خصص له سيرة ذاتية بعنوان «كازانوفا الرائع». فجياكومو كازانوفا الذي ولد من عائلة فنانين كان محبا للأدب، لا يحل ببلد إلا ويزور أولا مكتباته ويمكث فيها طويلا. كان كثير الكتابة، كتب الكثير من الرسائل لعشيقاته، لكن معظمها أحرق خشية الفضائح التي قد تسببها لهن. لكنه كتب أيضا أربع مسرحيات وقصة، وأنجز عدة ترجمات لمؤلفات فولتير وهوميروس، وعدة أبحاث في التاريخ والرياضيات. لكن أكثر كتاباته قيمة قد تكون سيرته الذاتية التي وصفتها صحيفة «الإكسبريس» بأنها «أحسن عمل موسوعي عن القرن الثامن عشر». السيرة الذاتية التي استغرق العمل فيها تسع سنوات جاءت بخط يده كما تبدو معروضة في المكتبة.

ماري لور بريفو، المسؤولة عن قسم المخطوطات في المكتبة الوطنية، تشرح بأن كازانوفا بدأ الكتابة في 1789 بطلب من صديق ثري يدعى أمير «لين»، وكان قد بلغ آنذاك 64 عاما من عمره، وكان يكتب بمعدل ثلاث عشرة ساعة يوميا ليتوقف في 1792 لمدة 18 شهرا بسبب إصابته بكآبة شديدة، استمر بعدها في الكتابة حتى وفاته عام 1798، وكان يوقع في أسفل كل صفحة بأول حروف اسمه ما عدا الصفحة الأخيرة التي بدت شبه فارغة كتبت بيد ضعيفة، وهو ما يدل على أنه ظل يكتب حتى وافته المنية.

قيمة المذكرات هي أولا أدبية، فقد كُتبت بلغة فرنسية فصيحة. فعلى الرغم من أن كازانوفا كان إيطاليا ولم يتقن الفرنسية إلا عندما كبر فإنه كان مولعا بلغة موليير. مستواه العلمي العالي (حاصل على دكتوراه في القانون من جامعة بادو) وثقافته الواسعة والتحاقه بأوساط ماسونية ابتداء من 1758، ساعده كل ذلك على الوصول والتقرب من أوساط المثقفين والنبلاء، فتعرف على فولتير وجان جاك روسو، وأتقن الفرنسية على يد صديقه الكاتب كلود بوسبار دو كربيون. المفاجأة الثانية كانت الأسلوب السلس الجميل الذي استعمله المغامر الإيطالي والذي فجر فيه طاقاته الإبداعية في الكتابة بكثير من الإيحائية والسذاجة، متفاديا خدش الأحاسيس باستخدامه عبارات مجازية بعيدة عن الإباحية التي كان يستعملها بعض كتاب عصره. فهو مثلا يصف المرأة بالعبارات التالية «المرأة حديقة، جنة بها أنهار من الملذات، فيها (ورود) و(تفاح) وفواكه أحيانا (محرمة)، لكنها في كل الأحوال صالحة للقطف وللأكل». يضيف الباحث أنتوان دو باك الذي وقع عملا تلفزيونيا حول حياة كازانوفا بعنوان «كازانوفا مذكرات حياتي» على القناة الخامسة «المدهش في أسلوب كازانوفا أنه جاء متحررا من كل القيود. فهو تارة ساخر وتارة جريء، لكنه هزلي وسوداوي في الوقت نفسه، مما يسمح لنا بالإقرار بأن كازانوفا كاتب بل ومن الكبار».

السيرة الذاتية لكازانوفا تحمل أيضا قيمة تاريخية كبيرة بشهادة الكاتب «بليز سوندرار» الذي اعتبرها أول موسوعة شاملة عن القرن الثامن عشر». ويضيف فريدريك منفران المسؤول عن قسم الفلسفة والتاريخ التابع للمكتبة الوطنية فرانسوا ميتران «كازانوفا نجح في الكشف عن الجوانب الخفية التي تجاهلتها كتب التاريخ الأخرى عن عصر الأنوار. فهو لم يكن فقط عصر التطور وانتصار العقل والعلوم، بل تميز أيضا بنصيب من الغموض والظلمات. روايات المسافر الإيطالي عن حياة القصور والصالونات الخاصة نقلت شهادات حية عن استمرار ممارسات قديمة كالولع بالكيمياء والتنجيم وهيمنة رجال الدين في كل مكان، مخصصا مثلا عدة صفحات من سيرته الذاتية لمحاكم التنصير التي سجل وجودها بكثرة خلال رحلته لإسبانيا».

* كازانوفا الرحالة الكبير

* جزء من المعرض خصص أيضا لحياة الشخصية الإيطالية الأكثر شهرة في العالم. أحد أصدقائه المقربين وهو «أمير لين» الذي رافقه حتى آخر أيامه قال عنه «تخاله شديد الوسامة، لكن جاذبيته لن تجدها في تقاطيع وجهه، فهو شديد السمرة بشفتين غليظتين، كان طويل القامة عريض المنكبين، وكل سحره في عينيه اللتين يملؤهما تارة الذكاء والحس المرهف وتارة القوة والغموض». كتاباته تكشف أيضا عن عشقه الكبير للتنقل والسفر. فهو رحالة كبير قطع أكثر من 70 ألف كيلومتر من البندقية إلى لندن ومن مدريد إلى سان بطرسبرغ، مرورا بالقسطنطينية. كان يسافر لاكتشاف أراض ومجتمعات وتقاليد جديدة، ولكن أيضا لأنه كان رجل أعمال وجاسوسا كلف بعدة مهام سرية لدى بعض السفراء، وكان أيضا لاعب قمار من الطراز الأول. كان من عشاق مدينة باريس ولندن، لكن حبه لموطنه البندقية كان فوق كل شيء، عاش بعيدا عنها تسع عشرة سنة، وكانت عودته لمدينته الأصلية عام 1774 بحسب اعترافه في مذكراته أجمل يوم في حياته.

* العاشق والإنسان

* كازانوفا كان معروفا بعشقه الشديد للنساء وعلاقاته الغرامية العديدة التي وصلت حسب الاعترافات التي وردت في سيرته الذاتية إلى 122. يقول ماكسيم روفر صاحب كتاب «كازانوفا قصة هروبي من سجن البندقية» (دار نشر «اليا»): «العدد في حد ذاته ليس قياسيا، فرجال ممن عايشوا عصره عرفوا ربما عددا أكبر من النساء، لكن ما ميز كازانوفا هو حبه الصادق لهؤلاء النساء، فهو لا يرتبط بعلاقة إلا إذا خفق قلبه بقوة، ولا يتركهن إلا بعد عذاب شديد». أما شانتال توماس الكاتبة والباحثة المختصة في أدب القرن الثامن عشر، فتقول «كازانوفا كان محبا للحب، وشعور العاشق عنده كان مرتبطا بحبه الشديد للحياة. كان يحب الأكل الجيد والملابس الفاخرة وكل ملذات الحياة، ويبحث عن علاقات نسائية جديدة في كل بلدة يحط فيها، لكنه لا يريدها أن تدوم طويلا، فحبه للحرية والسفر كان يمنعه من الارتباط، وهو ما قد يفسر حادثة فراره من سجن (بلوم) بعد 14 شهرا من الحبس رغم إجراءات الحراسة الشديدة».

توقف كازانوفا في سيرته الذاتية عند ثلاث نساء منهن: «تيريز» وهي مغنية أوبرا معروفة من مدينة نابولي سحرته بصوتها وبقي على علاقة بها لمدة ثلاث سنوات. كما كتب في مذكراته مطولا عن الآنسة «هنريات» التي وصفها بـ«حب حياته»، وهي أرستقراطية غنية من الطبقة النبيلة يعتقد أنها «هنريات دو فرانس» إحدى قريبات الملك الفرنسي آنذاك. وقد جاء في الصفحة 509 ذكرها بالعبارات التالية «في إحدى حفلات الأوبرا، كانت مفاجأة كبيرة حينما رأيت هنريات، هذه الآنسة الرقيقة، تتجه صوب الخشبة لتطلب من عازف شاب منحها آلة الكمنجة. عندما شاهدتها تعزف على الآلة الموسيقية أحسست بأن دقات قلبي القوية ستوقعني جثة جامدة». تقول ليديا فلام، اخصائية علم نفس وصاحبة مؤلف «كازانوفا.. الرجل الذي كان يحب النساء بصدق» (دار نشر «لوبوان»): «من الظلم مقارنة دون جوان بكازانوفا، فالأول كان مبغضا للنساء، وهو عكس ما كان عليه كازانوفا، الذي كان يحترم النساء فعلا ويقول إنه (ولد ليسعدهن). فهو مثلا كان لا يقيم علاقة مع امرأة أجنبية لا يتحدث لغتها ولا يمكنه تبادل أطراف الحديث معها، وكان صديقا لهن قبل أن يكون عاشقا».

وقد يكون المخرج الإيطالي «فيليني» هو أحسن من اقترب من شخصية هذا المغامر الكبير في فيلمه «إل كازانوفا دو فريدريكو فيليني» (1976) حين صور «كازانوفا» على أنه إنسان معذب ضعيف غرق في الملذات وحياة الاستهتار هربا من الهواجس التي لازمته طيلة حياته.